8
Jun
2018
0

مصطلح الأمة القومية والإسلامية نقيضه دولة عربية بايديولوجيا كونية

موضوعنا الأساسي في المجتمع (المجتمعات) العربي هو اكتشاف ماذا يريد الناس. كيف نترجم شعار الشعب يريد إسقاط النظام؟ كيف عبرت ثورة 2011 عن هويتهم؟ الهويات القاتلة هي التي تتحوّل الى مقولات؛ يُخترع لها تاريخ؛ يموت الناس وهم يقاتلون من أجلها. يخترعون لها تاريخا وعادات وتقاليد. تضطهدها أقليات مجاورة. ربما كانت أكثر أو أقل عدداً. يؤثّر عليها الاضطهاد، تنمو لديها الأحقاد. تخلط بين مضطهديها وأتباعهم الذين كانوا أيضاً مضطهدين. يصير هؤلاء أيضاً اعداء. يبدو الحل في الانفصال. يصير مشكلة مستعصية في منطقة قديمة كالتي نحن فيها. مليئة بالأقليات. كل واحدة فيها لديها ثارات مع الأقليات. كلنا أقليات. حتى الأكثر عدداً، هم مجموعة أقليات. التاريخ ليس في صالحنا من دون السياسية. بالسياسة تبنى الدول. نفتقد الإثنين معاً، وأنظمة الطغيان تزيد المشكلة تعقيداً. ممانعة الأنظمة أن تتحوّل الى دول هي المشكلة. الأقليات بحد ذاتها ليست كذلك. أفعالها رد فعل على الاستبداد.

أوسع الهويات انتشاراً هي الدين السياسي بجميع أشكاله. هذه الهوية الدينية ليست بديهية. هناك خلاف سني شيعي، وشكوك متبادلة، وكمية كبيرة من سوء الفهم المتبادل لدرجة أن كلاً من الطرفين يتخلى عن دينه أو بعض دينه، لضرورات المواجهة. يُستبدل الدين الجامع بالقوميات والإثنيات. يُخضع لها مقتضيات الدين. يعلو منسوب الكره المتبادل. السقف الأدنى للكره المتبادل هو التخوين. في كل دولة دينية تعلو القومية على الدين. الهوية القومية أيضاً ليست بديهية. ليس كل القاطنين ضمن حدود الدولة ينتمون الى قومية واحدة. حيث تُعرف بعض الهويات نفسها بالدين، تُعرّف أخريات نفسها بالإثنية والقومية.

تعتقد كل هوية دينية أنها تدعم نفسها بالقومية. الهوية القومية ليست بديهية أيضاً. الهوية القومية العربية كانت مشروعاً سياسياً في أيام عبد الناصر. تراجعت بعده. اقتصر السادات على حزبه والتلاعب بالدين. لم يدرك أن الدين مرجعيته الله. وهو لن يكون مرجعية له. قتله الدين، أو جماعات دينية متطرفة. وهل يمكن للدين إلا أن يفرز جماعات متطرفة؟ هل كان حسن البنا ممكناً استمراره لولا سيد قطب. وهل كان سيد قطب ممكناً استمراره لولا الجماعات التي لجأت الى التكفير والهجرة ثم قتلت السادات.

