30
Nov
2018
0

البحر المتوسط: عرب التأخر، وأوروبا الرأسمالية

تتكوّن المنظومة الحاكمة العربية من جديد في ظل الرأسمالية العالمية. تغيّر شكل ومضمون الرأسمالية العالمية في العقود الأخيرة. اتخذت أشكال الاستغلال، التي حللها ماركس وأتباعه في القرن التاسع عشر، أشكالاً جديدة من الاستغلال لصالح الرأسمال المالي وغزو المعلومات وتدجين المستغلين ووضعهم في وضع الضحية ومرتكب الجريمة في وقت واحد. لم يعد نضالهم ضد سلطات تتآمر مع رأس المال ضدهم. صار نضالهم ضد بعضهم بعض. الأرجح أن نضالهم ضد السلطات كان يحمل طابعاً طبقياً. نضالهم ضد بعضهم بعض يحمل طابعاً إثنياً وقومياً وعنصريا. لم يعد الخطر يأتي من المتسلطين الذين يحكمون، بل من المهاجرين على قلتهم، الذين يأتون ليعيشوا معنا في بلدنا كي يشاركونا لقمة العيش ويسلبونا وظائفنا! ليس النظام الرأسمالي مسؤولاً عن فقرنا، بل هذا الغريب الآتي إلينا والهارب من فقر أكبر في بلاده حيث يسيطر الرأسمال ذاته. الرأسمال المعولم الذي لا يعرف الحدود ولا يميّز بين مستغِلْ ومُستغَلْ.

عندما قامت الثورة العربية في عام 2011، وقبلها وبعدها، كان الشعار إسقاط النظام طلباً للحرية والعدالة والعيش الكريم. سرعان ما تشكلت ثورة مضادة هدفها الحفاظ على النظام القديم وخنق المقاومة أو المعارضة لدى الجماهير العربية، عن طريق الحرب والقمع المباشر، وعن طريق افتعال انقسامات دينية ومذهبية وقومية وإثنية. الحرب ضد الشعب اتخذت شكل الحرب على الإرهاب، تمارسه الدولة وهي تتهم غيرها به؛ والحرب على التطرف الديني، تمارسه الدولة وتحاربه؛ الحرب من أجل الحداثة في وجه التخلف الديني المفتعل. ومقصد الدولة بالحداثة هو النهب المنظّم، والإفقار، الخ…

ما جرى بعد مقتل الخاشقجي، الذي لم يكن مقاتلاً ثورياً معادياً للنظام، هو دليل على أن شعار أميركا أولاً هو في نفس الوقت شعار النظام العربي، خاصة السعودي، أولاً. معركة الحريات العربية، معركة العدالة، معركة الكرامة، معركة العيش الكريم المشرّف بالعمل المنتج، هي معركة مع هذا النظام العربي ومع النظام الرأسمالي العالمي في وقت واحد. اليمين لا اليسار هو الذي حرّك هذه المعركة. الثورة المضادة، لا ثورة الناس، هي التي حرّكت هذه المعركة.

تحسّن الاقتصاد الأميركي أيام ترامب، هكذا يقولون. لكن الأزمة باقية. تقلّب بورصة نيويورك وغيرها بين الارتفاع المفاجئ والهبوط المفاجئ دليل على هذه الأزمة. لا تستطيع البورصات تحمّل تقلباتها وثورات الميدان في وقت واحد. على الشعوب أن تسكت وتصمت وتنتظر الرأسمالية العالمية كي تحل أزمتها، إذا كان لهذه الأزمة حل. استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كسلاح دمار شامل لإفراغ العقول لا ينفع في خلق حقائق بديلة أو كاذبة، ولا في فرض حقيقة افتراضية غير ما هو موضوعي وحقيقي وواقعي.

