20
Feb
2018
1

بؤس الايديولوجيا اللبنانية – ٣

ينتظم المجتمع في إطار الدولة. عدم الانتظام هو العشوائية. هو الحالة التي تسود عندما يكون الحكم استبدادياً أو طائفياً أو ما يشابه ذلك. التناقض هو بين الانتظام حسب القانون والدستور أو العشوائية من دون مراعاة القانون والدستور. هناك نماذج من الدولتين في العالم: 1- دولة نظامية، 2- دولة عشوائية، لا ثالث لهما. يسود ذلك في كل البلدان تقريباً.

في بلادنا هناك مصلحة للطبقة العليا بالعشوائية. ينظرون لها، ويصنعون العجائب في مخيلتهم من أجل تأبيد (جعلها أبدية) العشوائية. قصتنا مع الأب دوبريه والرئيس شهاب شهيرة.  حين نصح هذا شهاب (كما يقال) بأن نبقى كما نحن، لأنه لا تنطبق علينا مقاييس ولا تحليلات علمية. يومها كانت الأسطورة ضرورية من أجل قانوني السرية المصرفية وحرية تحويل العملة. شيء يراد الآن من وراء العشوائية. ما كان قانون الانتخابات لولا ذلك. تمرير القانون، على ضرورته، بحاجة الى تعمية من نوع ما. التعمية جو مناسب لخلق الخرافات والأساطير.

العشوائية المطلوبة راهناً هي عشوائية المهجرين السوريين. لدينا في لبنان أقل من نصف مليون فلسطيني؛ يعيشون في مخيمات لا تصلح للسكن البشري. خاصة في منطقة عربية يغمرها النفط بأنعامه ونقماته. ولدينا أكثر من ربع مليون عاملة وعامل من خدم البيوت، ويأتون ويذهبون بانتظام تام. الفلسطينيون يروحون ويجيئون بنصف انتظام.

أما السوريون، فيزيد عددهم على مليون ونصف. وهم يروحون ويجيئون بغير انتظام. كل محاولة لتنظيم وجودهم باءت بالفشل. يجب أن يبقى وجودهم عشوائياً. وأن يعملوا نواطير في البنايات، وعمالاً في البناء، وغير ذلك من الأعمال المتعبة؛ وهم في آن يسوقون تاكسيات، ويفتحون مطاعم ومحلات تجارية مرخصة أو غير مرخصة. كل ذلك يثير غيرة اللبنانيين. فيعتبرون أنهم ينافسون على أعمال ووظائف كان يمكن أن يتولوها. هذا مع العلم أن هجرة اللبنانيين الى سوريا منذ حرب السنتين، ومنذ ما قبلها حسب ما عرفت وخبرت، كانت أفضل من جيدة. وكان اللبنانيون الوافدون الى سوريا يعاملون كالسوريين أو أفضل. الآن في لبنان نفعل، بل يفعلون، كل شيء لكي يواجه اللبنانيون السوريين بعنصرية، إضافة الى إبقائهم في مخيمات عشوائية.

لكي لا نسيء الفهم، يجدر القول أن النظام اللبناني يتعامل في كل شيء بعشوائية. مطلوب منه ذلك. ويعامل شعبه باحتقار: يطلب من نفسه ذلك. ليس غريباً إذن أن يتعامل النظام مع السوريين الوافدين بما يساوي تعامله مع شعبه أو أسوأ.

هم يعيشون على الأرض اللبنانية. سيادة الدولة مفهوم يتعلّق بالأرض. هي سيادة على الأرض. الشعب سيّد نفسه. ليس للدولة سيادة على الشعب (السكان) وإلا كان النظام غير ديمقراطي وغير مقبول. رفضت الدولة تطبيق السيادة حيث يسكن هؤلاء. رفضت أن تعلن سيادتها عليهم، بحجة أن ليس لدى الدولة (النظام) من الموارد ما يكفي. هم يعيشون على أرض هذه الدولة وكفى. هم مهمة المنظمات الدولية، والمسألة تتعدى السيادة.

أريد لهؤلاء أن يبقى وجودهم عشوائياً، كي يبقى الاقتصاد، بالأحرى جانب منه، عشوائياً أو موازياً للاقتصاد المنتظم. أعمال التهريب، وتبييض العملة، وتمرير الممنوعات لا تدخل ولا تحدث في نظام منتظم. هي تحدث في نظام عشوائيات وحسب، حيث “حارة كل مين ايدو الو”.

