6
Jun
2018
0

مقدمة كتاب في مهب الثورة

صدرت هذه المقالات في صحيفة السفير فبل إغلاقها وإنهاء عملها. لم أتخلف عن كتابة مقالة كل أسبوع خلال 10 سنوات بين 2006 و 2017. عوّدنا الناشر أن يصدر كل مجموعة في كتاب. صدر لي من هذه السلسة الى الآن مجموعة بعنوان “في مهب العاصفة”. ثم صدر كتاب “في مهب الثورة”. والآن تصدر المجموعة الأخيرة تحت عنوان في ظل الثورة المضادة.

الذي حدث في العام 2011 هو ثورة حقيقية أخافت المنظومة الحاكمة العربية جميعها. وهدّدت النظام العالمي بمعنى ما. قام الشعب يريد إسقاط النظام في كل مكان. سقط النظام في تونس. سقط الحاكم في مصر. نشبت حرب أهلية في سوريا (الحرب الأهلية في العراق شبه مستمرة) وفي اليمن. الجزائر والمغرب يعانيان من عدم الاستقرار. السعودية رأت الحل بتوزيع أكثر من 120 مليار دولار على الناس. البحرين أنقذ نظامها تدخل سعودي. الملك المغربي قدّم الكثير من التنازلات. الخلاصة أن الوطن العربي ما زال يغلي. يجمع الناس على أنّ الثورة لم تنجح. في رأيي أن الثورة تنجح بتجمهر الناس في الساحة (في المجال العام) طارحين مطالبهم. وتنفكّ الثورة حالما يعود الناس الى بيوتهم. قد يقطعون في السياق رأس الحاكم (ليبيا)، أو تعدهم مؤسسة الحكم (الجيش) بدستور جديد، فيبدأ الإصلاح، أي هدف الناس من الثورة. وكلما كانت الإصلاحات كبيرة كلما اعتبر الناس أن أهدافاً تحققت. لا تتحقق الثورة بكل أهدافها. عيش، كرامة، عدالة اجتماعية. تُطرح مطالب سيادية تكون عادة في غير صالح النظام السياسي. طبيعي أن يتآمر أهل النظام على مطالب الناس. تحصل الثورة المضادة. تقوم بها الطبقات العليا ذات الامتيازات والتي ما تزال تمسك بمفاصل السلطة.

ليس معنى كل ذلك أن الثورة فشلت. هي لم تفشل. هي حصلت في لحظة حدوثها. الذي فشل هو ما يُسمى الدولة العميقة (أجهزة الدولة) والطبقة العليا في تحقيق مطالب الناس التي طرحوها في الميدان. ما دام المجتمع ينقسم الى تراتبيات اجتماعية وسياسية، فإن الطبقات العليا سوف تتواطأ ضد الناس، وسوف تمارس السلطة بهدف إعادة الأمور الى ما كانت عليه، أو تحقيق بعض المطالب. وهذا ما حدث في مصر. تمارس الدولة قمعاً غير مسبوق، كيلا تتحقق مطالب الناس من الثورة.

في المشرق العربي الآن حرب عالمية. جيوش الدول الكبرى والإقليمية موجودة فيه. معظمها يقاتل، أو جاهز للقتال. يعتقد معظمنا أن الخراب، والدمار، والقتل، والتشريد الذي أنزل بنا عقوبة. ربما عقوبة على ما ارتكبه شعبنا عام 2011. الميدان صار تعبيراً عالمياً، لأنه صار ظاهرة عالمية. في منطقتنا تتركز وتختصر كل تناقضات العالم. ندفع الثمن وهو كثير. الجيوش الأجنبية على أرضنا موجودة لنصرة هذا الفريق أو ذاك. الأفرقاء كثيرون. صار صعباً علينا متابعة التفاصيل أو الإحاطة بها. عادت القواعد الأجنبية. لكل جيش أجنبي حصته. ضاع استقلال معظم الدول العربية. دول فاقدة السيادة. انتقلنا بهذه الدول من اللاشرعية قبل ثورة 2011 الى اللاسيادة بعدها. يُقرّر مصير هذا البلد العربي أو ذاك في غيابه، ويُرسم دستوره.

كُتب الكثير عن الربيع العربي (الثورة العربية هو الاسم المفضّل لدي). ما أحدثته الثورة هو باختصار ولادة المواطن العربي. وهذا معناه أن الفرد العربي صار، أو يريد أن يصير، مواطناً مشاركاً في السلطة. الثورة المضادة هي ما تفعله من حروب أهلية وغيرها لمنعه من ذلك. تريده المنظومة الحاكمة العربية (على خلافاتها فيما بينها) أن يبقى محكوماً غير مشارك. أن يبقى رعية لمن يحكم.

المثقفون، وغير المثقفين كحال الحكام، يرون أن الثورة لم تحدث لأنه لم يكن لها برنامج، يظلمون الناس بآرائهم. الناس عبّروا عن إرادتهم عندما تهافتوا الى المجال العام. عبّروا عن إرادتهم في أن يصيروا مواطنين أي مشاركين، وأن تصير السلطة دولة بمعنى أن تسمع رأي المواطن وتعمل بموجبه؛ أن تتحوّل السلطة من الحكم بالأمر الى الحكم بالتعبير عن رأي الناس، بالمشاركة معهم، وبتمثيلهم، وباستمداد شرعيها منهم. ليست الشرعية إلا رضا الناس عندما يمنحونه للسلطة، فتتحوّل الى دولة. يصير الأمر مشاركة في إطار الدولة، وتصير الدولة إطاراً ناظماً للمجتمع. من دون ذلك تبقى الدولة مجرد سلطة تحكم بالأمر (بواسطة أجهزة القمع والتعذيب). الدولة هي إرادة العيش معاً، وهي أيضاً فعل المشاركة، في إطارها وحدها. في هذه الحالة وحدها، يصير الفرد مواطناً. ما يدعو الى الأسى هو أننا، بعد عقود من السنين مضت بعد الاستقلال لم نصبح مواطنين، وبقينا رعايا لسلطة الأمر والطغيان والديكتاتورية. رفع الناس في ثورة 2011 شعار ” الشعب يريد إسقاط النظام”. هذا النظام العربي، هذه المنظومة العربية.

