14
Apr
2017
1

الانتلجنسيا ونقائضها

موضوع الانتلجنسيا العربية هو ذاته، ان تعرف، ثم ان تعرف كيف توفي. معرفتها تقرر ذاتها. فتدرك مجتمعها وتقفز فوقه وتتجاوزه. تتجاوز الذات وتبقى ملتزمة بها. تكون معرفتها غير هادفة، غير مقيدة، غير واقعية، غير نفعية. بل كوزموبوليتية، عابرة للقوميات والاتنيات والاعراق، كونية انسانية، مع التعلق بالحي الذي جاءت منه في المدينة او الريف.

اسلوبها هو التناقض مع نفسها. هي الذات والموضوع في آن معاً. هي من ينّظر ويدرك ويتفلسف، لأنها تعرف، وهي التي تضع نفسها موضوعاً لذاتها، موضوعاً للتشريح والنقد والتجريح، اذا احتاج الأمر. “الآن” بالنسبة اليها أزلي أبدي، هو التاريخ وتطوراته. المستقبل هو الآن؛ عملها دائم لصنع المستقبل، وعي تبثه الى مجتمع يصنع المستقبل. معرفة التاريخ وتجاوز الماضي. تقديس الكتاب المقدس وتفكيكه في آنٍ معاً. يتحول بين يديها الى جملة مواضيع لا تستحق القداسة. اجزاء لا تستحق القداسة لمجموع مقدس. مجالها هو المباح. لا علاقة لها بالتحريم والتحليل. كل ما في مجتمعها، بنظرها، يستحق التقديس، وكل في مجتمعها، بنظرها يستحق التفكيك والتدمير.

مهمتها التركيب من دون قسر. التعبير عن المجتمع من دون قسر، التعبير عن عجره وبجره من أجل بث روح تقوده. تغيير المجتمع مع الاحترام الكلي له. مواقفها تنبع من ذاتها ومن مجتمعها. عندما يكون تناقض بينهما يتوجب عليها الخيار، تختار الصواب وان كان في الامر سباحة ضد التيار. تنطلق من العلم وتفهم الدين. تعمل على اساس العلم الحديث وتدرك ان الايمان ضرورة للروح. النفس لها والروح للخالق. الخالق موجود وغير موجود: هو المصير المطلق، هو اللامحدود. تحيل المحدود الى لامحدود. هدفها في النهاية ان “لله رجالا اذا ارادوا أراد”.

اخلاقها النزاهة. نزاهة فكرية قبل الاخلاقية. لا تدري ما هو الحد الفاصل بينهما. موضوعية لا حيادية. الموضوعية في سبيل المعرفة، واللاحياد في سبيل الموقف والالتزام. لا يمكن حصر وعيها في زمان او مكان. اذا التزمت فلا يكون ذلك الا من أجل الفقراء والعمال. لا تخجل من الالتزام، تعتبره واجباً عليها.

عاطفتها ليست تخلّ بموضوعيتها. العاطفة ليست عيباً فيها ولا عبءا عليها. هي اشارة الى هدف مرتجى. تتأسس على الوجدان المجتمعي وما خزنه التاريخ في وعي الناس، الذاكرة المنسية القابعة فيما دون الوعي الظاهر. الذاكرة المعتبرة منتهية، لكنها تقرر الكثير مما يشكل وعي الناس. النتائج عندها لا تقرر الاسباب. كل الاسباب لها نتائج من فعل البشر. هي موضوع البحث والسعي الى اهداف انسانية كونية.

الحرية عندها مقدسة. مقيدة فقط بما يمليه الضمير، ضمير العارف لا الجاهل. قيد آخر هو عاطفتها الى جانب العقل. تلتزم قضايا أمتها ومجتمعها، لكنها تنفلت من القيود عندما ترى ما يمنع التطور والتجاوز والانخراط في العالم. ضميرها مرجعها. وما يمليه عليها ضميرها هو الذي يخرجها على مجتمعها. عندما يخرج وعيها على مجتمعها، تبقى فيه، منه، وله.

هي ليست على اطراف المجتمع، هي في صلبه، هي نواته. وعيها يشعّ من ذاتها، يبلور وعي المجتمع. تقول ما لا يستطيع الآخرون التعبير عنه، ولا يستطيعون ذلك لقصور في التعبير أو لموانع تُفرض بالاكراه. تعبر عن وجدان المجتمع وحاجاته. تخرج المكبوت والمسكوت عنه الى العلن. هي مركز الحوار في المجتمع. عديدها قليل، لكن ما تقوله وتفكر به وفيه يتسرّب الى المجتمع. يعتمد النهوض عليها، والنكوص ذنبها.