نحن، بسبب المهاجرين ومن دونهم، بين نظامين للدولة: واحد منتظم يحكم فيه القانون، وتجري فيه الانتخابات، وتمارس الأجهزة البيروقراطية عملها؛ وآخر عشوائي لا تدخله قوى السلطة (الدولة). الكل يعرفون أنه موجود. الكل يعرفون أين مواقعه. وكأنه تم الاتفاق على أن لا يتم التدخّل إلا حيث يكون الأمر تهديداً للأمن. يتأمّن بذلك لأهل المال والسلطة الاستقرار؛ وهذا مطلب أوّل يتفق عليه الجميع في الداخل والخارج بغض النظر عن السلاح الشرعي، وغير الشرعي، ووجود المافيات والقواعد العسكرية الأجنبية، ووجود الشركات الأمنية والمرتزقة. الأمن ممسوك. الاستقرار مترسّخ. وهذا مطلب الجميع. يعيش الجميع في هناء حتى إشعار آخر.
يؤدي لبنان دوره في العشوائية. ويؤدي دوره في الانتظام. وتجري الانتخابات النيابية، وإن متأخرة، وإن بلوائح مقفلة حتى تحكم القبضة على رقاب العباد، وحتى لا يفلت الناس على هواهم. مظاهرات مطلبية محدودة السقوف. جمعيات المجتمع المدني تفقّس جمعيات جديدة بشكل غير مسبوق. يدعو الجميع لهم بالصحة والعافية من أجل أن تمتلىء الشاشات بهم كل مساء ويتفرّج عليهم اللبنانيون.

ربما كان الاقتصاد العشوائي (الموازي) أي غير الخاضع لقوانين الدول حول العالم يوازي نصف الاقتصاد العالمي حسب ما يقول بعض الاقتصاديين. وهو يضم المواد الممنوعة، وغير الممنوعة، والمهاجرين، والمهجرين، والنازحين قسراً اوبإرادتهم. ويضم الأموال التي توضع في مصارف أو”أوفشور” (ملاجىء ضريبية) خوفاً من الضريبة، إلخ… من غير المتوقع أن يكون لبنان خارج السياق. من الطبيعي أن تكشف عصابة تهريب أو عصابتان يومياً. هذا جزء من الحرب على الفساد. وجزء ايضا من مبررات وجود الأجهزة الأمنية. مهمتها أن تكتشف.
كل ذلك يعرفه القاصي والداني. لكن ما لا يعرفه اللبنانيون، أو بعض اللبنانيين، خاصة الأجهزة الأمنية، والبيروقراطية، والسياسية، والمصرفية، هو أن الجزء غير الشرعي، أو الاقتصاد الموازي، والذي يدور حوله الكثير من الشبهات، هو جزء من الاقتصاد اللبناني الذي عليه أن تظهر مؤسساته وكأنها شرعية بالكامل، تنفّذ القوانين اللبنانية والدولية (الأميركية). ربما لا يُعترف بهذا الجزء من الاقتصاد غير الشرعي العشوائي، وغير القانوني، لكنه مطلوب ومرغوب به. الخوف هو أن النظام الشرعي لا يعمل ولا تكون له موارد عاليه من دونه.

نخلق الأساطير حول أنفسنا وحول الغير. بدأت الهجرة الكثيفة من لبنان الى الخارج في أواخر القرن التاسع عشر. يهاجر الناس من بلدان الفقر الى الثروة. قلنا عن لبنان ” هنيئاً لمن له فيه مرقد عنزة”، وأغفلنا أن جبل لبنان كان فقيراً وان معظم من هاجروا انتهوا فقراء معدمين. اعمار لبنان في الخمسينات والستينات كان على يد سوريين وفلسطينيين وعراقيين هرّبوا أموالهم الى لبنان. نستقبلهم كأبناء طبقة عليا في لبنان. العمال من هذه البلدان ملعونون بالرغم من أنهم أيد عاملة ساهمت في استمرار الاقتصاد اللبناني، خاصة الصناعة، بما فيها البناء والزراعة. في جميع الأحوال الطبقة العليا تملك المال. كثيراً منه. ونعرف كيف تتعامل مع بعضها عبر الحدود. لكن المهاجرين الفقراء الى لبنان أكثر من نصف سكانه. يراد لهم البقاء في العشوائية. يقال أحياناً أن وجودهم يهدد الاستقرار عينه. الواقع أن شرعنة وجودهم لم تحصل لأنهم ضروريون للاقتصاد غير الشرعي. حتى ولو كان ذلك على حساب اعداد عفيرة منهم غير قادرة على المساهمة في شيء. هم كبشر ذوو وجود لا يأبه له أحد. المهم الأسطورة التي تدينهم لاخفاء وضع ضروري بالنسبة للاقتصاد اللبناني.

درجت الايديولوجيا اللبنانية على إعلاء شأن الأساطير غير الشرعية. ليس في الأمر براءة. المستفيدون من العشوائية في لبنان معروفون. يمكن أن يضبط بعضهم. لكن العشوائية كمفهوم شيء ضروري لإدارة نظام طبقي يستخدم الطائفية لأغراضه السياسية والاقتصادية. نحن على أعتاب انتخابات يتسابق إليها المرشحون ولا شي عما يعانيه لبنان، سواء ما تعلّق بقطاعات البنية التحتية أو بقطاعات الزراعة والصناعة والخدمات. ذلك أيضاً ليس صدفة. التعمية سيدة الأحكام. أن لا تعرف شيئاً عن نظامنا، وأن لا يقول المرشحون شيئاً عن اقتصادنا. نساق الى الانتخابات والمطلوب هو فقط أوراق الاقتراع في الصندوق. يتنافسون على السلطة. ما هي هذه السلطة التي يعدوننا أو لا يعدوننا بها. أن لا نعرف شيئاً خير لهم. خير لهم ولنا. هذا في نظرهم على الأقل.