22
Feb
2019
1

الاستبداد – سيطرة السلطة على الدولة ٤

عندما يقبض صاحب الاستبداد (الطاغية) على النظام فإنه يهدد فكرة الدولة، وصولاُ الى إلغائها. يفترض بالنظام تطبيق القانون والعمل بالأوامر من أجل ما يسمى هيبة الدولة. يُفترض بالدولة أن تعمل على أساس مشاركة الجميع ومساهمتهم في قراراتها. في النظام يولد الرعايا. في الدولة يولد المواطنون. في النظام الرعايا مسيّرون. في الدولة الناس أحرار. مشاركتهم حقيقية، وان انتابها في كثير من الأحيان نقائض ناتجة عن رجحان قوة النخب المالية والعسكرية والمالية الذين تحمل أراؤهم وزناً أكثر مما تحمله آراء عامة الناس. لا مساواة ولا عدالة في أي دولة، ديمقراطية أو غير ديمقراطية. لكن الدولة بحد ذاتها تحمل بذور الديمقراطية مهما كانت. بل الدولة كما نفهمها من دون غيرنا ربما تعني الديمقراطية.

يكرس الطاغية والنظام من حوله جهدهما لإقناع الناس بأن ما يمارسانه هو استبداد ضروري للمجتمع من أجل الاستقرار. البلد يتعرّض للكثير من المؤمرات الخارجية التي تُخترع بالمئات وتُستعرض أخبارها الكاذبة، ما ظهر منها وما سوف يظهر، من أجل خلق حالة من البارانويا والهستيريا لدى الناس. يعلّق الدستور. تُفرض أحكام عرفية. ربما تستمر الحالة عشرات السنين.  المجتمع بنظر الطاغية يجب أن يبقى مستعداً ومتوتراً خوفاً من المؤامرة التالية. البلدان العربية أكثر من عشرين. يُضاف إليها الدول الخارجية؛ تنشأ أحلاف بين هذه وتلك في أجنحة ذات سياسات متعارضة. يدور حديث الناس حول المؤامرات الخارجية وتهديدات الأجنحة العربية المضادة وأحلافها، وتغيب مشاركة الناس في أمورهم اليومية، والمشاركة في إدارة بلدهم، وانشغالهم بالسياسة، بمعنى إدارة المجتمع. ويصير المجتمع كمّاً مهملاً. بالأحرى لا لزوم له. ما يلزم هو الطاغية وحاشيته لردّ المؤامرات الخارجية. يفقد الداخل أهميته. خطر الخارج تمليه السلطة.

على الناس أن يبذلوا الغالي والرخيص كتضحية في سبيل النضال ضد الخارج. وهذا ليس سياسياً وحسب بل هو ثقافي أيضاً. تنتشر نظريات احتقار تعلّم اللغات الأجنبية، ويكتسب المجتمع مناعة ضد الغزو الثقافي. حتى ولو لم يكن الخطر الخارجي سياسياً أو عسكرياً، إلا أن الخطر الثقافي داهم، يومي وآني. وعلى المجتمع مواجهته بكل الوسائل. الطاغية أبدي الوجود. كل طاغية منهم يتلاعب بالدستور والقانون كي تأتي مدة حكمه أبدية أو ما يقارب الأبدية. على الأقل حتى الموت. وبعد الموت يرثه ابنه. تراث أبيه لا يمكن الاستغناء عنه ولا يمكن ضمان استمرارية البلد إلا بالتوريث. ليس فقط الرهن، بل يصير المستقبل مصادراً. عائلة الطاغية تفهم أكثر من غيرها. وجودها يضمن الاستقرار. وجود الشعب وانتماؤه للدولة وتضحياته من أجلها لا تضمن شيئاً. ينتهي الأمر الى المقولة التالية: الشعب وجد ليكون محكوماً. الدستور آلية تمديد الحكم. الجيش مهمته حماية الحكم بدل حماية حدود البلد. أجهزة الأمن، والقمع، والتعذيب، والقتل، والتشريد، ومصادرة أموال الناس، وإهانتهم، وجدت من أجل ديمومة الحكم. لا أهمية لكرامات الناس. كرامات الرئيس تعوّض عن كل الكرامات. تُداس كرامات كل الناس. لا سبيل للاحتكام للقانون. الرئيس فوق القانون. عشوائية السلطة وأجهزتها تفترض ذلك وتعمل على هذا الأساس.