نظام عالمي تغيّر كثيراً خلال القرن الأخير. يبقى الرأسمال محتفظاً بحقه في تكديس الأرباح؛ وهو يفعل ذلك بسرعة غير مسبوقة. يبقى الفقر السمة الأساسية للبشرية، وبسرعة غير مسبوقة. تضمر الطبقة الوسطى. الأغنياء السوبر يزدادون. الأجور تراوح مكانها منذ ثلاثة أو أربعة عقود. الجوع منتشر. مآسي الجوع تُعرض على التلفزيون من أجل وضع الملامة على الغير؛ الغير تلبّس الجريمة عن طيب خاطر. لا يستطيع إلا ذلك، إذ هو مأجور وتابع. لم يعد الاستغلال الاقتصادي (اقتطاع فائض القيمة) هو الشكل الوحيد للسيطرة والهيمنة. التضخّم وسيلة قديمة تضغط على ما لدى الفقراء لخفض قيمته، وترفع مستوى ما لدى أهل البلايين من ثروات. وسائل التواصل الاجتماعي سلاح دمار شامل؛ تفرّغ العقول؛ تجعّل الطبقات الدنيا مستكينة ومدجنة.

أصحاب البلايين لا يهمهم مصير الأرض. لا يعترفون بالتغيير المناخي والاحتباس الحراري. لا يرون في ذلك تهديداً للكرة الأرضية وسكانها. ما يهمهم هو ما يتكدس لديهم من ثروات وبليونات وتريليونات. الدولة أينما كانت لا تهمهم. كانت تتطوّر في كل الأرض لتصبح إطاراً ناظماً لكل مجتمع. عن طريق الخصخصة والنهب المنظّم، صارت الدولة، كل دولة، وسيلة للجريمة المنظّمة. اخترع النظام العالمي جرائم منظمة من تبيض العملة، الى تهريب الرساميل الى ملاذات آمنة، الى أزمة المهاجرين على الأرض وفي عرض البحر، الى أزمة الارهابيين والتكفيريين في أنحاء العالم. هناك حرب عالمية ضد الإرهاب. لكن لا حرب عالمية ضد الجريمة المنظمة التي يشرف عليها أرباب النظام.

يحتاج النظام العالمي الى كبش محرقة. ليس أسهل من استخدام العرب لهذه المهمة. كأنهم وحدهم هم الذين ابتلوا بالإرهاب وبالأقليات المطالبة بحقوق يتم اختراعها كل يوم. هم وحدهم يحتضنون الإرهاب. يخيفون العالم. متخلفون، دينهم يحمل كل عناصر الإرهاب، ورفض الحداثة، وعرقلة التقدم. هم وحدهم مشكلة هذا العالم. الذين يُعاقبون مالياً هم عرب في معظمهم. المهاجرون في بحرهم. الداعشيون في أرضهم. دولهم لا تستوفي شروط منظمات حقوق الإنسان. يحتقرون المرأة. يقتلون الصحافيين ويعتقلون الناس. وحدهم لديهم قابلية لكل ما يتناقض مع شروط الحياة المقبولة في الغرب. ثقافتهم ملعونة. عقولهم مركبة على غير ما يُراد. يريدون أشياء لا يسمح العالم بها. فلسطين تبقى عنواناً على ذلك.

البحر الأبيض المتوسط مركز العالم. شماله أوروبي ينعم بشروط تستوفي معالم العصر الحديث. جنوبه عربي إسلامي، فيه كل مصائب الأرض. لا تمر نشرة أخبار عالمية إلا وهذا الأمر في أولوية العناوين. يكفي أن يرى المشاهد في أية بقعة من بقاع الأرض تقريراً عما يجري في المتوسط ليرى التعارض. ما يعنيه البحر الأبيض المتوسط في نزاعات العالم الراهنة هو شيء واحد: العرب، العروبة، وماذا نفعل بهم. أصبح المتوسط الأوروبي يضيق بالعرب والمسلمين. ولا ندري أيهما أخطر. نلحد فلا يقبل كفرنا. ونسلم فلا يقبل ديننا. لا نحن هذا ولا نحن ذاك. يُفترض بنا أن نكون هذا وذاك في وقت واحد. إسلامنا علماني في الأساس؛ عروبتنا لم تكن لتساوي شيئاً لولا الإسلام. نحن بين المطرقة والسندان. لا أحد يصدق علمانيتنا وأمجادنا. ولا أحد من بني جلدتنا يصدق إسلامنا. الأسوأ أننا لا نستطيع التفاهم مع الغرب. لا نستطيع التفاهم مع الغرب لفائدة هذه الشعوب، بغض النظر عن قوميتها وعن دينها. لا يُقبل منها ما قدمت النخب. أتريدوننا إسلاميين أو عروبيين؟ الجواب: لا شيء. نحن جنوب المتوسط وحسب. نحن ممر المهاجرين السود من أفريقيا. كنا قبلهم مهاجرين. الآن يأتي الأسود الداكن اللون. لكنه يأتي وفي نفسه مرارة ضد العرب. العرب هم الآخر بينه وبين المرور.

