18
Apr
2018
2

التجاوز ٢

يُفترض أن ما يجمع العرب أكثر مما يفرقهم. لكنهم متفرقون ويتعرضون لأسوأ أنواع الثورة المضادة والحرب الأهلية والاحتلالات الأجنبية. الحكومات العربية مشلولة. الشعوب العربية تشعر أنها تُعاقب بسبب ما حصل بعد 2011. تتعامل المجموعة الدولية مع العرب وكأنهم غير موجودين. النفط فقط موجود. يُستقبل ملوكهم وأمراؤهم في مختلف أنحاء العالم. مرتزقة للحرب والمال. تُباع لهم الأسلحة بكميات كبيرة. ينفقونها في قتل بعضهم البعض. يشرفون على ذلك ويسمونه تحالفات دولية ضد الإرهاب. صار الوطن العربي حاملة نفط من نوع آخر. لم تعد الأرض العربية ذات دول لها سيادة عليها. المجال العربي مفتوح لجيوش القوى الكبرى العالمية والاقليمية. ترى هذه الدول في الوطن العربي مجالاً حيوياً، بسبب موارده. لكن، وهذا هو الأهم، بسبب ما ينتجه من نفط. يريد الغرب كل فوائضه التي يصادرها ليبيع حكامها أسلحة. ربما كانت أسعارها مضاعفة عدة مرات. وهذا يفيد في استنزاف العرب. الأهم أن الأسلحة من أجل أن يقتل العرب بعضهم ويدمرون بلادهم. مزبلة التاريخ. التمني هو أن يكون ذلك مؤقتاً حتى إشعار آخر. التمني أن يستطيع العرب الخروج من هذا النفق.

الحرب تجري بين سلفيتين. واحدة دينية وأخرى قومية. كل منهما تعتمد الأصل في الماضي الذي يجب أن يحتذى. السلفية القومية ليست قومية عربية. والسلفية الإسلامية سياسية أكثر منها دينية. لا تهتم هاتان السلفيتان بمصير الأمة العربية، بمقدار ما يهمهما الحفاظ على السلطة. لدى بعض السلفيات هدف هو القدس، أو فلسطين إذا توسع النقاش. لدى بعض الاتجاهات القومية هدف السلطة لا غير، حتى ولو أدى ذلك الى استدراج قوات دول عظمى لحمايتها. تكاد المنطقة تكون مسرحاً لحرب عالمية. وتكاد الأمة العربية تكون غائبة عن الصراع الدولي إلا بعض التصريحات ضد هذا العدو من المنطقة. إيران في الشرق وتركيا في الغرب.

تغيب السياسة عن بال جميع الحكام. لا يدرون، أو يدرون، ويمتنعون عن الإقرار بأن الحرب ضد الاحتلالات هي حرب قومية، وما عاد بالإمكان حروب تحرر وطني كما كان الأمر في أعقاب الحرب العالمية الثانية. تتطلب المواجهة، سواء ضد إسرائيل أو الدول العظمى، في المنطقة وفي العالم، تحضيراً من نوع آخر يعتمد على شعوب هذه المنطقة، وعلى انتاجها، وعلى مستوى تماسكها. فعلت الأنظمة كل ما بوسعها من أجل تراجع الإنتاج الاقتصادي غير النفطي. فكأنه ليس لدينا إلا النفط؛ وفعلت كل ما بوسعها لقمع الشعوب العربية وإخراجها من الصراع. صارت الجماهير كمّاً مهملاً.

دعونا نتريّث قليلاً. الانخراط في العالم، المجتمع المفتوح، التجاوز، كل هذه تبقى شعارات إذا ما اقتصرنا على العناوين ولم نخض تجربة فكرية من أجل بلورة هذه العناوين ووضعها قيد التنفيذ. يتطلّب ذلك مستوى مختلفاً من التفكير ونوعاً آخر من الممارسة.