لكن الطاغية لا يثق بشعبه. هو يعرف أن الكذب متبادل. هو يكذب لأنه يضمر غير ما يعلن. والشعب يكذب لأنه يظهر غير ما يضمر. القمع يجبر الناس على التخلي عن الأخلاق، وإغلاق الضمير، وفرملة العقل. ينتهي المجتمع الى الإغلاق. يغلق نفسه، يدور حول ذاته، تتعطّل آليات المشاركة. بالتالي تتعطّل آليات التفكير. تتحوّل البارانويا الى نوع من الاستسلام والخضوع. تضمحلّ القدرة على العمل، وعلى الإنتاج، وعلى الدفاع عن الوطن حين يتعرّض لهجوم خارجي. ينهزم الوطن وتبقى الثورة. يحتل الأجنبي أجزاء من الوطن، لكن الثورة تبقى. وما حدث في البداية لم يكن ثورة اجتماعية بل انقلاب  بضعة ضباط لاستلام السلطة. تبقى حالة الطوارئ ما بقي النظام. هي قاعدة حكم الطاغية.

في ظل حالة الطوارئ، يُعدم كثير من الناس لمجرد الاشتباه بهم. يأتي الاشتباه تجاه شخص ما كنتيجة لتلفظه بكلام غير مناسب في اليقظة أو في الحلم. على المواطن أن يبلغ عن كل ما يحدث له، حتى ما يدور في ذهنه أثناء النوم. حياة الناس على مدار الساعة تخضع للرقابة. معظم العاملين في الرقابة أغبياء أو قليلو الثقافة. يضطرّ المشتبه به الى تبسيط لغته كي يصير مقنعاً لأصحاب الرقابة.  يتدنى مستوى التفكير لدى الناس، بالأحرى تضمحلّ النخب الثقافية. تموت الأفكار. طبيعي أن يحدث ذلك مع تعطيل العقل عن التفكير. الطاغية يفكّر عن الجميع. الأجهزة تنقل للناس نتاج تفكيره. على الناس تبنّي أفكاره. كأن الطاغية هو الله، والأجهزة تفعل ما كان جبريل يفعله. الفرق هو غياب الأنبياء. يستعاض عنهم بأنبياء وكهنة الاستبداد. لا غرابة أن ينتشر المزاج الديني في الشؤرون الدينية والسياسية. ينتشر الإسلام السياسي. يظهر التطرّف. يستخدم الطاغية ذلك. يدان المجتمع بتهمة التطرّف وصولاً الى التكفير. المجتمع لا يستحقّ الاحترام. الاحترام حكر على الطاغية الذي يرتدي ثوب الحداثة. تنقلب المواجهة من مواجهة بين الاستبداد ومطالب الحرية والكرامة، الى مواجهة بين حداثة الطاغية (حداثة كاذبة) وتأخّر المجتمع، أي البيئة الحاضنة للتكفير (وهذا أيضاً مفتعل). كثيراً ما يغذّي النظام المتطرفين الدينيين بالمال والسلاح من أجل أن يظهر بمظهر الحداثة والحفاظ على السلم الأهلي. كل هذا السيناريو يقود الى حرب أهلية. فيها الكثير من التشنجات بين النظام وزبائنه وبين المجتمع. تموت فكرة الدولة، بالأحرى تدفن في مقابر الحرب الأهلية.

لا دولة إلا حين انغراز الانتماء إليها في ضمير كل مواطن، وذلك نتيجة المشاركة مع السلطة في إدارة شؤون المجتمع وتقرير المسار نحو المستقبل. يموت المستقبل. يشعر عامة الناس بلا جدوى كل شيء عدا اسقاط النظام. يتحوّل الصراع من أجل الحرية الى احتراب حول السلطة. تصير المعارضة صورة أخرى عن النظام: طلاب سلطة لا أكثر أو أقل. يطغى النظام على الدولة. تموت فكرة الدولة. لا يبقى مهما سؤال العيش سوية. المهم إسقاط النظام لدى فريق، وحرص النظام على الاستمرار لدى فريق السلطة.