يدور العالم حول المتوسط. يجب أن يكون هنا أو هناك. نظريات الاستعمار، والتنمية وأسلوب الإنتاج الكولونيالي. وجميع ما قرّبنا من هذا الغرب الأوروبي لم ينفع. نريد أن نكون جزءاً منهم. كثيرون منا تعلموا على أيديهم. واحد منهم هو كاتب هذه الأسطر. يرفضون ذلك. هو الاستبداد جوهر الثقافة العربية (أو الإسلامية، وسيان ما بينهما). أما عندما يجيء برلسكوني مقبلاً أيدي القذافي، فهذه حادثة عابرة. ليست هذه ثقافة أوروبا. برلسكوني خارج الثقافة الغربية. أما القذافي فهو في صلب الثقافة الإسلامية والعربية؛ ولا ندري أيهما نحن. وعندما يقول ترامب أميركا أولاً، تتساءل وسائل الإعلام الأميركية عن ذلك. وهل معنى كلام ترامب أميركا أولاً أو السعودية أولاً. لكنهم لا يتساءلون عن معنى السعودية بالنسبة لشعوبنا. المسألة الكبرى لديهم هي أن المسؤول الأول في السعودية أمر بقتل خاشقجي غيلة. استدراج مع قتل شنيع هو معنى كلمة غيلة. اهتمامهم كبير بالقضية. يحق لهم ذلك. ليس معنى ذلك أننا نتمنى ان يكون هناك اهتمام بقضايانا العربية في سوريا واليمن والعراق والبحرين وتونس والجزائر والمغرب، والأهم من كل ذلك في مصر.

إذا كان اهتمامهم بحقوق الإنسان جدياً، فنحن أكثر جدية. نحن من يكتوي بنار تجاوز حقوق الإنسان. لم نتجاوز الأمر كي نكون انتهازيين، وفي أحيان كثيرة كنا نضطر للانتهازية كي نهرب بجلدنا. أما هم فقد غضّوا النظر عقوداً طويلة. لهم الحق فيما يقولون. نشجعهم على ذلك. لكن الضحية في شوارعنا المرورية ومقاهينا الساكنة ومجامعنا المكبوتة أحق منهم. هم لا يعرفون ذلك. كيف لهم أن يعرفوا؟ نحن لا نقول لهم. لا نجرؤ أن نقول لهم. ولو قلنا ما كنا نعرف يجري تصريفه في حساب حقوق الإنسان أو في حساب مخابراتهم.

نحن معجبون بالغرب. تلقينا تعليمنا في الغرب. لنا أصدقاء غربيون. لا نقرأ إلا الكتب التي يصدرها الغرب. نعتبر الكتب الى ألّفها غربيون، وفيها هذه السلسلة الطويلة من المراجع لكل فصل، هي ما يشبه الكتاب المقدّس عندنا. ثقافتنا غربية. نحن نخب هذه الأمة. ثقافة هذه الأمة عالمية، وفي النهاية غربية. لا يبقى للجمهور إلا هذا الدين، وقد أصبح الدين جزءاً صغيراً من حياتهم اليومية. لكنه لا يُمحى. المسألة تتعلّق بالهوية.

الهوية لا تتعلّق بمن هم أغبياء. يريدون أن يقولوا عن أنفسهم ما لا يقال، أو ما يقارب الغباء والإنتماء الأعمى. الهوية فعل ذكي يقاوم به من لم تسعفه سبل المقاومة. تريدوننا على صورتكم. نحن مستعدون، فهل أنتم على استعداد لقبول ذلك؟ ليست المسألة رفض الشرق للغرب، بل هي رفض الغرب للشرق. استعلاء الغرب لا يترك مجالاً لأهل الشرق إلا أن يكونوا موضوعاً للأنثروبولجيا. شعوب قديمة، مستمدة من مادة قديمة تستحق الدرس؛ لكنها لا تستطيع أن تصوّت في صندوق الديمقراطية.

