5
Jan
2018
2

الحرية: الخضوع أو الموت

الحرية وعي الضرورة. الضرورة احتمال. تتعدد الاحتمالات. الحرية اختيار بعض الاحتمالات. الاستبداد نقيض الحرية، ويمنع الاحتمالات المتاحة. يفرض احتمالاً واحداً. يفترضه حتمية. يصير الأمر حتمية عندما يفرضه صاحب الأمر.

فهم الفقهاء ذلك. جعلوا بين الحلال والحرام عدّة درجات من المباح والمكروه الى المستحب. فرق الدين السياسي تلغي ما بين الحلال والحرام. تجعل الضرورة سيدة الأحكام. تلغي الحرية.

ليس غريباً انتشار مبدأ الحتمية التاريخية أيام ستالين. كان لينين يقول بتحليل الاحتمالات وعدم إهمال أصغرها وجوداً. انتقل امر الشيوعيين البلاشفة من الحوار والسياسة الى الحتمية، والى الخيار الواحد. وكان ذلك تأسيساً للاستبداد. لا يستقيم أمر الشيوعية من دون الحرية، ومن دون تعدد الاحتمالات. تتحوّل الى ما يشبه الدين السياسي. يلغي الاحتمالات ويعتمد أحكام الحلال والحرام. كل منهما ينتهي الى التقديس وعبادة الفرد. في ظل هذا النظام وذاك يصير الناس سجناء حتميات يقررها خبراء الدين والشيوعية.

العلم الحديث، خاصة ميكانيكا الكوانتوم، أي ميكانيكا الزريرات الصغيرة، هو علم الاحتمالات. الرياضيات الحديثة هي علم احتمالات. الحتميات تتشكل من تعددية احتمالات محشورة في بوتقة واحدة، أي في احتمال واحد. السياسة تأخذنا الى علم الاحتمالات؛ هي تستند الى الحوار والنقاش والتسويات. السياسة نقيض الاستبداد. الاستبداد يلغي تعددية الاحتمالات. المجتمعات المحكومة بالاستبداد تنفجر. الثورات فيها انفجارات. يظن البعض أن وراء كل انفجار مؤامرة (أجنبية) على اعتبار أنهم يفترضون الاستبداد وضعاً طبيعياً. ينكرون الثورات. في هذا الإنكار احتقار للشعب وإلغاء للرأي العام، وللحوار، وللنقاش. الطاغية وحده يعلم حقيقة الأمر. هو الذي يقرر. على الجمهور أن يخضع ويسلم ويستسلم. شعب مستسلم لا ينتصر. لا يخطىء الذين يربطون بقاء إسرائيل بانتشار الاستبداد في البلدان العربية. كيف يريدون لشعوبها أن تقاتل وهي لا تشارك في القرارات. ولا يُسمح لها بأن تكون متعددة الاحتمالات.

في لبنان الآن استقطاب بين خيارين. لا تعدد احتمالات. لا شيء يمنع أن يكون الصراع بين طرفي استبداد. حشر الشعب اللبناني بين موقفين هو كالحشر الذي يمارسه أصحاب الدين السياسي بين الحلال والحرام، أي بين موقفين.

الحشر في ثنائية الحدين يقيّد العقل. العقل ينشط في رحابة تعدد الاحتمالات. عندما يستريح العقل بسبب حتمية الحلال والحرام التي يفرضها قرار السلطة أو السجن، فإنّ الثقافة تتخثّر. يصيبها اليباس. تبقى ملكة التفكير عند مغامرين يمارسون نزقاً فكرياً. ليس في بلادنا العربية إمكانية فكرية إلا مع النزق الفكري الذي يعرّض صاحبه لقمع أجهزة السلطة.

في غياب الحرية يسود المألوف. تصير الحياة رتيبة. يعيد الإنسان فعل ما أتى به بالأمس. هو مضطر للتكرار. الخروج على المألوف في الفكر والممارسة يعرّض صاحبه للخطر. الحرية هي سيادة المرء كفرد على شخصه (روحه) وجسده وملكه، وعلى ما هناك من علاقة ملتبسة بين الروح والجسد. المهم أن الحرية تتحقق في الفرد لا في القطيع سواءً كان الطائفة أو الإثنية أو القومية. الفرد لا يتحقق إلا في إطار الدولة عندما تصبح هذه جزءاً من الفرد ويصير الفرد جزءاً منها. يُقال أن حرية الفرد تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين. الأجدر القول أن حرية الجميع تبدأ وتنتهي في نفس المكان: الدولة.

