13
Jul
2018
0

الدولة الهوية

تُعرّف الدولة بحدودها. تُرسم الحدود بالغلبة أو بقرار تتخذه نخبها. والأرجح أن الدولة كيان مُعطى وأن النخب عليها أن تتعايش مع هذا الأمر. يحدد الدستور والقانون اللذان ينتظم في إطارهما المجتمع، بغض النظر عن اعتبارات الحق والعدل.

مع مرور الزمن تصير الدولة كياناً قائماً بذاته، ولذاته، وفي ذاته. معنى الأمر أن الدولة شرط لما عداها ولا شرط عليها. لا يكون ذلك إلا بأن تصير الدولة هي هوية المواطن، وأن تتقدم عنده هذه الهوية على كل الهويات الأخرى القومية والدينية والطائفية والإثنية والمحلية. عند ذلك يصير المواطن كياناً قائماً بذاته ولذاته وفي ذاته. تصير الدولة منغرزة في ضميره ويصير هو المكوّن الوحيد للدولة. معنى ذلك التخلي عن كل الانتماءات الأولية كالطائفية والعشائرية والعائلية والإثنية. لا تلغي الدولة الطوائف والعشائر والتشكيلات العائلية. ولكنها تضع الدين والقومية خارج السياسية.

قبل أن تنشأ الدولة تتحدد الحقوق بالغلبة وبالتراتبية الاجتماعية. زعماء العشائر والمناطق هم الذين يحكمون بين الناس ويحمونهم ويحصّلون ما يستحقون أو لا يستحقون. مع قيام الدولة يلعب هذا الدور القانون والدستور. القانون يضعه الناس بالسياسة، أي بالعلاقات فيما بينهم، عن طريق المجلس النيابي أو غيره (لجنة مركزية للحزب في الصين). كذلك الدستور. الدستور مرجعية القانون، وكلاهما مرجعيته السياسة، أي الناس الأفراد في علاقاتهم. آلية عمل المرجعية هي الحوار والنقاش في مجتمع مفتوح سواء كان ديمقراطياً أو غير ذلك. تقود الديمقراطية الى الطغيان إذا لم تكن مرجعيتها السياسة: الناس كما هم. أما كيف يجب أن يكونوا فهذا تطوّر يحددونه هم.

مشكلة مصطلح الأمة “العربية والإسلامية” هي أنه مفهوم يضع العلاقة فوق الناس. كيان غيبي ميتافيزيقي يتجلى بين الحين والآخر في الناس، ولا يصنعونه هم. يصير الناس عن طريق هذا المفهوم أدوات لسلطة فوقية ميتافيزيقية سماوية أو ما يمثلها على الأرض. الأمة السياسية هي التي يشكلها الناس بالسياسة في علاقاتهم. علاقة الأمة الغيبية بالناس هي العلاقة المنبّتة (مقطوعة الجذور). لا تستطيع أن تبني على التاريخ لأنها لا تعترف به. تنكر تراكم التجارب لأنها لا تعترف بمنهجية الخطأ والصواب، وإزالة الخطأ تراكمياً وتطورياً.

أكثر ما يفضح مفهوم الأمة الغيبي هو ظهور النيوليبرالية وتعايش الإثنين معاً. كلاهما يستهين بشأن الدولة ومعناها ودورها في المجتمع. الليبرالية الجديدة تُعلي شأن الرأسمال المالي وتجعله قوة غيبية، فوق الناس، والمجتمع أداة له. تحويل المجتمع الى أدوات لشيء فوقهم، لشيء لا يفهمونه ولا يستطيعون فهمه هو المشترك بينهما. المال أيضاً تحوّل من وسيلة تبادل الى سلطة. وسيلة عملية الاستثمار: مال يصنع مالاً. الدورة التي بينهما والتي هي الناس والمجتمع لا قيمة لها. ليس المجتمع هو الهدف. المال بالكمية المتعاظمة هو الهدف.

