23
Feb
2018
2

بؤس الايديولوجيا اللبنانية – ٤

فيما يتعدى الفساد

” النحن ” اللبنانية يصعب تحديدها؛ يستحيل ذلك. تتشلّع النحن؛ يستحيل تشكيل هويات مشتركة. تتشكّل هوية لكل طائفة. الطائفة تكاد تعتبر نفسها إثنية؛ هي بمثابة قومية. نخلط ما بين المذهبي، والديني، والطائفي. ينتج عن ذلك تشوّش في الوعي، وتذرير في الهوية، وعجز في السياسة، وقعود عن العمل.

الفساد هو وضع المصلحة الخاصة، مصلحة الفرد أو الطائفة، فوق مصلحة المجتمع ككل. لا شيء يتحرك في البلد من دون هذا النوع من الفساد. كل الناس مضطرون الى وضع المصالح الخاصة فوق المصالح العامة. أدهى من ذلك، ان ما يشاع عن كونه من المصالح العامة، يُناقش لدى القادة في الدهاليز، تحت ظلّ العتمة، وخارج المجال العام. غياب النقاش المفتوح في مجال مفتوح يلغي المجال العام؛ تُلغى السياسة. ديمقراطية من دون سياسة.

فقدان الدولة مقصود. تستفيد منه طبقة عليا تشمل أباطرة جميع الطوائف واتباعهم. يحققون مصالحهم المادية عن طريق إلغاء السياسة. يمارسون نوعاً من السياسة في مؤسسات الوزارة والبرلمان والرئاسة. لكن السياسة الحقيقية هي في مكان آخر. ليست في المجال العام. هي في غرف مغلقة.

وكما أن هناك اقتصادا موازيا، فهناك سياسة موازية، تتنافى مع القانون والدستور، كما يتنافى الاقتصاد الموازي مع الاقتصاد الشرعي. لا تبالي ما تسمى المجموعة الدولية بالسياسة الموازية، لكنها تبالي بالاقتصاد الموازي، وتتابعه بتفاصيله، وتشرف على حركة الأموال في المصارف بنداً بنداً. متروكة السياسة لأباطرتنا الطائفيين؛ الاقتصاد في قبضة “النظام الدولي”.

تنفصل السياسة عن الاقتصاد. ليس هناك اقتصاد سياسي. ليس هناك اقتصاد تقرره السياسة المحلية. الخطوط العريضة في الاقتصاد تُقرر في الخارج. السياسة محلية حسب خطوط عامة ترسم في الخارج. حتى الانتخابات لا تترك كي ينتخب الشعب من يمثله في البرلمان. يقبض على رقاب العباد بقانون الانتخابات. هي أشبه باستفتاء. النواب يُعينون؛ يختارهم الأباطرة من بين من يطرحون أنفسهم. سماها البعض “انتخابات ارتوازية”.
عندما تنفصل السياسة عن الاقتصاد، تُصاب الطبقة السياسية بالعجز. العجز مصدر فساد كبير. تتذرر البنى التحتية. لا كهرباء مركزية؛ هناك محطات في الأحياء والزواريب. يتذرر التزويد بالمياه. هناك صهاريج تحل مكان الشبكة العامة. يسمون ذلك خصخصة. الكهرباء والماء وغيرهما (ولا ننسى النفايات) يوضعان في أيدي شركات خاصة ومافيات تعرف من أين تُؤكل الكتف. هناك خصخصة موازية. ولا ننسى شبكة الهاتف. هناك نظام؛ وآخر مواز. تنشأ المؤسسات الاقتصادية الموازية في الحرب. هنا تنشأ حرب غير معلنة. الحرب الآن نوع من التعايش الجاهز في أية لحظة للتحوّل الى العنف. حرب بلا عنف مادي. العنف اللفظي يملأ كل وسائل التواصل الاجتماعي. لا ندري ماذا نسميه: تواصلاً أو تفاصلاً.

الفساد ليس وليد انحطاط أخلاقي وحسب. هو ظاهرة سياسية. يحتّم النظام أن تكون المصالح الخاصة أولى من العامة. يُصاب النظام العام بالعجز. العجز مصدر الفساد. عدم انتظام المجتمع في الدولة هو مصدر الفساد الحقيقي. ليس الأمر أنه لا توجد دولة. الأمر أنه لا يراد أن تكون الدولة، وذلك بانعدام الانتظام المجتمعي. يتفق الناس على أن لا دولة. نادراً ما يفصحون عن أن ذلك إعلان منهم أنهم لا يريدون الدولة.