الثورة ليست ما يستمر عشرات السنين، ولو احتفظ الحكم الجديد باسم الثورة في تسمية الدولة. لا يستطيع الناس البقاء في الميدان عشرات السنين. ما يتبع الثورة هو الدستور الجديد والإصلاحات المتراكمة والوجوه الجديدة التي تحكم بعد أن تتخلّص رواسب العهد القديم في نفوسها وسلوكها. يتطلّب الأمر سنين طويلة، وربما عشرات السنين. يكون الاعتماد على تراكم الإصلاحات وتغيير الرؤى لدى الحكام بهذا الاتجاه.

ما يحصل في وطننا العربي هو معاقبة هذه الشعوب بسبب الميدان. لا يراد لها حريتها ومشاركتها. يُراد لها أن تبقى خاضعة مستسلمة. وهذا ما تفعله الثورة المضادة. الحروب الأهلية هي من جملة العقوبات على الجمهور. يبدو أن موقع هذه المنطقة، وما في جوف أرضها من موارد، الى ما تتمتّع به من اعتبار لنفسها، هو الذي يدفع القوى الدولية الى محاولة إبقاء السيطرة على المنطقة ولو أدى ذلك الى المزيد من الخراب.

أما ما في نفوس هؤلاء الناس، فقد جرى التعبير عنه، وسيتكرر ذلك في المستقبل القريب أو البعيد، بأشكال غير مسبوقة، وفي أوقات غير متوقعة. حوادث طبيعية وكوارث تقع بين الحين والآخر، ولا يمكن للعلماء توقعها. الأمر ليس عيباً. يختلف العلماء على ما في جوف الأرض، ومتى يتحوّل الى بركان. يختلف أهل الثقافة والعلم في الوطن العربي حول ما في نفوس الناس وتوقع متى وكيفية حدوث الانفجارات. الثورة انفجارات. لا علاقة للمثقفين والأحزاب والعلماء بحدوث الانفجارات. تحدث الانفجارات بما يستحيل توقعه. عمل المثقفين والحكام الجدد هو بعد الثورة. هو الإصلاح وتراكم الإصلاحات. الحكام الطغاة تهكموا على الثورات العربية لأنه لم يكن لها برامج. أما هم فقد حكموا وكانت لهم برامج خاطئة قادت الى الوضع الراهن، أي الى الثورة وما بعدها. لا يفهم الطغاة أن الشعوب لا تريدهم، ولا توافق على أعمالهم، ولا تكترث لوعودهم، حتى ولو سمّوها برامج عمل. كلما تمادى الطاغية في الحكم اعتبر نفسه مصدراً للسلطة، مصدراً للشعب. خالقاً له. ما من طاغية إلا وسعى الى الأبدية. يغلق عينيه وتعمى بصيرته عن حقيقة أن الشعوب هي الباقية وأن الطغاة أفراد، مصيرهم النهاية والموت كالآخرين.

في زمن الثورة المضادة يعتبر الكثيرون أن القومية العربية، أو كما يقولون الفكرة العربية، قد ماتت وانتهى أمرها. للشعوب العربية اعتبار آخر للهوية وللمصير. العروبة ليست وصفاً يأتي من خارج الذات. جميعنا مقصرون في معرفة هذه الذات (أو الذوات العربية). آن الأوان كي نخرج من الأفكار التي لم تنجح. أو على الأقل أن نفكر بطريق جديدة لتحقيق إرادة هذه الشعوب.

من ذلك، أن نعتبر كل قطر عربي كياناً دائماً، وأن نعمل في إطار كل قطر على بناء الدولة. معنى ذلك أن نمنح الدولة شرعية ما ونعمل في إطار ذلك. والذين منا بقوا وحدويين عليهم الاعتبار أن الوحدة العربية هي وحدة دول لا وحدة شعوب. وحدة الشعوب تحصيل حاصل. حدثت في العام 2011 عندما اجتمعت الجماهير في الميدان والتفت حولها الشعوب العربية. تحركت هذه الشعوب حينذاك بوحدة منقطعة النظير. حركة الشعوب العربية كانت واحدة متزامنة في كل الأقطار.

مهمتنا أن نعترف بالدولة. وهذا ما امتنعنا، على مدى الأمة العربية، وعلى مدى عقود من الزمن، عن القيام به. أن نعترف بالحدود القائمة. أن نعترف بالدولة القطرية ونشارك في بنائها. والدول الممثلة لشعوبها سوف تختار التوحّد أو لا تختار. على كل حال، لدينا جامعة الدول العربية. ربما كانت أقدم منظمة إقليمية في العالم. هي جامعة دول. يمكن أن تبقى جامعة، شرط أن يصبح أعضاؤها دولاً حقيقة. عندها ستكون وحدويتنا العربية أكثر عقلانية. بهذه العقلانية نواجه الثورة المضادة.