الانخراط في العالم يعني التخلي عن انعزاليتنا. وهي العنصرية التي نمارسها ضد أنفسنا. المجتمع المفتوح يستدعي مواجهة المؤسسات الدينية، وأهم من ذلك نقد وتشريح السلفية الدينية (القومية)، وإحالة كل منهما الى متحف التاريخ. لا نستطيع الاتخراط في العالم حاملين شعار “الإسلام هو الحل”. مشاكل العالم، مشاكلنا مع العالم، ومشاكلنا مع أنفسنا، لا تحل بالدين. ليس في الدين ما يفيد في تنظيم المجتمع وإنتاج العلم والمعرفة الحديثين. كل ما في الدين من علم هو نوع من المحفوظات التي لا يحتاجها إلا من يبحث في أركيولوجيا قرون ماضية. هي علوم لا تنفع. لكن دراستها تنفع للمختصين، من أجل توسيع الأفق.

المجتمع المفتوح يستدعي تحقيقه نضالاً شرساً من أجل كسر الحلقات التي تجعل مجتمعاتنا منغلقة تدور حول ذاتها. تجترّ ماضيها وتسكن فيه.  عالم فيزياء واحد أهم من كل المشايخ وعمائمهم. علمه مفيد، علمهم غير مفيد.

علينا أن نتجاوز ما نحن فيه، مع الأخذ بالاعتبار أن الدين يقتصر على الفرد وعلاقته بالخالق مع كل ما يتطلب ذلك من أصول. لكن العلاقة تبقى فردية. أما العلاقات الاجتماعية فهي ليست بحاجة الى الدين. الأخلاق بخير، ربما كانت العقائد خطراً على الأخلاق، وعلى الضمير الفردي، وعلى نمو المواطن العربي.

ولد المواطن العربي في ثورة 2011. لم تولد في مقابل ذلك الدولة العربية التي تستوعب المواطن؛ بل ولدت الثورة المضادة التي مارست قمعاً غير مسبوق وحروباً أهلية في أمكنة عديدة.

الدولة العربية المطلوبة هي الدولة القطرية بحدودها الراهنة (لمن يؤمن بالوحدة العربية ، هذا القرار تتخذه الدول برضى شعوبها في إطار الجامعة العربية أو غيرها). لكن قرار الوحدة العربية لا يمكن أخذه قبل أن يتحوّل المجتمع من استهلاكي الى إنتاجي، ومن سلفي الى حداثة ترعى التطوّر والتقدم، ومن تأخر الى تطوّر، ومن دين في مركز الحياة الى دين على هامش الحياة، كي يكون جزءاً حقيقياً من النشاط البشري، ومن العزلة عن العالم الى الإنخراط في العالم، ومن مجتمع (أو مجتمعات مغلقة) الى مجتمع مفتوح، ومن الوعي العلمي الديني الى الوعي الحديث، ومن الوعي التقني الى الوعي العلمي، ومن استيراد التقنيات الى صنع التقنيات، ومن رؤية جانبية للعالم الى رؤية ترى العالم بمجمله، ومن اعتبار أننا غير بقية العالم الى اعتبارنا جزءاً منه، ومن اعتبار تاريخنا مجيداً الى اعتباره تاريخاً مثل جميع الأمم، الخ…

يتطلّب الوعي بهذه الأمور وغيرها أن نغيّر الكثير من أفكارنا، وأن يعيد الوعي صياغة نفسه من أجل أن يكون المواطن مواطناً في مجتمع (مجتمعات) ذات هدف. ليس التاريخ ذا هدف بل هو خطوط متعددة متعرجة؛ وهناك تراجع. ربما تراجعنا الى أن نكون مزبلة التاريخ. ربما كنا في طريقنا إليها. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. الأمل هو أن نصنع هويتنا. هو أن تكون هذه الهوية غير ما كانت عليه. لا تتلاءم الهوية الجديدة إلا مع استيعاب جميع الأقليات. تُستوعب الأقليات بناء على الحاجات المدنية واليومية، وليس بسياسة تعتمد على الدين. متى صار الدين فردياً وهامشياً في السياسة، صار غير قادر أن يكوّن تنظيمات سياسية.

التسامح ليس في أن يبقى الدين كتلة سياسية تمنح الأقليات حق الوجود. التسامح هو أن يصير الدين فردياً، بحيث لا يستطيع أي فرد أن يمارس قمعاً ضد جماعة دينية. بذلك نجبر الدين على التسامح، ونجرده من وسائل القمع.

