25
Apr
2018
2

موت الشعر مرحلة، ما بعد الحداثة

موت الإله (نيتشه)، موت الكاتب (رولان بارت)، نهاية التاريخ (فوكوياما)، صراع الحضارات (هننغتون)، نهاية الديمقراطية الأميركية، ثورة الأقليات، قوميات متخيلة، مجرد فيكشن، ما بعد الحداثة.

تفكيك، تأويل، فقدان المعنى، فقدان المغزى، تدمير البنيوية، كتاب داريدا Grammatology، الذي سطع نجمه في أميركا، لا في فرنسا، في مرحلة المحافظين الجدد. تبرير الحرب لدى المثقفين. عودة المحافظين الجدد الى السلطة. انتخابات حكومات يمينية متطرفة في أوروبا الغربية والشرقية، وحتى في الهند. مادلين أولبرايت تصدر كتاباً للتحذير من صعود الفاشية.

كان عالماً شجاعاً في بداية القرن العشرين مع ألدوس هاكسلي. وكانوا يتحدثون عن عبء الرجل الأبيض مع كيبلينغ الشاعر الانجليزي الذي نال جائزة نوبل في 1907. ومع سيسيل بي رودس في أفريقيا، الى تبرير حروب الغزو في العراق، وسوريا، وليبيا (وكلها بلدان عربية). يشاركهم فيها الإيرانيون والأتراك. طبعاً يتفاوضون مع حاكم كوريا الشمالية لأنه يمتلك النووي. فاوضوا إيران كيلا تمتلك السلاح النووي. لا أمر يهم إسرائيل؟ الحرب العالمية في سوريا، لا نهاية لها، ولا نفهمها. لكننا نفهم شيئاً واحداً هو أن سوريا أصبحت ساحة لحرب عالمية تشمل بقية المشرق العربي الذي تسرح فيه القوى الكبرى والإقليمية.

العالم الإمبريالي الذي تأسس في سبعينات القرن التاسع عشر لاقتسام مناطق العالم بين بلدان أوروبا الغربية انتهى. العالم الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية في بريبتون وودز، وأنتج البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة الدولية (التي استغرقت المفاوضات من أجلها عقوداً طويلة) انتهى الى بعض المؤسسات التي بقيت أدوات للقوى الكبرى.

حرب عالمية أولى في القرن العشرين أنهت الامبراطوريات. أدت الى حرب عالمية ثانية أنهت الاستعمار. أُنْهِكت الدول الاستعمارية وصعدت حركات التحرر الوطني. استقلال دول العالم الثالث لم يُنه تبعيتها. حروب في كل مكان. مركزها المنطقة العربية التي تبقى ناقلة للنفط. العنصرية تطل برأسها بين الحين والآخر في الولايات المتحدة. حكومات منتخبة تلامس الفاشية في أوروبا الغربية، وأكثر حدة في أوروبا الشرقية. ينتشر اليمين الفاشي في أنحاء العالم حتى في الهند. خمس وعشرون دولة نووية. النظام العالمي انتقائي فيما يخص امتلاك النووي. إيران تُمنع. كوريا الشمالية تُفاوَض. إسرائيل في منأى عن المنع والتفاوض. الحرب الجمركية التي بدأها ترامب يمكن أن تؤدي الى حروب بالسلاح. الأسلحة الكيماوية والبيولوجية هي سلاح دمار شامل. من يستعملها يرتكب جريمة ضد الإنسانية (العراق وسوريا). أما السلاح النووي فهو أيضاً سلاح دمار شامل يمكن أن يؤدي استخدامه الى نهاية البشرية، أو على الأقل نهاية البشرية كما نعرفها اليوم. بعد استخدامها لن يبقى أحد أو مؤسسة لتحاكم.  سيكون خراباً شاملاً.

يخضع الإنسان لقوة قديمة جديدة هي المال؛ إله حل مكان الله كما نعرفه. قوة قديمة الاستعمال، لكنها تُستخدم الآن، وتتراكم بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية. لم يعد المال وسيلة للاستخدام. صار هو هدف العبادة. هو الذي يقرر كل نواحي الحياة الأخرى. يطغى عليها. يطغي على النفس البشرية. يصادر الروح. الإله القديم يعطي الروح للجميع. هذا الإله يعطي الروح للقلة من الناس الذين يحوزون عليه. معظم الناس، أكثر من نصف البشرية، لا مال لديهم، لا إله يعبدونه. يعبدون أنفسهم. تتصاعد الفاشية. قادت أزمة 1929 الى فاشية، الأمر نفسه يحصل بعد 2008.