منطقها قائم على الشك والسؤال. لا مشكلة الا ولها حلّ. اذا لم يكن لها حل فهي لغز. الالغاز غير موجودة. التفكير سعي دائم. التأمل واجب. يكون قاصراً اذا لم تدعمه التجربة. التجربة لا تكتسب بالتحليق في المجهول، بل بالسعي لتحويل المجهول الى معلوم.

ارفع تعبير عند الانتلجنسيا هو الدولة، لا بمعنى السلطة والصراع عليها، بل بمعنى ادارة المجتمع. الدولة تجريد يقبع في الضمير الفردي. عند ذلك يصير هذا التجريد جزءاً من الفرد، ويصير الفرد أوسع من الدولة. هي ليست النظام. هو هذه المؤسسات الحكومية والنيابية والامنية والدبلوماسية، الخ… عندما تفقد الدولة موقعها في الضمير تتحول الى نظام، عندما يرتفع النظام الى مستوى التجريد يصير دولة، يصير هو الاقتناع الذي يسيّر حياة الناس. الدولة اطار ناظم للمجتمع. الاقتناع به هو الشرعية. شرعية الدولة تمنح النظام شرعيته لا العكس.

الانتلجنسيا العارفة الواثقة من نفسها يقف النظام واربابه على ابوابها. لا تقف هي على ابواب السلاطين والحكام. اذا اضطرت، في سبيل لقمة العيش مثلاً، فلا تتملق ولا تمدح. تقول ما عندها. الالتزام بآداب المعاملة لا يمنع قول الرأي الحر النابع من الضمير. ليست مهمتها وعظ السلاطين بل التعبير عن المجتمع ووجدانه وحاجاته. ليست بلورة رأي أهل الحكم، بل بلورة وجدان المجتمع. سبل القول كثيرة.

شجاعتها في فكرها. هو تجاوز لما الامر عليه. يضيق بها المجال. هي اوسع من الفضاء الاجتماعي. هي فيه، وتقف خارجه كي تعرفه. هي له وتلتزم به التزام العارف. الشجاعة هي الاقدام على غير المفكر فيه، الاقدام على غير السائد من الافكار. عندما يوضع القمر في يمينها والشمس في يسارها لا تترك ما تعتبره حقيقة. ألسنة الخلق أعلام الحق. الحق المكبوت هو الحقيقة. ديدنها عدم الاخذ بظواهر الامور والشائع من الشعارات والمقبول من السياسات. اكاذيب السلطة لا تخفي الحقيقة، ان عرفت النخبة كيف تبحث عنها. الاقوياء يكتبون التاريخ ويكتبون معه الاكاذيب ويلفقون الدعايات. الضعفاء يصنعون التاريخ دون مواربة. ليس لديهم الوسائل من أجل ذلك.

إن أخطر ما تواجهه الانتلجنسيا هو الدونية، هو اعتقاد واسع الانتشار بأن قابليتنا للثقافة وللوعي ادنى من الغير. كل الشعوب (البدائية والمتقدمة) ذات عراقة متساوية في الحضارة. اعتقاد الانتلجنسيا العربية بالدونية الثقافية تجاه الغرب، او اية جهة اخرى، يبقيها في أدنى سلم الانجازات الثقافية والحضارية. ما كانت داعش ممكنة لولا هذه الدونية. داعش تدمر الغرب الذي تعلمت منه التكنولوجيا لشعورها بالقِصَر تجاهه، ولشعورها انه اعطاها التكنولوجيا وتآمر عليها ايديولوجياً. هي بالطبع تهتم بالآني والمباشر ولا ترى غيرهما. لا تنظر الى التاريخ لترى ان مجتمعنا، عندما كان واثقاً من نفسه، اعتبر طبيعياً ان يأخذ من الغرب والشرق وان تتكون الثقافة العربية او الاسلامية من هذه الوافدات الغريبة التي تدجنت واستوعبها مجتمعنا فأصبح مجتمعاً أكثر تقدماً بفعل ما اكتسبه من الحضارات الاخرى. لم يكن ديدنه الصراع الحضاري بل استيعاب حضارات العالم. تمارس داعش واخواتها الآن مقولة صراع الحضارات وتمارس العنصرية مقلوبة ضد نفسها ومجتمعها. هي النقيض المطلق للانتلجنسيا كما يجب ان تكون. وهي، اي داعش، معادية للعقل والرأي وكل عمل ذهني. تقليد اعمى لوهم تعتقده السلف الصالح. التفكير عندهم ممنوع. لا يعرفون التاريخ والتطور. يمارسون ديناً جديداً. تدمير التراث يتم على ايديهم. لا يحتاج الامر الى مؤامرة اجنبية: هم المؤامرة.