وعندما جاءت الثورة الخمينية أبادات حلفاءها. وكان بعضهم في أعلى درجات السلطة. لا يستطيع الدين أن يحكم مع حلفاء، خاصة إذا كان لديهم حلفاء ليبراليون أو ماركسيون. الدين أو المذهب يمتلك الحقيقة المطلقة. هذه تتطلّب ولاء كاملاً. يُكفرُ النظام إذا تحالف مع ذوي الولاء غير الكامل، أو حتى مع الأتباع الذين لديهم شكوك أوتساؤلات.  سياسة الدين في السلطة أحادية الجانب. تناقض نفسها. السياسة لا يمكن أن تكون إلا تعددية. قبول التعددية يعني أن الحقيقة ليست مطلقة. ينهار البنيان الديني من دون الحقيقة المطلقة. هي تفرض على أتباعها نشر التبليغ والهداية. تتعرّض الهوية الدينية للانفجار من الداخل إذا لم تتوسع عن طريق الهداية والتبليغ. من دونهما تتعرّض الحقيقة المطلقة للتهديد. لا يستقيم الإيمان من دونهما. الإيمان إما أن يكون مطلقاً أو لا يكون. الحقيقة المطلقة تفرض إيماناً مطلقاً. لا مكان فيها للطعون والشكوك. لا مكان فيها للمعرفة عن طريق غلبة الظن. الحقيقة كل الحقيقة وإلا ينهار كل شيء.
أخطر المصطلحات السائدة هو “الأمة العربية الإسلامية”. تعبير متناقض في ذاته. الإطلاقية الدينية لا تتفق مع القومية. نحن إذن أمام مقولتيّن. يموت الناس من أجلهما، أو يعيشون. في الحالتين يكرِّس الناس أنفسهم من أجل المقولات، كأفراد على قيد الحياة والوجود. يصيرون وسائل لمن يقبض على كل من مقولتي الدين والقومية. تختلف مقولتا الدين والقومية. الأولى نشأت في السماء، وهبطت على الأرض. الثانية نشأت في الأرض وصعدت الى السماء؛ ربما تنتظر نزولها الى الأرض لتفتك بالمقولة الدينية. أحياناً كثيرة تفعل ذلك باسم مناهضة العلمانية. عندما تقبض هذه على السلطة تنزل المقولة الدينية الى ما تحت الأرض، وتتربّص بالأخرى؛ تنتظر الظروف من أجل الفتك بالأخرى. هذا ما نشهده.

تحالف المقولتين لا يكون إلا آنياً، ظرفياً، انتهازياً. تتعقّد الأمور أحياناً، كما في سورياً. مقولة دينية متحالفة مع نظام علماني فتك  بمقولة دينية من مذهب آخر. الأسوأ أن تتحالف المقولة الدينية الإيرانية مع الأقليات الدينية والقومية في سوريا. يرتد ذلك على الداخل الإيراني الذي لا يقلّ تعقيداً. يضطر النظام الإيراني الى مزيد من القمع في بلاده. المعلن عنده هو المقولة الدينية وحكمها. الأرض فيها الكثير من الأقليات. يتناقض الباطن والظاهر. لا حل لذلك إلا بالدولة والسياسة. الدولة في إيران نظام قمعي. يقمع لأنه يفتقد الى شرعية لا تمنحه إياها معظم الأقليات. مع اضطراره لمزيد من القمع تتهدد دولته كدولة، بصيرورتها الى نظام قمع. وتنقطع السياسة مع القمع. تعبير الأمة الإسلامية العربية (الفارسية في هذه الحال) يجعل الدين خاضعاً لضرورات القومية لا ضرورات الدولة. ضرورات الدولة أولها السياسة. السياسة حوار وتراكم تسويات بما يتناقض مع المقولة الدينية. حكم الشريعة يخضع للضرورات القومية. الأمر في تركيا لا يختلف كثيراً رغم اختلاف المسار لكل منهما.

أتاحت مقولة “الأمة العربية والإسلامية” مصادرة قضايا عربية (ومنها فلسطين) باسم المقولة الدينية لصالح تركيا وإيران. علماً أن كلاً منهما يتحالف مع احدى القوى العظمى في المنطقة. وتتعقّد التحالفات حتى ليظن واحدنا أن هناك حرباً عالمية مركزها منطقة المشرق العربي، وليس بعيداً أن يمتد الأمر الى مغرب العرب. العامل الأساسي في كل ذلك أن تركيا دولة وإيران دولة. وكل شيء يفعلانه في داخلهما أو خارجهما يخضع لضرورات الدولة (من دون السياسة بالطبع).

في خضم بلبلة وتشوش وخطورة الأفكار السائدة، لا بدّ من بعض الالتباسات. أهمها تعبير “الأمة العربية والإسلامية”. إذا كان المصطلح يتيح تغوّل الدين السياسي على قضايا العرب لصالح غير العرب، فإن البعض يرى فيه جمعاً لمتناقضين، هما العروبة والدين. يذهب هؤلاء الى أبعد من ذلك، فيقولون أن انتقال الجمهور العربي من القومية الى الدين ينبغي إعادة النظر فيه، والعودة الى القومية لمواجهة الدين. يخافون من هذه المقولة ويرحبون بتلك. المشكلة هنا أن الانتقال من مقولة الى أخرى، مع جعلها مرة ثانية، أعلى وأسمى من الوجود البشري، لا يؤدي الى أية حلول للمشاكل التي يعاني منها المجتمع. باسم المقولات يسيطر الطغاة على المجتمع ويتحكم الاستبداد به.