المُعطى التاريخي هو الدول. البشرية على الأرض مقسمة الى دول. دولنا ليست حصيلة مؤامرة فقط، سواء كانت سايكس بيكو أو غيرها، بل كل ما فيها مُعطى تاريخي أيضاً. لا نستطيع إلا البناء على ذلك. يكون ذلك بالدستور والقانون، أو ما يُسمى احترام معنى الدولة. وهذا ما يجب أن يحدد معنى الهوية. الدولة اطار ناظم للمجتمع. إذا كنا لا نستطيع الانتظام في الدولة القطرية، فكيف يمكن الانتظام في دولة الوحدة-الدولة القومية أو الدينية. جوهر الانتماء العربي، جوهر العروبة، هو الانتماء للدولة القطرية مهما كانت. الشعوب متحدة. ثبت ذلك في ثورة 2011. يتوجب علينا بناء دول، لأن الدول هي التي ينقصنا توحيدها.

يُقال الكثير عن بناء الدولة. فكأننا لا نعترف بها. الدولة موجودة. حدودها قائمة. لكنها ليست موجودة بذاتها ولذاتها ومن أجل ذاتها. ليست موجودة في الضمير العام. ضمير جمهرة الأفراد. أسوأ ما في الأمر هو أن الدولة موجودة ولا نعترف بها.

الأمة المفترضة تشترط إنهاء الدولة القطرية. الدولة الموجودة ذات الدستور والقوانين. معنى ذلك عدم اعترافنا بالدستور ولا التزامنا بالقوانين. وهنا استحالة ناتجة عن أمة غير موجودة واطار ناظم للمجتمع فعّال بوجوده. الأمة الدينية أو القومية، المنتظرة والموجودة، هي في عالم الغيب، وفي رغباتنا. وتمنياتنا هي حالة تناقض بيننا وبين الواقع، وبيننا وبين التاريخ؛ الدولة القطرية كيان تاريخي. الأمة كيان مصطنع. نصنعه حين تصبح لدينا القوة على صنعه. نحن الآن أسرى ضعفنا وعجزنا؛ أسرى الهزيمة.

لسنا أمة خيالية وهمية. هي أمة حقيقية جداً. ما يوحدنا أكثر مما يفرقنا كعرب. الوعي الوحدوي يمر عبر الوعي بالدولة، بأية دولة. بالدولة التي نحن فيها. بالدولة القطرية. ليست هذه الدولة القطرية حالة عابرة. عندما سحبنا منها الشرعية جعلناها حالة عابرة. لا تتغيّر حدود الدول بسهولة في هذه الأيام. غزو دولة كبيرة لدولة عربية صغيرة يعرّض الدولة الكبيرة للفناء. الوحدة لا تصير إلا طوعيّة. هي ليست في أمر اليوم. الراهن هو الدولة الحالية، كل دولة عربية حالية، وكل عمل مجد يجب أن يكون على هذا الأساس. لا ينتظم العمل العربي الاجتماعي والاقتصادي والعسكري، وغير ذلك، إلا في اطار الدولة. لا وجود للقانون والدستور إلا بالدولة. دولة عربية صغيرة واحدة تستطيع أن تهزم إسرائيل. إسرائيل تهزم الجيوش العربية كلاً على حدة، لأن كلا منها لا يصدر عن دولة، لا يصدر عن انتظام يؤطرها وينظمها.

الدولة سواء كانت ديمقراطية أو ديكتاتورية يلزمها نخبة يتطابق وجودها ووعيها ومصلحتها مع وجود الدولة أو مع ضرورة ايجادها حين لا توجد. أحياناً تُبنى الدولة بسبب الدولة، والأمة توجد بعدها (الولايات المتحدة، فرنسا، انجلترا، إيطاليا، ألمانيا، إلخ…). الأمر عندنا أسهل بكثير وأصعب بكثير. الدولة القطرية منعدمة الشرعية، تشعر بضعفها أمام شعبها. الاستبداد يبقيها في السلطة. أول ما يفعله الاستبداد هو القضاء على النخبة الثقافية وعلى المجتمع المفتوح، أي على الجو الذي يمكن أن توجد فيه النخبة الثقافية. الدولة الضعيفة أمام شعبها تكون كذلك أمام إسرائيل.