لقد سارت العروبة في مجرى الدين، واعتبر أصحابها أنهم ينطقون باسمها. ميتافيزيقيا العروبة لا فرق بينها وبين ميتافيزيقيا الدين. تتكرس العروبة في الدولة القطرية أولاً، والدولة القطرية تختار أو لا تختار الوحدة. منطقة تشمل سواحل المتوسط وتمتد الى سواحل المحيط الهندي والأطلسي، تشكّل قوة كبيرة في هذا العالم إذا تصرفت بعقلانية. الوحدة لها عدة أشكال. والوحدة واحدة من عدة خيارات. لسنا مجبرين على ما نختار. وعلينا أن نعمل من أجل الهوية التي نختار، لا نعمل كي نكون عبيداً لها ولسادتها، بل لأن تكون وسيلة للتطوّر، والتقدم، والإنتاج، والقوة. نعمل من أجل هوية تخدم أهدافنا ومصالحنا. هدفنا هو الإنسانية. مصالحنا هي ما هو مشترك مع بقية الإنسانية. نحن وهم: نستوعب “الهم” في “النحن”، و”النحن” في “الهم”. لا نخضع لقوة خارجية. ولا نُخضع أحداً لنا أو لمن يدّعي تمثيلنا، سواء في الداخل أو في الخارج.

هي أمة متخيلة مثل بقية الأمم في العالم. الدولة هي الواقع. تعاون الدول العربية يستفيد منه الجميع. أن تكون الأمة المتخيلة في دولة قطرية أو دولة واحدة سيان، المهم أن تكون العلاقات السياسية بين العرب هي الذات الأوليّة. النضال الأساسي لدى معارضة الأنظمة هو بالسياسية. الطغاة يمارسون القمع، والأمر، والإكراه. لا يمارسون السياسة؛ يلغونها، يكرهونها. الصراع ليس بين الدين والسياسة. بل هو بين الشعوب وسلطات الطغيان، وبين السياسة وعدمها.

يتوجب علينا الإدراك أن انهيارنا السياسي يهدد إمكانية النهوض، ويكاد يلغي ما تبقى من الأمة العربية. حتى لغتها معرضة للذوبان والانجراف الى متاحف التاريخ. لن يستطيع القرآن الحفاظ على لغتنا. إذا بقيت هذه اللغة الفصحى، فهي ما يمنحنا الأمل بإمكانية الأمة. وهي لغة تحمل إمكانيات ضخمة لتوليد مفاهيم واستيعاب مفاهيم جديدة. ليست اللغة ضمانة لشيء. هي عامل مساعد. السياسة هي الضمانة الوحيدة، إذا أحسنّا ممارستها. نمارسها بجدية متى تحوّل وعينا وصار هادفاً، ومطابقاً، وعقلانياً.

الأمم ذات الشأن، والتي تقدمت في العصور الماضية، حققت ذلك بالسياسة. سياسة اعتمدت على الانخراط في العالم، وعلى مجتمع مفتوح، وعلى تجاوز نفسها. نستطيع ذلك متى كسرنا حلقة العزلة التي فرضها علينا الدين والقومية. علينا أن نتخيّل شيئاً آخر، غير ما تعودنا عليه خلال العقود الماضية. أسوأ التعابير المستخدمة هو تعبير الأمة العربية و”الإسلامية”. لا شيء أكثر لا عقلانية من هذا التعبير. نتحدث عن هذه الأمة العربية والإسلامية، وكأنها واقع؛ بينما هي وهم. نستخدم المصطلح لنهرب الى الأمام، ولكي لا نُحْرَج في تحديد المصطلح. ليس هناك أمة عربية وإسلامية؛ هناك دولة يسكنها عرب أو مسلمون، أو عرب ومسلمون. لكل فرد منهم الحق في اختيار الهوية أو الانتماء؛ أما في السياسة فالكل مواطنون في الدولة. ليست الأمة هي موطن الأفراد. الدولة هي موطنهم السياسي، ولا أهمية لغير هذا الوطن السياسي إلا ما يرتئيه هذا الوطن بناء على إرادة أبنائه (أفراده). لسنا أبناء الدولة. نحن أفراد الدولة. المواطن الفرد هو المكوّن الوحيد الذي تتكوّن منه الدولة؛ هذا إذا أردنا أن تكون دولة لا مجرد سلطة. الناس أبناء السلطة، أي السلطة المجردة. سلطة الطغيان هي ما يجعل الأفراد أبناء لها. هي ما يجبرهم على ذلك حتى يصبحوا رعية لها.