الغرب شرق، لكن الشرق لم يكن في تاريخه مختصراً في الغرب. يعرف الغرب أنه يبقى محصوراً في جغرافيته وفي أفقه المعرفي. لا بدّ لنا من تعلّم ثقافة الغرب وعلم الغرب. علينا أن نتذكر أن تعلّم الكوزمولوجيا شبيه بالتهرّب من تعلم معرفة الشعب المجاور. لم تستطع كوزمولوجيا النجوم من غاليلي الى كوبرنيكوس التهرب من ضرورة التعرّف الى هذا القريب الغريب جداً. هذا القريب جداً لم يسع لكي يكون بعيداً. سعى لكي يكون قريباً. تجربة الأندلس تشهد على ذلك.
أخطأ العرب عندما عادوا في النصف الأول من القرن العشرين، مع اكتشاف النفط في الجزيرة العربية عام 1932، الى فكرة التمايز عن العالم. تخلوا عن الخروج الى العالم والاندماج في العالم. كانت القومية العربية أكثر انفتاحاً من الإسلام السياسي. الصراع بينهما انتهى الى انتصار فكرة الإسلام السياسي على يد السادات، والسعودية كانت منتظرة على الأبواب لتقديم العدة الإيديولوجية.وانخرط الأخوان المسلمون في مصر في الأفكار الوهابية حتى صار صعباً التمييز بينهما. شعار الأخوان المسلمين “الإسلام هو الحل” يتناسب مع خط الوهابية للقراءة الحرفية للنص المقدس والأحاديث النبوية. الصراع الراهن بينهما هو على السلطة وعلى الإسلام، لا علي أي شيء آخر. هم من طينة واحدة. مع سيطرتهما على العقل العربي، سيطرةً مدعومة بمال النفط، انتشر الأخوان المسلمون-الوهابية. وصار المزاج العام إسلامياً دينياً. أُغلق العقل العربي. تراجع الوعي. انعزل العرب عن العالم. استسلموا لمشيئة الابتعاد عن مناقشات قضاياهم. الاستبداد هو وليد هذه الحالة. طبيعي أن يهلل الغرب لهذا الاستبداد، إذ هو يؤمّن الاستقرار في حين يتدفق النفط. لم يدرك العرب أنهم يحفرون قبرهم يأيديهم. نشأت الأصولية الإسلامية نتيجة أزمة في الرأسمالية العالمية، لكن ظروفها المحلية هي هذا التحالف العميق بين أطراف الدين السياسي والنفط. تحالف جعل الدين مصدراً للتطرف والعنف. العنف يعم العالم. تمارسه الدول ومعارضوها. يسمونه إرهاباً. هو الابن غير الشرعي لأزمة العالم. استخدم فكراً غبياً متخلفاً، تبنى العنف وأشكالاً جديدة من الممارسة الدينية والعملية.خلق ما يشبه ديناً جديداً. للإرهاب أرض خصبة هي الدين السياسي النفطي التي تفرعت منها فروع القاعدة وداعش وأخواتهما. لم تكن الأنظمة الأخرى، مدعية العلمانية، مختلفة في بنيتها الفكرية. تخلت عن القومية العربية، أو لم تمارسها أصلاً. وحاولت تلبيس ممارستها شيئاً غير الدين السياسي، لكنها ساهمت كما الدول النفطية في انتشار تطرف الدين السياسي، عن قصد أو غير قصد.

المهم أن كلا الاتجاهين قاد المجتمعات العربية والإسلامية الى العزلة والى انغلاق العقل وانهيار التعليم وتراجع الإنتاج وتكاثر الاستهلاك. نيوليبرالية واحدة في جميع الأقطار العربية. ميّزت بعضها عن بعض في الادعاء الايديولوجي، لكنها تبنت منذ الثمانينات سياسة اقتصادية-اجتماعية فرضتها النيوليبرالية. مارسوا جميعاً الاستبداد مع أسوأ وأشنع أنواع التعذيب ومصادرة أموال الناس. ليس في أي منها حكم حسب القانون، بل عشوائية الحاكم وأجهزة المخابرات والتعذيب التي تعمل معه. خافوا من شعوبهم، فأنشأوا جيوشاً موازية لحمايتهم الشخصية، سموا بعضها حرساً جمهورياُ أو ملكياً. الاقتصاد النيوليبرالي القائم على النهب يلزمه جيش موازٍ يتمتع بامتيازات لا يطالها الجيش الاعتيادي الرسمي.