المال قيمة مجردة تحلّ جميع القيم. يفقد الإنسان المعنى والمغزى. يموت الشعر. يموت الإحساس بالحياة والموت. الفاشية روح جمعية وهمية متخيلة. يموت الناس من أجلها. هي تكريس تام لحياة الإنسان كوسيلة. لم يعد الإنسان هو الهدف.

يُفرّغ الإنسان من معناه. كل واحد لديه آلة ذكية تحوي المعلومات. المعلومات في الآلة والدماغ فارغ. فراغ نفسي وروحي. ماتت الروح لأنها صارت فارغة. تقتصر الروح على من يصدّر الآلة الذكية. هي ذكاء الإنسان. الذكاء الذي يتعلّق بالبشرية مملوك لقلة من الخبراء كالذين يملكون المال. الذين يملكون المعلومات من خلال الآلة الذكية هم من يملك المال. انفصل المال عن الإنتاج كما انفصلت المعلومات عن المعرفة.

تعطّل العقل. لم يعد يخزّن المعلومات. لم يعد قادراً على المعرفة. العقل هو القدرة على الربط والتحليل، وهو القدرة على المعرفة. لم يعد لدى العقل شيئ للربط والتحليل بعد أن صار فارغاً. فقد المعرفة. فقد صاحبه المعنى والمغزى. كثير من المعلومات وقليل من المعرفة. وكثير من فقدان المعنى والمغزى. مع الإله الجديد تموت الروح. تموت الأحاسيس والمشاعر الإنسانية. تصير المعلومات هي كل ما يتلقاه الإنسان، وعيناه مسمّرتان على شاشة الآلة الذكية. صودر ذكاء الإنسان. حلّت مكانه الشطارة، أي القوة على كبس الأزرار حسب خوارزميات مقررة سلفاً في سبيل إظهار أية معلومات جديدة.

يصير الإنسان حبيس نفسه. هي ليست فردية الإنسان الحر العارف، أو الساعي في سبيل المعرفة. ثورة تقنية مكان الثورة العلمية. لم يعد مهماً أن تعرف الأشياء أو الأحداث وأسبابها ونتائجها. هناك من يعرفها بالنيابة عنك. أنت تتلقاها وحسب. يعاد تشكيلك. يشكلك الإله الجديد الذي يرسل إليك المعلومة من غرفة مركزية. ليست مؤامرة. هي طغيان التكنولوجيا على العلم. العلم هو أن تكتشف قوانين جديدة عن الطبيعة ومحتوياتها من الأحياء والجوامد. التكنولوجيا هي أن تستخدم النظريات وأنواع المعرفة في سبيل السيطرة. قيل أن تقدم العلم والمعرفة يؤدي الى سيطرة الإنسان على الطبيعة، بغضّ النظر عن صحة هذا القول أو عدم صحته، التكنولوجيا هي سيطرة الخبراء ومديري شركات المعلومات على الإنسان. تحالف هؤلاء مع مديري شركات المال معروف. هؤلاء يموّلون أولئك. وأولئك يجنون الأرباح لهؤلاء. يخضع مديرو السياسة لهم. لا صورة فاضحة أكثر من مجلس الشيوخ الأميركي وهم يستمعون الى زوكربرغ. يعطيهم معلومات عن شيء لا يعرفونه (المسنون مثلي متخلفون في حقل التكنولوجيا الذكية ومجال الأيفون). هم يسألونه عما لا يعرفونه. هو الأستاذ بينهم. يجيب عما يريد. ويعدهم بإرسال فريق عمل للشرح عندما يطرحون عليه سؤالاً معقداً. مساكين في مجلس الشيوخ. شاب صغير السن يملك المال والتكنولوجيا، يسيطر على السلطة السياسية. أرباب السلطة السياسة منتخبون. يُفترض بهم أن يمثلوا الشعب. هم الآن تلامذة لدى التكنولوجيا. عبيد لها. تخضع السياسة للتكنولوجيا. بداية تطوّر لا يُنبِئ بالخير. لدى كل الفقراء أجهزة ذكية يخضعون لمتطلباتها. يخضعون لأصحابها وصانعيها.

