24
May
2019
1

الاستبداد – المثقفون العرب أمام امتحان السياسة ٢٠

كارثة أن تفكر الأمة من قفاها تاركة دماغها منتجعاً لأبخرة متصاعدة من معدة مليئة بالهامبرغر والدجاج المقلي على الطريقة الأميركية. التحالف القومي الديني (البعثي الوهابي) منع كل أدوات التفكير. ليس أن مراكز البحث ممنوعة، والخوض في غير مواضيع يقررها الرقيب ممنوعة؛ المطلوب أن يفكر الإنسان كما يُرسم له. ومن يرسم التفكير العربي هم قوم من المخابرات الجهلة الأميين السفلة الذين يتمتعون بأدمغة صغيرة الحجم ورؤوس فارغة وأصوات لا يفهمها إلا من يريد إهانة نفسه.

مراكز البحوث ممنوعة، مراكز التفكير معدومة. الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى يُملى عليها. حتى في أكثر البلدان العربية ديمقراطية لا يمر وقت إلا وتداهم صحيفة أو محطة تلفزيون أو يُحال إعلامي الى المحكمة. إعلامنا يخلو من “الصحافة الاستقصائية”. الأخبار هي عادة ما يصدر عن السلطة من دون أسئلة كثيرة حول صحتها. خريجو كليات الإعلام لا يكادون يجيدون اللغة التي يكتبون بها. حلقات النقاش التلفزيونية تعلوفيها الأصوات على مادة النقاش. كتب التجديف أو التشكيك بالتاريخ الرسمي تصدر من الخارج وبأسماء مستعارة. عدد القراء قليل لأن ما يصدر عن عقل مستنير وجريء هو قليل القليل بعد المرور على مراكز الرقابة. الممنوعات في النشر أكثر من المسموحات. يكاد يكون مستحيلاً أن تطال رئيساً أو رجل دين بما لا يناسبه، فكأن هؤلاء لا يرتكبون الأخطاء. ليس انخفاض عدد القراء إلا لأن الإنتاج الفكري الجريء قليل. مجال اللغة العربية واسع لكن محطات الرقابة والحدود المانعة، مادياً ومعنوياً، كثيرة.

نحن أمة في الظلام. لا يمكن التفكير إلا في وضح النهار. التفكير في الليل يحصل مع الخوف من قرع الباب لاستدعاء ما. في وضح النهار تكاد تخلو الساحات العامة من النقاش الحر. الرقيب في كل مكان.

الثقافة السائدة تخلو من غير المألوف. السلطات السياسية تقمع، ورجال الدين يساعدونها في اعتبار كل بدعة (أي جديد) ضلالة. والضلالة صاحبها الى نار جهنم. أنت مهدد في الأرض وفي السماء. ثابت أن هناك تحالفا بين السلطة السياسية القمعية والمؤسسة الدينية. السجون العربية ملأى بسجناء الرأي.

لم يقدم المثقفون الكثير للدولة، نظرياً وعملياً؛ بقوا أسرى مفهوم الأمة المتجسدة بين الحين والآخر في النظام. وهو نظام قمع يضطر المرء لاجتنابه لاتقاء شر استبداده. في البلدان الرجعية والبلدان التقدمية ادّعى كل فريق حاكم أنه يمثل الأمة، سواء إسلامية أو عربية، وللأمة أولوية على الدولة. وفرضَ نظام الاستبداد نفسه وغيّب مفهوم الدولة، وبالتالي أعاق مفهوم المواطن. وادّعى في نفس الوقت أن المجتمع متخلّف لا يستحق نعت الأمة. واستمرت التجزئة ولم يستطع القطر العربي أن يتحوّل الى دولة. بقي الخيال العربي خارج الواقع والتاريخ، يعاني من أثار سايكس بيكو، ثم قيام دولة إسرائيل والهزائم اللاحقة. ولم يقدر، أو لم يعرف، كيف يتعامل مع هويته كعربي، ولا مع واقعه كعضو في دولة تقصّر عن الحلم العربي. وبقي سهلاً إدانة الغير على ضعفنا وتأخّرنا، وبقي صعباً أن نرى تمزّق واقعنا الفريد كعرب: لا نفهم تاريخنا المجيد ولا واقعنا المحزن. رافق ذلك تمزّق فكري معرفي: نحن لا نستطيع أن نجمع على أن ما حدث في 2011 ثورة، وأن ما تلاها ثورات، وأن الثورة المضادة لكل ذلك بالمرصاد. ساهم الجميع في تهميش المجتمعات العربية، حتى في وعي النخب الثقافية؛ وكان الاستبداد سبباً رئيسياً في ذلك.