تنطبق هذه الرواية على جميع الأنظمة العربية، بشكل أو بآخر. لكل قطر خصوصيته، وهذا صحيح. لكن القاسم المشترك في جميعها هو غياب فكرة الدولة، عفواً، اغتيال الدولة. ما كان ممكناً أن يتطوّر باتجاه الدولة ما أجهض عن طريق تهميش المجتمع وإلغاء السياسة. تعني السياسة الحوار والنقاس واجتراح التسويات بين الآراء والمواقف والمصالح المختلفة. تعني باختصار مشاركة الناس من أجل انتظام المجتمع على تعدديته. السياسة هي قوام الدولة. الأمر هو قوام الاستبداد. تُبنى الدولة بالسياسة. يقوم النظام، أو السلطة، على الحكم بالأمر والتوجيه والإرشاد. في السياسة تبادل أفكار ومواقف بين الناس ليُصار الى التعبير عن ذلك في قرارات السلطة التي تتحوّل الى دولة؛ لا تصير دولة من دون ذلك. المسألة أعمق من ديمقراطية تُحصى فيها الأصوات. هذه يمكن أن تخدم الطاغية. الديمقراطية التي لا بدّ منها هي تلك التي يكون جوهر أصوات الانتخابات فيها مواقف وأفكار لدى المقترعين من أجل تقرير المستقبل. معظم الطغاة يستخدمون الانتخابات قبل أو بعد الانقلاب. ربما لا يحتاجون الى انقلاب. ربما يأتي الانقلاب لاحقاً لتطهير الحياة العامة من أصحاب الأفكار غير الملائمة لحكم الطاغية (كما في تركيا).

مع وجود الدولة الحقيقية، الدولة الحديثة، يتماسك المجتمع ويصعب قهره من قوى خارجه. لم تنهزم البلدان العربية في مواجهة اسرائيل، إلا أنها انهزمت في الداخل قبل الصراع. الهزيمة الأعمق هي انفصال السلطة عن المجتمع. وترك المجتمع كمّاً منسياً خارج إرادة الفعل والنشاط، وخارج إرادة العيش سوية ومشاركة الجميع في جميع القضايا. المجتمع المتماسك يعمل في العلن. كل القضايا علنية. البحث فيها يجري بعلانية. هو المجتمع المفتوح. مجتمع الاستبداد مغلق ومهمّش، ملغى ومضطهد. المجتمع المفتوح هو مجتمع الدولة، حيث الدولة (والقانون والدستور) منغرزة في ضمير كل فرد. مجتمع السلطة المتسلطة غائب عن القرار وعن الفعل العلنيين؛ هو يعمل بالسرّ.

 الخلط بين مفهومي السلطة والدولة يعني في بلادنا العربية، من دون استثناء، غياب معنى الدولة. المعارضة تواجه السلطة والنظام. الدولة تجريد لا يعارضه أحد. لا أحد يعارض انتظام المجتمع في دولة. كل أحرار الضمير يعارضون السلطة التي يؤدي تسلطها وقمعها للناس الى تهميش المجتمع وصولاً الى إلغائه، وإلغاء دوره في تقرير حاله الراهنة والمستقبلية.

لا دولة من دون مجتمع مفتوح. تتآكلنا الطائفية في لبنان. لكننا مجتمع مفتوح وإن كان هناك بالمرصاد أخطاء كثيرة وأمراض اجتماعية وسياسية كثيرة. يحسدنا بقية العرب على ما نحن فيه لكننا لا نحسد أنفسنا. نتحمّل ما يعتري نظام الحكم من معالم تشير الى وجود استبداد خفي. ألا نلاحظ أنه في لبنان خفّ منسوب الإنتاج الشعري والأدبي والفني عموماً؟ ينخفض منسوب الابداع مع ارتفاع منسوب الاستبداد.

غياب الدولة في البلدان العربية هو غيابها عن ضمير كل فرد فيها. أسباب هذا الغياب لا تتعلّق بالثقافة. ثقافتنا الراهنة هي نتيجة الاستبداد. غياب الدولة هو غياب في العقل وفي التفكير السياسي. ولا علاقة لذلك بالموروث الثقافي الذي كان يمكن أن يستخدم في هذا الاتجاه أو ذاك. التطورات السياسية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى أدّت الى تبلور أمر الاستقلال وصولاً الى ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما حصل استقلال معظم البلدان العربية. وظهر الوعي العربي حول مفهوم الأمّة، سواء عربية أو إسلامية. واعتبرت الدولة القطرية مستوردة ومن صنع أجنبي (سايكس-بيكو). فهي لا تستحق الاعتبار. في الوقت ذاته سيطر الاستبداد في الأقطار العربية المستقلة التي أكّدت على ضرورة التعبئة الشاملة ضد الأجنبي المتآمر ضد الدولة القطرية. بالطبع لم تسع هذه الدول نحو الوحدة، ولم تف بما وعدت به من تنمية. الحقيقة أن الدول القطرية نشأت كما تنشأ الدول في غالب الأحيان بقرارات خارجية. قرارات الدول الكبرى، لكن سلطات الدول المحلية كانت مستوردة نوعاً ما. كانت سلطات هذه الدول، تحت حجج شتى؟، تعطي الأولوية لديها للرضى الخارجي على رضى مجتمعها. ما حصل على الأرجح هو أن مفهوم الدولة نشأ في الوعي العربي مزعزعاً مع ولادة الدولة. ما نشأ فعلاً هو سلطات قمع كانت في الغالب سلطات أمنية وعسكرية تدعمها البيروقراطية.