كان المفترض أن تكون الفردية في عصر الحداثة فردية معرفة وحوار ونقاش ومعرفة. فردية ما بعد الحداثة هي فردية خواء روحي. لا معرفة ولا علم. هناك المعلومة في آلة الجيب الذكية. مع ازدياد معلوماتها يظن حاملها أن ذكاءه يزداد. في الحقيقة ذكاؤه يتناقص بنسبة ما يفرغ دماغه إذ هي التي تحل مكان الدماغ. ظن أدعياء ما بعد الحداثة أنها ستكون عصر التحليل والتفكيك، إذا بها تصير عصر الخواء والفراغ. الفردية فيها خاوية لكنها حبيسة ذاتها.

يزول الاختلاق. يصير الناس شبيهين ببعضهم، أو يتوهمون ذلك. تتشكّل جماعة كونية متخيّلة وجديدة فوق كل الجماعات الآخرى. بعد أن تحقق الفرد في زمن الحداثة، يلاقي حتفه في زمن ما بعد الحداثة. تموت الروح في ما بعد الحداثة. خوارزميات بلد ما، أو المعلومات التي تنتج في بلد ما، تسيطر على نتائج الانتخابات الديمقراطية في بلد آخر. مهما كانت قوته وعظمته، ومهما بلغ مخزونه من الصواريخ والقنابل النووية، وغير النووية، والسفن، والطائرات، وجنودها المدربين على تنفيذ الأوامر. الأوامر تأتي من نظام سياسي غير الذي انتخبوه. التلاعب بالمعلومات هو تلاعب بالسياسة. سيطرة من نوع آخر. الأخ الأكبر مرة أخرى. ويجري تعميمه على وجه الكرة الأرضية، وفي باطنها، وفي سمائها.

يجري التحذير من فاشية جديدة (ألبرايت).  فاشية تنتجها التكنولوجيا الذكية. الآلة الذكية في جيبك هي الرسن الذي يقودك، أو تُقاد به. تسحب المعلومات من دماغ الإنسان. توضع في الآلة الذكية. لا يبقى لديك إلا غباء الفاشية. تصنّفك المعلومات بعد أن سُلِختَ عن المعرفة. تشابه المعلومات يؤدي الى تشابه الناس، وانضوائهم في قطعان. مع زوال الاختلاف تتصاعد الفاشية. يغضب الناس لما حلّ بهم. يظنون أن الغير، أو الآخر، سبب بلائهم، ولا يعلمون أن السبب هو الآلة في جيبهم.

تُفرّغ الإنسانية من مضمونها. يصير الفرد من دون معنى أو مغزى. بعد أن أعيد تشكيله ورسم معالم دماغه، يصير وحيداً معزولاً. وسائل الاتصال الاجتماعي تصير وسائل انفصال اجتماعي. التواصل قائم على الاختلاف، وعلى الحوار والنقاش والمعرفة. وسائل الاتصال بالآلات الذكية تفرض التشابه. يتشابه الناس. ينقطع الحوار والنقاش. تنقطع السياسة.

الفاشية هي فاشية التشابه ونقيض السياسة. الناس لا يقررون مصيرهم بالديمقراطية وانتخاباتها. يُقرر المصير أولئك الذين يضخون سيل المعلومات في أدمغة الناس؛ الأدمغة الخاوية. يموت الله لا لأن الناس نكثوا العهد معه أو قاموا بثورة ضده. يموت الله بموت الروح التي خلقها.

أسّس هننغتون نظريته على الاختلاف. توسّع عندنا الخطاب الثقافي والسياسي ضد القبول بالآخر؛ ضد الاختلاف. فهل أردنا التشابه؟ أم أننا أردنا أن يشبهنا الآخر. ترددت الأقاويل بكل بلاهة. حول الآخر والمتشابه؛ وفي حقيقة الأمر، الكلام عن المتشابه هو حديث عن الهوية، والحديث عن الآخر هو عن التسامح. أسوأ كلام العنصرية هو عن الاختلاف. وأحطّ الكلام عن المتشابه هو ما يتعلّق باعتلائنا قمة جبل الأخلاقية. تسامحنا مع الآخر منة عليه لا اعترافاً بأحقيته في الوجود مثلنا. اعترافنا بالمتشابه منةٌ أخرى فكأنه اعتراف بأنه يستحق أن يكون مثلنا.

