10
Nov
2019
1

الحرية ١٨ – استبداد الثقافة

استبداد الثقافة هو كاستبداد الغريزة في الانسان. هو يسكن ثقافته، أو أن ثقافته تسكنه. إذا هاجر يحملها معه. إذا تركها يحن إليها. يعرف أنه أحد منتجاتها. إرادته على الخروج منها ضئيلة وغير مستحبة. الإنسانية ليست الخروج من ثقافتنا بل قبول الثقافات الأخرى والتعايش معها  والتلاؤم معها كأنها ثقافتنا. لا نستطيع العيش في أرض ثقافة أخرى دون أن نتبناها، بالكامل أو بغير ذلك، مع الاحتفاظ ببعض من ثقافتنا. الشخص المتعدد الثقافات هو كالشخص المتعدد اللغات، أو المتعدد الهوايات، أو المتعدد حقول المعرفة. هو شخص كوزموبوليتي يستحق الإعجاب. التسامح هو أن تترك، أينما كنت، جزءاً من نفسك لثقافات أخرى بعد تبنيها. الذي يعيش في ثقافة واحدة، يغلق على نفسه. تنغلق الثقافة على نفسها عندما لا تعرف إلا ذاتها. من حسنات وسائل الإعلام والاتصال الاجتماعي والسفر والرحلات والسياحة أن الثقافات تتعرف على بعضها، تتعايش، تمتنع عن الانغلاق على نفسها.

الثقافة عامل مهم في تشكّل الهوية. كيف يحدد الواحد منا نفسه. احتكاك الثقافات، تداخل بعضها في بعض، يسهّل على المرء أن يحدد نفسه بالآخر، بما هو ايجابي بالآخر، لا بالتضاد وربما العداء مع الآخر. التاريخ البشري كله هو تاريخ اتصال بين الثقافات. اتصالها ممكن، صراعها مستحيل. الصراعات في العالم لم تكن ولن تكون إلا لأسباب سياسية وعسكرية واقتصادية، الخ… ما من حرب تنشب لأسباب ثقافية. وعندما تحشر الثقافة في الحرب، في أسبابها، يكون ذلك مفتعلاً. لم أجد صعوبة في العيش في ثقافة أخرى لمدة سبع سنوات. لم يكن التأقلم أو التناسب مع تلك الثقافة صعباً. وعندما عدت لم أجد صعوبة في إعادة التأقلم مع ثقافتي العربية اللبنانية. الأرجح انني لم أكن بحاجة الى التأقلم في كل من الحالتين. كنت مندمجاً منذ اللحظة الأولى في هذه الثقافة وتلك. عروبتي وانتمائي للبنان مسألة سياسية لا علاقة لها بالثقافة. أقرأ تاريخ كل الأمم بشغف. بالطبع أجيد الدبكة التي لم أتعلمها في قريتي، وأطرب كلما سمعت الطبل والزمور. يبدو أن هناك ما يشبه الجينات الثقافية لكنها لم تتعارض في أية لحظة من اللحظات مع ما أصبح جينات الثقافة الأخرى في نفسي.

لأسباب سياسية يحاول أهل بلادنا التأكد مع حسن التلاؤم مع الثقافة المحلية. وذلك جزء من التعبئة الشاملة التي مارستها أنظمة الاستبداد التي حكمت بلادنا بعد الاستقلال. استخدمت الثقافة لدوافع سياسية. سعت الى انغلاق الثقافة على نفسها. أفسدت بذلك الايديولوجيا السائدة ونظم التعليم. سعت الى هندسة المجتمع وإعادة تشكيله ليتناسب مع التركيبة السياسية الحاكمة. حكمت على بلادنا بالتأخّر. يستحيل التقدم دون التعرّف على الثقافات الأخرى. ولا خوف من أن نخسر ثقافتنا. لا خوف على ذوبان ثقافتنا. إذا حصل ذلك معناه أنها لا تستحق البقاء. الحرص على الذاكرة الجماعية افتعال سياسي إرادي مشبوه. الذاكرة الجماعية تتصل بالعلاقة مع التاريخ. الأصولية هي أن نعيش في الماضي ونرفض الحاضر والمستقبل. الأصولية عجز عن صنع المستقبل. نحتفظ بالذاكرة التاريخية عندما يتحوّل مجتمعنا ويزداد ثقة بنفسه، فيصير غير خائف من طغيان ثقافة الآخرين. عجيب أن هناك من يصر على العيش في الماضي بينما هو يشاهد البرامج التلفزيونية العالمية لبضع ساعات في النهار، ويستهلك ما يحتاجه مستورداً من الخارج.