كانت النخب العربية تعيش في دول-أنظمة، وكان وعيها أسير مفاهيم الأمة التي تعلو على الدولة. خسرنا الإثنين معاً: الدولة القطرية لم تنشأ (كدولة حديثة)، ودولة الأمة الكبرى في خبر كان. والآن تتجه “الدول” العربية بأعداد متزايدة الى التفاهم مع إسرائيل بدل التفاهم مع شعوبها. ربما خيّل للبعض (من النفطيين) أن الموارد المالية قد تساهم في تكوين الأمة الكبرى (الإسلامية)، أو ربما خيّل للبعض من الوحدويين العرب أن تراث الأمة في الفتوحات والعلوم يمكن أن يقود الى أمة عربية واحدة (دولة واحدة). الواقع الفعلي هو للدولة القطرية. وهذه ما احتلت يوماً موقعاً ذا أولوية في تفكير نخبنا رغم وجود الجامعة العربية.

استفاد الاستبداد من تدمير فكرة الدولة، وأمعن في تعميق ذلك. بعد ثورات 2011، تشن منظومة السلطات العربية ثورة مضادة. تتدخل “الدول” العربية في شؤون بعضها بعض بدل  أن تتفق بما يوازي صلح وستفاليا للعام 1648، حين أقرت الدول الغربية بالحدود الراهنة آنذاك لكل منها. لم تفهم، أو لم ترد أن تفهم، النخب العربية أن الوحدة العربية يكون السعي إليها عن طريق الدول. وحدة الشعوب حاصلة، والبعض يعتبر غير ذلك. الشعوب تطالب بما يتناسب مع مشاعرها: بناء كيانات سياسية تتناسب مع المصالح العربية المشتركة، أو التي يراد لها أن تكون مشتركة، وهوالسعي المجدي.

أضاع العرب فرصة كبيرة بعد تعايشهم مع الواقع. واقع الدول القطرية. سحبوا منها الشرعية لصالح الأمة التي احتلّت الأولوية الأولى في وعيهم، وما تزال. ليس المطلوب نسيان الأمة، بل بناء الدولة القطرية الحديثة لتكون طريقاً الى التقدم، بما في ذلك الوحدة إذا اعتبرت الوحدة أمرا تقدمياً.

في أواسط القرن العشرين أوهم الاستبداد الشعوب العربية بالوحدة. نشأت مشاريع وحدوية هنا وهناك. فشلت جميعها لأن الدول التي كانت تعد بها لم تكن دولاً حقيقية وصاحبة قرار، وقادرة على تنفيذ قراراتها. وكالاتها عن الشعوب لم تخوّلها ذلك. كانت وكالات منتزعة بالقمع. وكالاتها عن الدول الكبرى لم تكن تهدف لذلك. أزمة كل بلد (قطر عربي) تكمن في الشرعية، شرعية الدولة. لا دولة من دون شرعية تحصل على رضى الشعب. كل السلطات (أنظمة) تثبّت وضعها (وتؤيده) بالقمع والإذلال والحروب الأهلية راهناً.

تتثبّت عروبة كل قطر عربي ببناء الدولة، وهي قطرية لأمد طويل حتى ولو كان ذلك الى الأبد. عندما تصبح السلطات (الأنظمة) دولا حقيقية يكون طبيعياً وتلقائياً أن تأخذ بالاعتبار مشاعر شعبها الوحدوية، أو إذا صارت غير وحدوية. لا يمنع وجود دول عربية صغرى من اعتناق هوية كبرى. المهم الفهم السياسي للدولة ومعناها. الفهم السيّء لهذا الأمر أدّى الى كيانات مزعزعة، والى استبداد يحاول تثبيت نفسه بكل الوسائل، وأهمها القمع والتعذيب، والحروب الأهلية أخيراً. وكل ذلك من خلال الاعتماد على قوى دولية واقليمية.

أصبحنا الآن مهزلة التاريخ. مهزلة مبكية مؤلمة. لا خروج من ذلك إلا ببناء الدولة الحديثة (القطرية) وكسر الاستبداد؛ وهو سبب ونتيجة لوعي سيّء بالدولة وبالمآلات التي يقود إليها هذا الوعي.