14
Dec
2018
0

حول معنى الدولة – ٢

مفهوم الدولة هو العيش سوية. هذا يقتضي التعاون والتعاضد. هو أن تكون الدولة انتظاماً يمارسه الناس طوعياً بالسلوك حسب القانون والدستور. القانون هو خيار. وما يقترحه من عدالة من وضع الناس.

تيقتضي مفهوم النظام (السلطة) التعارض والتنافس، بالأحرى الصراع، من أجل الحكم والتحكم. ينتج عن ذلك ما يقود الى التراتبية والطبقية: افتراق الناس الى طبقات، الواحدةمنها فوق الأخرى. وهذه فوق ما دونها. من هم في اعلى السلم الاجتماعي يتمتعون بامتيازات. ويكتسبون حقوقاً لهم، أهمها الضرائب والملكية الخاصة. من في الأعلى يملكون ويقتطعون عمل الأدنى قسراً وإكراهاً. لا يختلف في ذلك الربح عن الضريبة. تمتلك الطبقات الأعلى من وسائل العنف والإكراه ما لا تمتلكه الطبقات الدنيا. يتحوّل القانون من العدالة والمساواة الى حق المصادرة والإكراه والنهب.

تعتبر الطبقات العليا ما لها من ضرائب على الطبقات الدنيا ديناً. للدين والديْن جزر واحد. يستخدم الدين لتبرير الديْن. تعويض في الآخرة عما يفتقده الفقراء على الأرض؛ يفقد الفقراء معظم انتاج عملهم على الأرض؛ يعدهم الدين بالتعويض عليهم في الجنة. صكوك الملكية في الجنة حصر بالمؤمنين، بالذين يخضعون. لم يستأثر دين واحد بصكوك الغفران؛ لا يكون الغفران إلا لقاء عقيدة الخضوع. بنك الجنة يدفع لمن يؤمن. الفقراء لا يسلمون بالله وحسب. هم يخضعون لمن يمثّل الله على الأرض. شرط الجنة هو الخضوع على الأرض. الكهنة وظيفتهم تبرير ما يجري على الأرض. إذا فعلو غير ذلك بفقدون موقعهم في هيراركية الدين.

حالة الإنسان الطبيعية هي المشاركة والعدالة في التوزيع. المال ليس مبادلة شيء بقيمة ما بشيء آخر ذي قيمة مماثلة. قوة العمل المستخدمة في إنتاج هذا الشيء والشيء الآخر هي التي تحدد القيمة. المال وسيلة لاقتطاع القيمة من أصحاب قدرة العمل، وهي قبل ذلك تعبير عن القيمة. هذا يُسمى الربح. هو ديْن لمن يملك بحجة أن المالك له حق على الذين يعملون. حق الملكية يخوّل أصحابه أخذ (نهب) نتاج عمل الآخرين؛ بالأحرى معظمه ليبقى للعاملين ما يكفي من أجل العيش والعمل مرة أخرى. وجود هؤلاء الفقراء هو للعمل فقط. لإنتاج القيمة وفائض القيمة. لا تراهم في مواقع البهجة والتمتّع بالفنون والأداب. ليس لديهم لأنهم لا يحصلون إلا ما يكفي للكساء وسد الرمق.

للقانون حدان. حد الدولة أي التعاون وانتظام المجتمع تلقائياً؛ وحد السلطة أي فرض الأمر بالقوة والإكراه. تحتكر السلطة (النظام) العنف ووسائله. كي تفرض إرادة الطبقة العليا على الطبقات الأخرى. الفقير يدفع الضريبة قسرياً. تقتطع هذه من أجره قبل دفع الأجور والرواتب. الغني يجد دائماً، عن طريق المحامين في الغالب، وسيلة للتهرب من دفع الضرائب. في الأصل يجبر العاملون على العمل لقاء أجر الحد الأدنى. لا يحق لهم سوى ذلك. حق الملكية الخاصة يعطي المالكين حق فائض القيمة، أي الربح، وهذا غالباً ما يفوق أجر العامل على إنتاج ما له قيمة.

للدولة حد واحد. للنظام حدان. إما أن يكون مع الدولة. أو ان يكون مع الاستبداد. لا يمكن أن تكون الدولة والاستبداد في دائرة واحدة. غياب الدولة هو الاستبداد وهو النظام وهو التراتبية الطبقية؛ هو التراتبية (الصراع الطبقي) التي تضغط من أجل أن تصير الدولة والنظام شيئاً واحداً. الدولة هي النظام، بالأحرى الانتظام البشري، منذ البداية؛ النظام (السلطة) هي ما تكوّن وتشكّل بعد الجماهيرية البشرية الأولى. البشرية ليس أساسها شر النظام بل خير الدولة. الخلط بين الدولة والنظام لم يكن إلا من أجل تبرير الاستبداد. كانت القومية محاولة ما وانتهت بفعل تحوّل النظام الى الفاشية. أن لا يبقى للبشرية أمل في انتظامها هو الشر الأكبر. أن لا نؤمن بأن البشرية قادرة على أن تسيطر على مصيرها وأن يكون لها قول فيما يُقال، فهذه مصيبة.