طرائق العيش تتكيّف مع ما هو مستورد من آلات وكتب وأفكار وأساليب اللباس وغير ذلك. تدخل إلينا الحداثة تلقائياً؛ شئنا أم أبينا. يحدث الانفصام عندما نعتقد أننا نعيش حسب ثقافتنا. الثابت منها أو الموروث والمتغيّر، بينما واقعنا الثقافي غير ذلك. واقع هو في غالبه مستورد ، أو ما نتبناه تحت وطأة التقليد. الطبيعي أن يقلد الناس أهل زمانهم. ليس في الثقافة ما هو ثابت (لا يتغيّر) إلا أوهامنا حول الثبات. هي الايديولوجيا التي يتآكل وعينا تحت وطأتها. ايديولوجيا الزيف والتكاذب والإنكار. حتى تكاد تكون ثابتة. تتغيّر معاني ألفاظها وتتعدّل بفعل التجارب المستجدة. القواميس تحفظ معاني الألفاظ ولا تثبتها. تستمد معاني جديدة تتراكم حول المعاني القديمة للكلمات.

وهم الثبات الثقافي نوع من الاستبداد؛ يمارسه المجتمع على نفسه، أو يمارسه حكم استبداد سياسي. هو في واقع الأمر عجز عن مواكبة التطوّر نفسياً وفكرياً. هو نابع من اعتبار كل ثقافة جوهراً ثابتاً لا يتغيّر، وإن لكل ثقافة بداية تأسيسية تنسب لها الأمجاد، أو تفبرك لها أمجاد تعكس التمنيات في الحاضر أكثر مما تعكس وقائع الماضي. الأسوأ أنه يراد العيش كما عاش معاصرو الأمجاد، علنا نكتسب ما يشبه أمجادهم. من دون البحث التاريخي يصير الماضي جملة افتعالات كاذبة، ويصير مطلب العيش على مثالهم نوعاً من الاستبداد. يُقال للناس، باختصار، أنكم يجب أن تعيشوا حسب المثال المعطى، وهو مُعطى فقط في أدمغة أصحابه. يفرض أمثال على الناس اجتماعياً كما يفرض المثال السياسي على يد الطغاة والحكام بالقوة. المسألة فكرية وتطبيقية. بدأت بتفكير تعسفي وتتحوّل الى تطبيق تعسفي. ممارسات تعلّق العقل والمجتمع. تُغلق الوعي الاجتماعي وتنتهي الى اعتبار الناس أدوات للتاريخ الذي يخترعونه دون أن يصنعونه.

اذا كان الاستبداد السياسي رأياً، أو منظومة فكرية، يفرضها الطاغية وطغمة حاكمة، فإن الاستبداد الاجتماعي منظومة فكرية تفرضها نخب اجتماعية. غالباً ما تتعاون هذه النخب مع الحكام وتحالفهم ضد المجتمع.

الحرية هي ما ينبع من النفس. ليس عليها رقيب إلا الضمير الفردي. يكون حراً عندما يكون أفراده أحراراً. ليست الحرية حرية التعبير عن الرأي وحسب: هي حرية الرأي الذي لا يأتي إلينا من الخارج بل ينبع من الداخل.  الحريات السياسية تبقى سطحاً. مظهراً كاذباً إذ لم يكن الناس أحراراً: يفكرون، يشككون، يتساءلون، يتوصلون الى اقتناعات  أو يكفرون مما يُعطى لهم. كل حسب ضميره وتحليله الشخصي. استخفاف بالناس أن نعتبر أنهم لا يستطيعون ذلك، وأن الأمر يجب أن يقتصر على نخبة. تُسمى النخبة الثقافية أو حتى السياسية. تكون ممارسة ذلك بالنقاش والحوار في مجتمع مفتوح وإلا تبقى الحرية مكبوتة. نحن نعيش في بلاد الثورات (العربية). الحرية تنفجر أحياناً وهي التي تصنع الثورات. من شدة الكبت والقهر تحدث بشكل انفجاري. نُسمي انفجارها ثورة لا لأن لها أهداف أو برامج بل لأنها تحدث. وهي تحدث لأن حياة الكبت والقهر والاستبداد، بجميع أنواعها، تصير حياة لا تطاق.