نخبنا الثقافية الباقية في بلادها تضطر للمداهنة. قسم كبير منها في السجون أو في المنافي. تحفر الدولة القطرية الحالية قبرها بيدها. لا تقوم الدولة، أية دولة في العالم، إلا على نخبة عارفة بغض النظر عن الأجهزة البيروقراطية والأمنية. الأفضل طبعاً أن تكون هذه الأجهزة من النخبة. وهذا يجرنا الى الحديث عن نظام تربوي غير سلفي-نظام سبيله العلم الحديث والخروج ذهنياً من الماضي. نخب تخرجنا الى العالم ثقافياً ومعرفياً، وتجعلنا بطبيعة الأمر ننخرط في العالم. بالعزلة عن العالم لا نستطيع التقدم. لا نستطيع الانخراط في العالم ولا الخروج إليه ولا التفاعل معه. بالعزلة عن العالم نحكم على أنفسنا بالدوران حول ماضينا وحول ما نعرفه؛ نحتاج الى اقتحام ما لا نعرفه. الدولة الدينية والقومية تعزلنا فيما نعرفه، وتجعلنا ندور حول أنفسنا.

ليس المهم أن ننطلق من معرفة صحيحة. المهم هو الوصول الى معرفة صحيحة. هذا يستدعي التخلي عن الكثير مما نعرفه وندعي أنه معرفة صحيحة، ومن بينه الدين السياسي والأفكار القومية التي لا تركب على قوس قزح. المعرفة الصحيحة تأتي من تواضع العارف، تواضعه أمام الآخرين، تواضعه أمام الطبيعة، تواضعه أمام ما يجب ان يعرفه. نقوم بذلك تحت عنوان تواضع الذات أمام الموضوع. أن نتوقف عن التأملات الكبرى وأن نتجه الى مراكز البحث للنظر في الأمور الصغرى من أجل تراكمها وتوليد معرفة كبرى.

قالت الجماهير في الميادين عام 2011 “الشعب يريد إسقاط النظام” ولم تقل إسقاط الدولة. أنظمتنا وضعت نفسها مكان الدولة. اعتبر النظام وعلى رأسه الطاغية أنه هو الدولة. ما لم يعتبر الحاكم أنه وسيلة للدولة، أداة لها، لن نخرج مما نحن فيه. الحديث عن بناء الدولة يطول. قبل ذلك، يجدر جمع عدد من كبار المثقفين وتوجيه السؤال لهم: ما معنى الدولة؟

الوعي السائد في كل قطر عربي لا يقود الى بناء دولة. لدينا أمثلة كثيرة. ولدينا أسئلة كثيرة. الأسئلة يُجاب عليها بأسئلة، الى أن نصل الى الجواب أو الأجوبة الصحيحة.

نقول هنا إن الدولة الراهنة، القطرية كما يُسميها القوميون، هي مجالنا الوحيد. هي مصدر الهوية الممكنة. ليست الدولة غير موجودة. الهوية غير موجودة. توجد هويات أخرى، جميعها أو بمعظمها، هويات قاتلة. أن تنتظم الحياة في منطقة تقع على كل جنوبي المتوسط وشرقه، وتمتد الى المحيط الهندي أمر يتطلّب الاعتراف بالدولة كما هي، بحدودها والعمل على أن تصير دولة حديثة. الحداثة معناها الآن التخلي عن الأفكار المتداولة ومعظم الأفكار الموروثة، ورميها في سلة المهملات، وإلا سنصير نحن كمجتمعات سلة مهملات للتاريخ.