ما يُسمى الدولة أو النظام السياسي هو واجهة للاقتصاد الشرعي كما للاقتصاد الموازي. المهجرون الى لبنان أداة مفيدة في هذا المجال. ما لا يستطيعون، أو لا يريدون فعله في وضح الشرعية، يفعلونه في عتم اللاشرعية. لا شرعية الاقتصاد توازيها لا شرعية الديمقراطية، ديمقراطية لأخذ الوكالة عن الشعب.، وليست ديمقراطية تمثيل الشعب. التمثيل الشعبي الحقيقي لا يريده إلا القلة من خارج الطوائف. منظمات المجتمع المدني تناضل. يبدو أن أفقها مسدود.

لا تستطيع أن تصوّت في الانتخابات بورقة بيضاء. يعتبر هذا النوع من التصويت لاغياً. إرادة الشعب اللبناني لاغية. عندما تفرض على الناس لوائح مقفلة لا يستطيع أحد إلا الاختيار من بينها، تكون الإرادة الشعبية ملغاة، والسياسة ملغاة، والمجال العام خالٍ من الحوار. لا مجال عاماً كي يُناقش اللبنانيون قضاياهم. تناقش في الأروقة بالنيابة عنهم.

مسخرة الديمقراطية اللبنانية موضوعة بحذق لأخذ الوكالة من الشعب وحصرها ببعض القيادات وأتباعهم. الشكل لا يفرض المحتوى؛ العكس هو الصحيح. المحتوى يقود الى شرعية بديلة. حقائق بديلة كما تُسمى في البلد الأم الأميركي. يخلقون لنا وقائع بديلة كي نتوهّم أننا نمارس حقنا في الانتخاب. خلق واقع انتخابي ينساق الجميع فيه.

للتصورات أولوية على الواقع. يختفي الواقع أو يكاد. يخلقون تصورات بديلة تكون طريقاً للفاشية؛ فاشية الطوائف. التلاسن بين القادة الذي أدى الى اصطفافات طائفية، وردود أفعال فاحشة القول والعمل حول الطوائف وأضدادها. كل ذلك دليل على فاشية جديدة يندرج صعودها فيما نشهده حول العالم. ليس الفساد اللبناني ظاهرة محلية بل عالمية. تصنيف لبنان بين دول العالم على سلّم الفساد لا يعني أن لبنان وضعه أفضل ممن لا يعلوه في السلسلة. كما لا يعني أن وضعه أسوأ ممن يأتي قبله في السلسلة.

يعوّد النظام الناس أن يكون الفساد جزءاً تكوينياً من حياتهم. كل ما يتطلّب الأمر أن يتعودوا على ما يجري، وان يحاولوا استخدام الواسطة والرشوة والضعوطات السياسية، وإغراء البيروقراطية اللبنانية، ورشوة بعضها، وإرهاب من تبقى منها. وقد تعودوا على ذلك، إلا القلة منهم، وأصبح الفساد نوعاً من الحياة اليومية. تكثر جرائم لم نسمع بها من قبل؛ تنهدم بيوت بسبب المطر؛ تغرق طرقات بسبب السيول؛ تطوف أنهر لأسباب من صنع البشر. نتلقى الأخبار على الشاشات ونعتبرها جزءاً من الحياة اليومية. أن يكثر المطر، وهو لا يكثر بنسبة تفوق السنوات الأخرى، وأن ينتج عن ذلك خراب، هو جزء مقبول من الحياة اليومية. رحم الله أياماً كان المطر فيها يعتبر خيراً لا شراً.

ليس النظام حصيلة تطوّر المجتمع. المجتمع اعتاد أن يكون حقيقة لنظام مشوّه، يستحق ألقاب السخرية والمهزلة. يضحك البعض لأنهم لا يستطيعون الاستمرار في البكاء.

يُقال أن التطوّر الفني انتقل من المأساة الى الكوميديا. كنا نعيش المأساة. صرنا نعيش المهزلة، ونضطر للابتسام. نظام لا يسمح بالمعارضة، لا مجال فيه للموالاة. لا مكان فيه للسياسة.