تتأتى الحرية لا من التحرر من نير الحكم الأجنبي وحده، ولا من اسقاط الطاغية وحده، بل من المجتمع ومن التربية، لا على الحفظ والتكرار، بل التربية على الذاكرة والتساؤل والشك والمعرفة. تتأتى المعرفة لا من اليقين (خاصة اليقين الموروث) بل من الشك بالحقائق المعطاة للوصول الى حقائق أخرى تنسجم مع التجربة وتقترب من الحقيقة. المعرفة تراكم أجوبة على أسألة. تصير فيها الأجوبة أسئلة للبحث ولاستيلاد أجوبة جديدة، وهكذا دواليك. هي تجربة الولوج الى المجهول، لتحويل المجهول الى معلوم. ذلك لا يحدث بالحفظ والتكرار بل بالتمرّد على ما يراد حفظه وتكراره. المعرفة تمرّد على ما هو معطى وموروث. تمرّد على المجتمع وليس فقط على النظام السياسي.

الأصولية نوع من أنواع التصلّب والتخثر الثقافيين، بجعل الثقافة ماضِ يجب أن يحتذى وتاريخ يزوّر لصالح حاضر يمارس أصحابه العجز والهزيمة.

مدارسنا تعلّم ثقافتنا ولغتنا وكأن كلاً منهما غريبتان على مجتمعنا. نعاني انفصاماً في الشخصية الجماعية. نمارس ثقافة حديثة عربية مدجنة ونحتفظ في أذهاننا بأوهام عن ثقافة ورثناها لا تفيدنا شيئاً. نترك ما يفيد الى ما لا يفيد. نكذب على أنفسنا بالحديث عن أوهام الثقافة كما يكذب الطاغية المستبد بالحديث عن نفسه ومخابراته. لا نستطيع خدمة ثقافتنا إلا بالتخلي عن جزء منها مهما كبر حجمه. ثقافة الغرب تلزمنا. نبقى نمارسها دون أن نفهمها. علينا الانغماس فيها. الخوف على ثقافتنا غير مبرر. يبقى فيها ما يستحق البقاء، أي ما يمكن استخدامه في الحياة اليومية، وأدوات التفكير التي تصلح لعصرنا، أي التي تصلح لنا في انخراطنا في العالم. عندها نخرج الى العالم ونحن واثقين من أنفسنا دون انفصام وشعور بالدونية.

حكم الطاغية فاعل في السياسة. عندنا الكثير من الطغاة. طغيان الثقافة الموروثة نوع من الاستبداد الذي نمارسه على أنفسنا؛ يمارسه المجتمع على نفسه. نمارس حداثة ليست من صنعنا. تصير الحداثة عندنا أصيلة عندما نصنعها نحن ولا نبقى مستوردين لها. لا نستطيع ولا يجوز تعريف هويتنا بالثقافة. ما هو مطلوب هو صنع هويتنا مع اجراء ما يلزم من التغيير في ثقافتنا. نصنع نحن ذلك أو يصنعه لنا الغير. يخرج الاستعمار من الباب ويعود من الشباك.

الأصولية الدينية هي نوع من الاستبداد. تكبت الحرية لدينا. تريدنا أن لا نتحرر من أنفسنا المعتبر موروثة. لا نستطيع فهم ثقافتنا إلا بالوقوف خارجها. عند ذلك نستطيع النقد، والنقد تقويم لا تجريح. ما من أمة إلا ومارست حيال نفسها نقداً ذاتياً. ذلك لا يتأتى من جهل هذه الثقافة، أو تجاهلها، بل من معرفتها معرفة نقدية؛ معرفة تاريخها وتطورها. تحدث ثقافتنا بين أيدينا. ونحن نظن اننا نحافظ عليها. المجتمع المغلق بدعة تلاءم الطغاة، ومهمة يكملها مجتمع الأصولية. لا بد من التحرر الاجتماعي والثقافي، ولا يقل الأمر أهمية عن التمرد السياسي.