تستطيع هذه الدولة غير العربية أن تتلاعب بالعروبة أو الإسلام، أو بكليهما، لصالحها لأنها دولة. حتى الآن ليس لدى العرب دولة. جامعة الدول العربية هي جامعة أنظمة طغيان. أن يصبح للعرب دولة (أو بالأحرى دول) هو المعضلة الحقيقية.

الفرق بين الدولة والمقولة أن الدولة كيان بشري، إنساني، يصنعه المجتمع أو يُصنع له. المقولة كيان فوق البشري. لا يهمه الإنسان. لا يكترث لحياته اليومية وغير اليومية. المقولة وجدت كي يعيش الناس من أجلها. وهم يموتون، ويتقاتلون، وينتحرون من أجلها. المقولة فيها انحياز لما هو غير بشري وغير إنساني. الدولة اجتماع بشري لصالح الناس. في الغالب تستخدمها الطبقة العليا لصالحها. لكنها يمكن أن تكون غير ذلك.؛ ما دامت هي من صنع الناس، فإنها تحمل إمكانية أن تكون من أجلهم. الاستبداد يحيل الدولة سلطة لصالح طاغية أو مجموعة تتشكّل من الطاغية وحاشيته، أو لصالح طبقة عليا تعيش على حساب المجتمع. ليست الدولة جنة الأرض. المقولة جنة موعودة ومستحيلة التحقيق. موعودة لأن الذين يقبضون عليها لا يريدون تحقيق شيء لصالح البشر. قبل كل شيء، وفوق كل شيء، بنظر هؤلاء لا يكون البشر، ولا معنى لهم من دون المقولة. هم يعيشون، إذا عاشوا، من أجل المقولة. المقولة تحوي في ثناياها، وتقود حتماً الى استبداد مطلق. الدولة تحمل إمكانات أخرى غير الطغيان والاستبداد والاستغلال والفساد والإفساد. تحمل إمكانيات أخرى لأنّ البشر، المجتمع وأفراده، يساهمون فيها. الدولة إطار للمجتمع. المقولة اشتقاق لما يعلو على المجتمع والناس.

لسنا مضطرين للتأرجح بين الدين والقومية. نحن مضطرون فقط للعيش سوية؛ وهذا معناه، أو يقود في معناه، الى الدولة. ولا يقود الى الدولة إلا بالسياسة أي التواصل بين الناس وإقامة علاقات، وتسويات فيما بينهم. الدولة هي الخيار المعلن أو الضمني بأن نكون ما نحن عليه.

تضمر الهوية القومية أو الدينية خوفاً على ما يمكن أن نصير إليه. ليست الهوية إطمئناناً الى ما نحن عليه. تعبّر الهوية عن عدم ثقة بالنفس. تشتق الهوية من “هو”. من الآخر، الوهمي أو الواقعي الذي يشكّل خطراً دائماً علينا. تعني الهوية أن تساوي نفسك عندما تستعمل هذا المصطلح، ولكنها تعني أيضاً أن تساوي ما يراه الآخرون فيك عندما تستعمل مصطلح هو. ترتبط الهوية بالدين والقومية. ترتبط الدولة بما نحن عليه وما نريد أن يكون انطلاقاً مما نحن عليه. الدولة هي الاجتماع البشري الذي يحمل احتمالاً إنسانياً.

ليس خيارنا ما بين الدين والقومية؛ الخيار هو بين الدين والقومية من جهة والدولة من جهة أخرى، علماً بأنّ الدولة لا يستقيم أمرها إلا بالسياسة. خيار الدين أو القومية، أو الدين والقومية، يعني الإخضاع لمن يقبض عليهما، ولمن يعتبر نفسه ممثلاً للدين والقومية. خيار الدولة يعني خضوع الدولة ونظامها لاحتياجات البشر، والخضوع للاحتياجات الإنسانية، والخضوع للإنسان الذي صنعها.

عند الأتراك والإيرانيين دولة ظاهرها ديني وباطنها قومي. نريد دولة سياسية. لا مانع أن تكون قومية شرط أن تكون قومية إنسانية كونية. يمارس كل من الأتراك والإيرانيين دولة قومية دينية. لا يستطيع العرب إلا بناء دولة (دول) سياسية جوهرها قومية كونية. قومية تكرّس نفسها لصالح كونية الإنسان. تمارس الدولة الكبرى في العالم والمنطقة حرباً عالمية في المنطقة العربية. لا يكون الرد إلا بايديولوجيا كونية تنتج دولة كونية.