رفعت الجماهير العربية في ثورة 2011 والثورات اللاحقة شعار إسقاط النظام لا إسقاط الدولة. لكن الأدبيات، على العموم، لا تميّز بين الدولة والنظام. أهل النظام يرفضون التمييز ويصرون على أن النظام هو الدولة. ولا يقرّون بأن النظام يمثل أقلية في الدولة، سواء كانت الأقلية طبقية أم إثنية أم طائفية.

في عقود مضت كان مفهوم الأمة معيقاً لنشوء الوعي بالدولة. الآن صار النظام والمفاهيم والمصالح المادية المرتبطة به معيقاً للوعي بالدولة. لا يتشكّل الوعي بالدولة إلا بإدراك أنها، أي الدولة، شرط لما عداها، ولا شرط عليها. وجودها حتمي وتاريخي، حتى ولو ماتت الأحلام سابقاً بنشؤ دولة غيرها، دولة الوحدة العربية. لم تتطوّر مفاهيم الدولة القطرية، بحيث أنها هي الدولة-الأمة. كانت هناك اعتراضات ضد التجزئة، ونشؤ الدولة العربية على يد الاستعمار. لكنها، أي الدولة، هي الواقع الوحيد وعدم الاعتراف بها، والعودة دائماً الى سايكس-بيكو، هي عودة تشبه السلفية وإن كانت غير دينية. العقل السلفي يحكم الوعي العربي. هي موجودة، واقعية، محسوسة، ولا وجود لغيرها. كما تريد السلفية الدينية العودة الى ماض متخيّل، أو لم يعد موجوداً، تنكر السلفية القومية الواقع الموجود وتريد العودة الى ماض لم يوجد أصلاً في الماضي القريب أو البعيد. وما زلنا نتحدث عن “العبور الى الدولة” وكأنها غير موجودة. يقصدون بالدولة مؤسسات النظام، في أنها، أي الدولة، مفهوم مجرّد لم ينغرز في ضمائر النخب الثقافية، خاصة التي تديرها نخب سياسية ترفع من شأن النظام الى اعتباره هو الدولة.

الدولة بما هي كل الناس ضمن حدود جغرافية محددة هي الديمقراطية الوحيدة. لا نظام عربياً يتمتع بالديمقراطية. جميعها أنظمة استبدادية. يريدون إسباخ مفهوم الدولة على النظام لتأبيد هذا الأخير بكل ما فيه من تمايزات و”هيراركيّات” طبقية وإثنية وطائفية. يمكن أن تحتفظ كل دولة عربية بسيادتها في إطار وحدوي، من الجامعة العربية الى كيان أكثر تطوراً. لا سيادة للأمة العربية والإسلامية، ولا للوطن، بل للدولة الحالية حتى ولو كانت قطرية مشوبة باعتراضات لم تعد مجدية، بالأحرى لم تعد لازمة.

تمنحنا المعرفة قدرة على التصرّف في هذا العالم؛ تمنحنا السياسة قدرة على تحويل الديمقراطية الى مساهمة المجتمع في مناقشة وتقرير مصيره. ولا تبقى الديمقراطية مجرّد تعداد لأرقام منتخبين؛ ويمنحنا الوعي بالدولة صلابة الانتظام في مجتمع ويبعدنا عن انتهازية الإنتماء الى النظام. يعني ذلك أن يخضع الوعي للمعرفة، وأن يخضع الموقف لثقافة التجاوز والخروج من التقليد، وأن يخضع النظام للدولة، وأن يخضع العسكر للسلطة السياسية مهما كانت، وأن يخضع المال لضرورات الإنتاج، وأن تخضع الديبلوماسية لصالح الدولة. وشرط ذلك كله أن تكون الدولة، وهي توجد حينما تكون إطاراً ناظماً للمجتمع، لمجتمع قرّر فيه الناس أن يعيشوا سوية. مع العيش سوية تزول الطائفية ، ولا تعود الانقسامات العمودية محور الحياة العامة.