في غياب مركزية الدولة يتراجع الحكم حسب القانون. تنتعش العشوائية: يمارسها الحاكم كما يمارسها أتباعه. أرادوا العزلة الثقافية فمارسوا العزلة الفكرية والسياسية. ضيقوا الخناق على الناس. ثورة 2011 التي عمّت العالم العربي أرادت إسقاط النظام لبناء دولة عادية. دولة من العالم تسير حسب دساتير وقوانين تؤخذ بالاعتبار عند الممارسة. الثورة المضادة تصرّ على غياب الدولة. ليست الجماهير فيها مواطنين مشاركين في السياسة والقرار، بل رعايا يطيعون ويستسلمون. أنظمة أبوية في الحياة السياسية. أنظمة تلغي السياسة لصالح الأمر. السياسة بالأمر ليست سياسية. السياسة بالتفاوض بين مختلف القوى الاجتماعية للوصول الى تسويات ينتج عنها قرارات هي السياسة في هذا العصر. فقد العرب معاصرتهم نتيجة عزلتهم. اختلفت عنهم أبوية نظام عبد الناصر في أنها أعطت أولوية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية والدبلوماسية.

الغرب الداهم الآن هو أوروبا، والشرق الداهم هو شاطئ المتوسط الجنوبي. ليس الانقسام شرقياً غربياً. هو شمالي جنوبي. يشكل جنوبي المتوسط ما يشبه الضاحية (المتأخر) للشمال (المتقدم). يظهر كل طرف خوفاً من الآخر، خاصة في الشمال. لم يكن المتوسط يوماً مقفلاً. منذ قرون، عندما تأخر الجنوب لجأ الى القرصنة (غير الشرعية). الشمال لديه دول شرعية؛ ولا يحتاج الى قرصنة، بل الى استعمار. لم يعد الأمر ممكناً كما في القرن الخامس عشر عندما كان الزحف المسيحي ضد الدول الايبيرية في غرب المتوسط. وعندما كان الأتراك السلاجقة ثم العثمانيون يهاجمون الأناضول في الطرف الشرقي من المتوسط، كان الفريق الأكثر تأخراً هو الذي يهجم الى أن قضى المسلمون على بيزنطة الأكثر تقدماً، ثم قضى مسيحيو اسبانيا على دول مسلميها الأكثر تقدماً.

المشاكل المطروحة في الشمال هي غيرها في الجنوب. في الشمال مشاكل التقدم، وفي الجنوب مشاكل التأخر. في الشمال دول وشرعيات. في الجنوب دول فاشلة وفوضى تنتشر. لم يعد ممكناً أن يتغلب التأخر على التقدم كما حدث في القرن الخامس عشر. الأمر يتطلّب فهماً مغايراً في الجنوب لأمورها، ومواجهة المشاكل بعين الواقع لا بعين دينية أو ثقافية. الفروق الثقافية بين التقدم والتأخر تردم بالسياسة. هذا يعني أن يواجه الجنوب أموره بعين سياسية وأن يغيّر أوضاعه على هذا الأساس. يتطلب الامر بناء من نوع آخر. ربما كان الطريق الوحيد هو بناء الدول في كل قطر متوسطي عربي، وإلا فإن العرب لن يجلسوا كأنداد الى طاولة المفاوضات. بنى الاتحاد الأوروبي عدة اتفاقات شراكة مع دول الجنوب المتوسطي. لكن كان هناك تأخر يحكم تصرفات الجنوب، ومن ينوب عنه من عصابات تسمي نفسها دولاً. المطلوب بناء الدول ذات الشرعية، ذات الهيبة، ذات القدرة على أخذ قرارات التنمية، ذات الجرأة على الأخذ بثقافة الغرب من أجل اللحاق به، أو السير على طريق اللحاق بالشمال. التأخر يمكن القضاء عليه في سنوات معدودة. دول أسيا الشرقية خرجت من التأخر الى التقدم في أقل من خمسة عشر عاماً. لقد تدخلت أوروبا بعد ثورة 2011، وما زالت. الكثيرون يقولون ان ذلك امتداد للامبريالية. سنبقى نتحدث عن المؤامرات الامبريالية لتبرير التأخر. وهذا صنع أيدينا. لا مبرر للامبريالية؛ والأصح أنه لا مبرر للتأخر بعد انقضاء أكثر من نصف قرن على الاستقلال.