لم تتأسس الحضارة البشرية على الأخلاق بل على التعاون. تأسّس الجماعة البشرية كان ضرورياً وليس للبشري دخل في الأمر. تأسيس الحضارة شيء آخر. وهذا الشيء الآخر هو الذي كان في الأخلاق ضرورة. الأخلاق لم توجد بعد الدين وعلى أساس الدين. هي قبل الدين. وهي التي صادر منها الدين ما يُسمى الأخلاق القديمة. الاستقامة ضرورية لاستقرار المجتمع. والاستقرار ضروري بعد التراتبية (الطبقية) لا قبل ذلك. الأخلاق هي أن يتصرف المرء حسب ضميره. حسب ما هو في مؤخرة دماغه. لم تتحوّل الأخلاق عن الضمير إلا بعد الدين. الدين يتعلّق بالموت، وبما قبل الموت والآخرة. الأخلاق تتعلّق بهذه الحياة، بالراهن، بالحاضر، بحقيقة البشرية. لا يستطيع أحد أن يقنعنا أو يفرض علينا الاقتناع بأن البشرية خلقت من دون الأخلاق. لا معنى للخلق وبالتالي لما هو في أساس الخلق من دون الأخلاق (قواعد الخَلقْ).

الدولة بنظامها الاجتماعي  تجرّد المجتمع من الأخلاق عندما تقدم على التراتبية الطبقية (أو الطائفية أو الإثنية أو العنصرية أو نوع آخر)؛ تضع حق الملكية عند بعض الناس وتسلخه عن الآخرين.  بإسم هذه الملكية تقتطع الطبقة التي تملك جزءا من عمل العاملين ولا تترك لهم إلا القليل الذي هو أدنى من الحد المطلوب للمعيشة أو أقل. يطالب الناس بحقوقهم في الدراسة والطبابة ومعاش نهاية الخدمة. تحتكر السلطة (النظام) السلاح لكنها تحتكر معه الرفاه. الطبقات الفقيرة محرومة من التسلية خارج ساعات العمل الضرورية.

الفقير ليس هو من خلق فقره. هو الضحية. الدولة الرأسمالية تجرّده من حق الملكية ومن العيش الكريم. الدولة الحديثة تفوق مهامها الدولة القديمة. الدولة القديمة مجرد سلطة  (نظام)، تتدخل في الشأن الاقتصادي والاجتماعي بما يؤمّن لها الضرائب من أجل تمويل العسكر، بحجة الدفاع عن المجتمع. الدولة الحديثة معنية بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية وتسخير كل ذلك لصالح المجتمع. عندما تتخلى الدولة الراهنة عن هذه المهام فإنها تتراجع الى ما قبل الحداثة. وهذا ما يحدث حول العالم. الذي يسمى ما بعد الحداثة خاصة على صعيد صعود رأس المال والخصخصة وتحجيم دور الدولة وخفض الضرائب والتقشف بمعنى خفض نفقات الدولة، هو تراجع عن الحداثة. ناضلت البشرية طويلاً، على مدى قرون للوصول الى بعض حقوقها ومكتسباتها. والمكتسبات ليست إلا بعض الحقوق المسلوبة. في عالمنا الراهن، معظم الثروة بيد أقل من 1% من الناس. هذا الأمر يجعل صعباً العيش سوية. تأتي الصرخة من اليسار ومن اليمين. علينا الخروج من التصنيفات الايديولوجية والنظر الى المجتمع بوصفه دولة. كل ذلك تعبير عن استحالة العيش سوية (الدولة) مع تسيّد رأس المال (النظام).

مهزلة دولنا أنها لا تستطيع أن تدافع عن نفسها ولا تستطيع الدفاع عن مجتمعها بل تتبنى شعارات وايديولوجيات الخصخصة والنيوليبرالية وتترك مجتمعها معرضاً للأزمات. بل هي تمعن عن طريق الاستبداد في تفتيت المجتمع وتكسير بنيانه وشرذمته بطرق مألوفة وغير مألوفة. حتى في الدول التي تُسمى اشتراكية أو شيوعية، مع التحوّل الى ليبرالية جديدة شديدة الاستغلال مع الاحتفاظ بحكم الحزب الشيوعي أو الاشتراكي، فهي دول، خاصة دولنا، تخلت عن الدور الاقتصادي-الاجتماعي- وفي نفس الوقت تعجز عسكرياً عجزاً كاملاً عن الدفاع عن مجتمعها وأرضه ومصيره.

تتماهى الدولة مع المجتمع. تصير وإياه شيئاً واحداً عندما يعتقد القائمون عليها ويعملون على أن الدولة كائن سياسي، والسياسة فن إدارة المجتمع، وأن الصراع على السلطة أمر ثانوي. في السلطة (النظام) المسألة تبدأ وتنتهي عند القبض على الحكم وبذل ما بالوسع للحفاظ عليه. الدولة الحديثة، بالأحرى الدولة الحقيقية، هي التي تعتبر نفسها معنية بجميع شؤون المجتمع؛ بما يتطلبه المجتمع ويمليه ويعبر عن حاجاته، لا بما يعتقد أهل السلطة أنه هو الحق وأن ما يعتقدونه هو ما يعتقده أو يجب أن يعتقده المجتمع.ربما كان في ذلك طوباوية أو مثالية أو سعي نحو المستحيل. لكن هذا السعي ذاته هو الذي يجعل للحياة معنى. القبول بما هو موجود واقعية لا يستحق القبول بها. السعي من أجل طوباوية الدولة هو السعي من أجل أن يكون تقرير المستقبل بيد البشر.