الأمر يحتاج الى قيادة سياسية نخبوية عارفة مشبعة بالوعي السياسي. ذلك هو الطريق الذي يوصل الى مواجهة الاستبداد بنجاح وكفاءة. والكل يعتمد على اعترافنا بالدولة التي نحن فيها بكل أمانة وصدق. وفي نفس الوقت نجعل هذا الكيان سيداً في استقلاله. قادراً على التعامل مع أخوته العرب بلا خوف ولا وجل، ولا كذب وتكاذب.

سوف يُعزل الدين السياسي وتقتصر الممارسة على الإيمان. سوف يخرج الدين من الشارع ومن الساحة العامة، ويصبح عند ذلك، وبسبب ذلك، مزية لا نقيصة طائفية. لا نستطيع العيش سوية متى كنا طوائف، والطوائف كيانات سياسية. ففي ذلك تناقض داخلي في المصطلح. إذا كنت طائفياً، وكانت طائفتك هي مجالك السياسي، فأنت لا بدّ أن تكون مباعداً مقصياً منافساً لمن هو من غير طائفتك. علاقة الطائفة بالدين مثل علاقة الدولة بالنظام، تحتاج الى درس ومعرفة ووعي بضرورات العيش سوية في دولة. أن نحوّل الدولة القطرية الى كيان حي باستيعابه الطوائف لا أن نبقى أسرى الطوائف التي تشكّل هيكلاً لعبادة الأصنام. كل زعيم طائفة، بل كل زعيم في بلد مركّب من الطوائف هو صنم، والناس عبدة الأصنام. الوحدة السياسية (مع الحفاظ على الاختلافات وخلافات الحوار والسياسة) هي التوحيد الأساسي الذي لا معنى للتوحيد الإلهي من دونه. إذا كان الله خلق الإنسان على شاكلته، فعلى الإنسان أن يعيد خلق الله من داخل ذاته، على شاكلته أيضاً. لا وجود لله مع وجود الطوائف؛ هي كفر صريح. نستعمل التعابير الدينية لإعطائها معنى آخر غير الذي ورثناه. تجاوز الموروث الثقافي يكون شرطا للحياة السوية. في ظل النظام الطائفي، وما يشابهه، وكل الأنظمة العربية تشابهه، يولد الإنسان، وفي هذه اللحظة يسجّل على خانة الطائفة، على خانة أعداء “المكونات” الأخرى في المجتمع. ويصير عدوا للمجتمع، عدوا للدولة كإطار ناظم للمجتمع. من يصير عدوا للمجتمع يصير عدوا لنفسه، إذا يفقد مقتضيات ضميره ولا يبقى شيء من الأخلاق. الفساد يتعلّق بالمجتمع والسياسة؛ الأخلاق تتعلّق بالضمير الفردي. لا يصير الفساد ثانوياً ( أو يلغى) إلا متى سيطر الضمير الفردي على كل مواطن. لا يصير الإنسان مواطناً إلا بالسلوك على أساس الضمير الفردي. هذه المواطنية هي الوجه الآخر للدولة. هي معنى الدولة. المواطنية (الفردية) سرّ الدولة.

ليس المثقفون العرب كذلك. هم لهذا السبب يخيّبون آمال شعوبهم العربية كلما قاموا بثورة. ما أحلى الثورات العربية في مواجهة الصورة الكالحة لمثقفيها. هؤلاء الذين يشكلون قاعدة للاستبداد بفساد وعيهم بالدولة وغيابها.

لا تحتاج الدولة الى شريعة. تحتاج الشريعة الى دولة. في البداية كانت الدولة. الشريعة إضافة مفتعلة. صحيح أنها شرائع، وأنها موروثة، لكنها من لزوميات ما لا يلزم. سيبقى الموروث الديني موجوداً. الخلاف هو على موضعه في المجتمع. في أن يكون جزءاً من المجتمع، خلفية ذهنية، ممارسة فردية. لا كل المجتمع. لا أسوأ من شعار “الإسلام هو الحل” إلا الدعوة السلفية التي تقضي بطبيعتها بالعودة الى ماض لم يعد موجوداً. وهو لم يكن موجوداً في الأصل. المعرفة التاريخية ضرورية لاكتشاف زور وبهتان ما يدعو إليه هؤلاء.