هم الحد الاقصى لحركات الاسلام السياسي. وكل حركة عندما تبلغ أقصى مجالها الفكري تنفجر من الداخل. هم الحد الاقصى ايضاً لذهنية انصاف المثقفين الذين يقابلون الانتلجنسيا بسخرية واستخفاف بحجة ان المفكر فيه وغير المسكوت عنه يدخل في باب النظريات والفلسفات غير الضرورية، او الضارة، او على الاقل، التي لا تفيد في جني المال من اولي الامر والسلاطين. بقصورهم المعرفي يدقون ابواب السلاطين. يبررون انفسهم بالتهجم على الانتلجنسيا الحقيقية التي تترفع عن ذلك. يتهمونها بفقدان الروح العملية. يعتبرون الروح العملية هي اولوية المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، وليست المقابلة بين المعرفة والجهل. هم ابناء نظام القمع ولو عارضوه. لا يستطيع الاستبداد التعايش الا مع الجهل. يتشارك النظام الاستبدادي وانصاف المثقفين وداعش واخواتها في الجهل المقدس. هي ظاهرة عالمية لا تقتصر على مجتمعاتنا. نادراً ما نرى نقداً جدياً للنظام الراسمالي المالي العالمي. حتى الماركسيين منا يتحدثون عن المنظومة العسكرية ـ الصناعية، ولا يعلمون ان الزمن قد تجاوزها وان الرأسمال المالي هو سمة العصر النيوليبرالي. والنيوليبرالية وانتشار الدين الجاهل بنفسه وجهان لعملة واحدة. الروح العملية عندهم هي الحفاظ على الروح العملية في هذا النظام، وكيف ان المال يصنع المال. يتوسع المال ليصير الهاً يتولى الانسانية بالتوازي مع اله البشرية، وربما بالنيابة عنه. الجهل بالدين يوازي الجهل بالنظام العالمي المالي، يوازي تقديس الجهل والروح العملية السائدة التي تديرها شاشات التلفزيون والتلفونات الذكية التي بمجموعها تعلم الناس ان لا يفكروا، بل ان يتعلموا الحديث بكلام متقطع، ويسمون تلك وسائل اتصال اجتماعي. وهي في الحقيقة وسائل انفصال لا اتصال. يصير البشري متعلقاً باللوح الالكتروني. علاقة تطغى على علاقته بالبشر الآخرين. غزت الرأسمالية المالية العالم، والكل يريد ان يقلدها، ليس لما فيها من مزايا، بل لما فيها من تفكيك وتدمير. يصير البشر اداة لها، كما أداة للجهل.

مجتمع ينتشر فيه الدين، يحسب نفسه تابعاً لله، وهو في الحقيقة يتفرغ من الاخلاق. من يسلم ضميره لغير ذاته يخسر اخلاقه، اذ يعمل حسب مشيئة غيره. الاستبداد جاهر بالعمل مع الله، ومع الرأسمال المالي. يتوسع الجهل ويصير مقدساً. مجتمع لا مكان للانتلجنسيا فيه. يصير التفكير هو الجريمة، والعقل هو ما يجب التخلص منه.

عندها يقف الطاغية متبجحاّ ان الثورة قام بها ناس ليسوا مثقفين ولا يملكون برنامج عمل. اذا لا ضرورة للثورة. اذا علينا التبدل نحو الروح العملية، وطلب الاستجداء، وتسول المال الذي وفره النفط، والنفط هبة من الله، والله يريدنا ان لا نفكر، وعالم الدين يريدنا ان لا نفكر، والطاغية يريدنا ان لا نفكر، والرأسمال المالي العالمي يريدنا ان لا نفكر.

كلهم يريدوننا ان نكون نسخة عن غيرنا.

تناضل الانتلجنسيا من أجل اثبات وجودها، من أجل ملكة العقل والتفكير والموضوعية.

الا نرى القتل والتدمير المتبادل بين سدنة هيكل الجهل المقدس. الا نرى ذلك نقيضاً للتفكير والمعرفة والعقل والثقافة؛ الا نراه نقيضاً للاخلاق ولا مكان ان يبقى البشري انساناً؟