من صفات تعبير “الأفراد” أن يكونوا مشاركين: الدولة شراكة. من صفات تعبير الرعايا أن يكونوا خاضعين، غير مشاركين، في إدارة أمورهم، ولا في تقرير مصيرهم.

ما يجدر التركيز عليه، والعمل من أجله، هو الدولة. الدولة كما هي بحدودها. لا خوف على العروبة من القطرية، ولا على القطرية من القومية. الخوف هو من انقطاع السياسة والتواصل بين البشر، والتعاون فيما بينهم لإدارة أمورهم، ومشاركتهم في الدولة. الدولة إطار ناظم للمجتمع لا مجرد سلطة عليه. تصير السلطة دولة عندما تتعاون السلطة مع القوى الاجتماعية، وعندما يحدث التقدم بإتجاه أن يكون المشاركون في الجماعة هم المشاركون في الدولة، وعندما تتطابق الدولة، في جزء كبير مما تفعله، مع المجتمع، تتغيّر الحكومات، وتتغيّر الدولة. حتى لو توحدت الدول العربية، ستبقى الحدود فيما بينها، وستبقى كل منها ذات سيادة. وستكون وحدة طوعية لما فيه مصلحة الجميع، أو لن تكون.

تجديد وعينا و تغيير تفكيرنا حول الأمة والدين والقومية أمر ضروري. يكون التجديد أو التغيير بالسياسة والتعاون. يكفينا ما لدينا من حروب أهلية وأقليات وأكثريات تتصارع حول أوهامها. نتحوّل الى مواطنين ذوي الحد الأدنى من المساواة والعدالة بالسياسة، وليس مجرد الديمقراطية، بالمجتمع المفتوح وليس بالإفلات، بالتجاوز وليس بالانغلاق في الماضي.

مصطلحات كثيرة نستخدمها ولا نعرف معناها، ولا تأتي المعرفة إلا بتحديد معاني المصطلحات والشعارات. الفلسفة هي هذا التحديد والإنطلاق منه؛ النظرية هي هذا التحديد والانطلاق منه. نحتاج الى كثير من التفكير تفلسفاً وتنظير. بذلك يتغيّر الوعي وتكون الممارسة غير عشوائية. الانتظام نقيض العشوائية. الانتظام الطوعي حسب القانون هو الفرق بين مجتمع متقدم وآخر متخلف. في مجتمع متخلّف تسود العشوائية. لا يضبطها إلا القمع. يكون ذلك طغياناً. تقود العشوائية الى الطغيان والديكتاتورية، والى مجتمعات تسيّر بالأوامر.

نتجاوز ما نحن فيه عندما نتجاوز أنفسنا؛ نغيّر أنفسنا. ذلك يتطلّب الكثير من الجرأة والشجاعة، بالأحرى النزق الفكري. نحن مجتمعات تجترّ ذاتها. تكرّر ماضيها. واقعة في  الهزيمة. مستقبلها مجهول. العبرة هي عندما نفكر ونمارس بطريقة تجعلنا نحن نقرر مصيرنا.

نحتاج لبعض الوقت؛ فليكن. حياة الشعوب تُقاس بالعقود والقرون من السنوات. نعم نستطيع إذا غيرنا ما بأنفسنا. طريق التغيير معروفة لمن يريد أن يعرف. طريقنا الآن هي الجهالة والعشوائية. لذلك جهودنا مبعثرة، مواردنا مستلبة، قوة عملنا مبدّدة. نهدر أنفسنا، لا في الحروب الأهلية وحسب، بل في ما يسبب الحروب الأهلية من الجهل، والعشوائية، والتصوّر في المعرفة، وتحاشي التحديد، والقفز فوق التعريفات، والنطنطة في الشعارات، والثبات على مفاهيم دينية وقومية لا نستطيع استخدامها في حياتنا اليومية.