موضوع الحياة البشرية، كي تكون سوية ومجدية ومنتجة ومصدراً للقوة، هو أن يكون العيش سوية كبشر هو جوهر الموضوع. العيش سوية مع الله ليس مسألة بشرية. والإيمان بالله مسألة أخرى يستطيع كل فرد أن يتعامل بها مع الخالق.

القول بهذه الطريقة، وبهذا المعنى، وبهذا الإصرار، هو كيلا يبقى الدّين عبءا على صاحبه. هو من أجل أن يتحوّل الدين الى قوة روحية، وأن يتحوّل الى قوة أخلاقية. ولا بدّ من الاعتراف بفقدان الأخلاق في مجتمعاتنا. نفقد الأخلاق حين لا يعود الضمير الفردي مصدر السلوك والوعي والمعرفة.

ببغاوات تردّد شعارات ومقولات الاستبداد. لو لم يكن لدى الاستبداد جحافل من المثقفين لما استطاع إعادة تشكيل الوعي العربي لصالح الأنظمة؛ والأدهى من كان الأجدر بالاستبداد والاتجاه نحو وحدة عربية فيدرالية أو كونفيدرالية قاعدتها الجامعة العربية للدول العربية التي تريد أن تلعب هذا الدور مع العلم أن تطوير الجامعة يتطلّب أن يكون لكل دولة (في إطارها) سيادة غير منقوصة. العمل الوحدوي العربي لا يحدث بالنضال الشعبي، بل بسعي الأقطار العربية نحو مصالحها. النضال الشعبي يجب أن يتكرّس لبناء الدول (القطرية) وحسب. النضال الحقيقي هو ما يهدف لبلورة مفاهيم جديدة وأفكار لأمة يمكنها أن تُصنع وأن يُكتب لها البقاء. لا فائدة من النضال الشعبي في كل قطر إلا بالشعارات التي يرفعها كل المناضلين وهي تهدف بالدرجة الأولى والنهائية الى إسقاط النظام وتحقيق ما تيسّر من الكرامة والعيش المقبول اجتماعياً. هكذا يكون إسقاط الأنظمة لصالح دولها وليس العكس.

ما زال أمام المثقفين العرب عمل نظري فلسفي يقومون به؛ العمل يتبعه نضال لطرح برامج وسياسات تعارض ما تطرحه السلطة. ما نقوله هو أن المعرفة والوضوح النظري هما طريق الممارسة النضالية وليس العكس. لم يكن جائزاً تكرار شعارات للمقاومة كانت هي هي منذ الستينات وقبلها وحتى اليوم. المقاومة المطلوبة ليست سليلة القوانين. مع نهاية الحروب الأهلية لا بد من بناء دول منتجة بقواها الداخلية؛ ولا يعني ذلك رفض المساعدات الأجنبية التي تتناسب مع المخططات والحاجات الأهلية. يبني البلد أهله، كمواطنين، وليس قوى أجنبية مهما كانت النوايا حسنة.

المنطقة العربية هي منطقة قائمة في ذاتها، وهي تشكّل الجامعة العربية. على الصعيد السياسي هذا الكيان هو الذي يجب تطويره الى جانب العمل لتطوير كل دولة عربية بسيادة قطرية كاملة.

ملخص ما سبق: الدولة في مواجهة النظام. جميع الأنظمة العربية يجب إزالتها من الداخل. لا يمكن مواجهتها إلا بنظام فكري نظري متكامل. لقد ثبت تهافت الدولة الاستبدادية ومن الضروري إزالتها عن بكرة أبيها، وإنشاء دول بكل معنى الكلمة.  دول تصير فيها كلمة المواطن لدولته. وهذه الدولة توصل رغباته الى الجامعة وغيرها.

إنّ ترديد النخب الثقافية أقاويل الأنظمة، من دون عمل فكري يناقضها، لن يفيد كثيراً في السير على الطريق الصحيح. وإلا ستبقى النخب الثقافية أسيرة أنظمة الاستبداد وخاضعة لها عن قصد أو غير قصد.