على كل حال لم يعد الأمر متعلقاً بالاختلاف والتشابه. المختلفان والمتشابهان ليسا كيانين يتصلان أو ينفصلان منة من أحدهما على الآخر؛ أو استعلاء من الواحد على الآخر. صار المتشابهان والمختلفان عجينة واحدة. زال التفريق بين الإنسان والله في جسد واحد. زال التناقض. صار عجينة واحدة كل ذرة فيها متماهية مع الأخرى. لم يعد الاختلاف تناقضاً. ولا التشابه تماهياً. صاروا جميعاً هيولى لا طعم لها ولا رائحة؛ هيولى تقررها وسائل الاتصال الذكية؛ وهذه تفرض سيطرتها. ويحسب النظام العالمي أن وجوده هو الطاغي؛ ولا يستطيع الإقرار أنه جزء من الهيولى. حالة إنكار عامة. عندما تفوّقت ما بعد الحداثة على الحداثة، سيطر الظن أن الوصول الى الحقيقة هدف حقيقي. وأن التشكيك بالحقائق السائدة يوصلنا الى الحقيقة الحقيقية. جاء النظام العالمي المالي، وما بعد الحداثة لإنكار الحقائق الموضوعية بالكامل، ولتسفيه المطلق؛ تسفيه المصير. نظام قائم على الثقة. ثقة الناس بأصحاب المال والشركات والمصارف والتابعين في هياكل السلطة، وثقة الناس بأصحاب شركات التواصل الاجتماعي من غوغل الى تويتر الى مايكروسفت الى فايسبوك، الخ…

تتزعزع الثقة أحياناً عند تكشّف فضيحة التلاعب بكومبيوتر الانتخابات، وعندما يؤدي التلاعب الى تقرير الانتخابات في بلد آخر، وعندما يكشفون أن شركات التواصل لديها المعلومات الشخصية عن كل شخص في العالم. لم يتغيّر النظام العالمي الجديد بل تغيّرت وسائل السيطرة التي لم تعد الجيوش والقوة الجامدة بل وسائل الاتصال والقوة الناعمة.

القوة الناعمة تخترق دماغك، تشكّله، تعيد إظهار نفسك كما يقرر الرقيب العالمي. سيطرت القوة الناعمة على السلطة السياسية. ليس الظن أن الدولة الامبراطورية تسيطر على القوة الناعمة وعلى أصحابها، العكس هو الصحيح. لم يعد هذا الجمع المالي العسكري هو الذي يحدد سياسة الولايات المتحدة، والذي تحدث عنه ايزنهاور عام 1960، بل هو سيطرة القوة الناعمة على السلطة. الأفراد حول العالم يخضعون للقوة الناعمة. هذه نعرف مركزها. لا تلغي هذه السيطرة أنواع السيطرة السابقة، بل تشكّل طبقة فوقها. لم يعد الغزو ثقافياً. وهذا رحّب به البعض ورفضه آخرون. بل صار غزواً لا يستطيع أحد أن يعترض عليه أو يواجهه. الأرجح أن معظم المتلقّين لا يعرفون آثاره كي يعترضوا. ربما اعترضوا لكن بعد فوات الأوان؛ بعد أن يقع الجميع تحت مظلته وينعمون به ويعتبرونه أمراً مفيداً، في أوهامهم طبعاً.

السيطرة بالمعلومات الصحيحة والكاذبة هي أساس النظام العالمي الجديد. لم يعد عالماً شجاعاً بل جباناً، ومُصادراً، وأسيراً، لدى منتجي المعلومات. لم يعد عالم الاكتشاف. هو عالم التكنولوجيا والسيطرة الكاملة. الذي يموت هو نظام عالمي يحلّ فوق نظام آخر أكثر قدرة على خلق عالم آخر بالسيطرة على عقول الناس، لا بالعقل والمعرفة بل بالتكنولوجيا والبلاهة.