ليست الدولة إلا الوجه الآخر للفردانية. والفردانية هي التخلص من التقيّد بما يسمى المتحد البشري. وهو اسم آخر للقومية أو الإثنية أو حزب البعث، والقومي السوري، والأخوان المسلمين. مفهوم المتحد البشري يفترض أنك تسلك وتتصرف حسب معطيات هذا المتحد. وما لا يقال عن التراث هو أنه السلف الصالح. من أجل أن لا يُتهموا بالسلفية اختاروا أن يميزوا بين عجرهم وبجرهم. هم في الحقيقة تخلوا عن التاريخ لأنه يقضي حتماً أن نأخذ الماضي بعجره وبجره، بين الماضي المجيد والماضي المُذِلْ. هم لا يريدون إلا المجد. المجد يحتاج الى من يموت لأجله. هكذا صُنِعَ لكنهم يكرهون الموت. يتمنون العيش حتى الأبد. وضعوا الأمر عند قائدهم وعيشه حتى الأبد، وعند ورثته الذين استقدموا القواعد الأجنبية من أجل تأمين الأبدية.

الفردانية في الدولة الحديثة هي وجهها الآخر. هي والدولة في مواجهة تامة، وفي اتحاد تام، حيث صار للسلطة مكان هامشي جداً. لا تستطيع السلطة أن تتدخّل في الفرد، وفردانيته، وخصوصيته، إلا عندما تطال الدولة، وما تعنيه من شراكة، وإلا عندما يصيب الإثنين معاً أزمة كما في أيام ترامب. لكن السلطة (العسكرية) في بلد ديمقراطي تفكّر ألف مرة قبل أن تصادر السلطة من هذا وذاك. هي الفردية المتأصلة في مواجهة الدولة المتأصلة: المواجهة وحدة وتناقض.

الحق في الأشياء والأموال هو ممارسة الإرادة عليها، أي تملّكها؛ الحرية هي أن لا يكون لأحد سواءً كان حاكماً أو مواطناً أو سلطة (أجنبية أو محلية) الحق بوضع اليد عليك؛ الحرية هي علاقة خارجية. علاقة بما هو خارج الذات من بشر وأشياء. أن تتحرر من الشيء، معناه أن لا يكون لك حق عليه، وأن لا يكون له حق عليك. تلتقي أنت والآخرين وأشياءك وأشياءهم في مكان واحد هو الدولة. تنظّم الدولة بقوانينها ودستورها هذه العلاقة. العلاقة في الأساس هي السياسة. لا تستطيع القوانين احتواء كل الحالات. توضع القوانين لمعالجة السلوكيات الشاذة، الخارجة عن المعتاد. إذا خرج الجميع على المعتاد، لا يستطيع القانون معالجة الأمر. يكون الأمر فوضى أو ثورة أو حربا أهلية. معنى الأمر أن الدولة لا تحتوي المجتمع. لا تستطيع احتواءه، ولا تستطيع أن تكون الإطار الناظم للمجتمع. ومعناه أيضاً أن السلطة، بأجهزتها البيروقراطية والأمنية لا تستطيع فرض هيبتها ولا فرض الانتظام. النظام بمؤسسات الدولة هو عادةً وسيلة الدولة لاحتواء المجتمع أو للتعبير عنه بالتعبير السياسي.

تعتبر الطوائف في بلد كلبنان أن لها حقا على أتباعها، وعلى أبناء الطوائف. هذا “الحق” مناف للحرية. للدولة فقط حق على أفرادها، وذلك في حالة واحدة، وهي إذا كانت الدولة إطاراً ناظماً للمجتمع؛ وهي لا تكون كذلك إلا إذا كان ذلك حائزاً على رضى الناس. تنشأ الدولة بالغلبة؛ عندنا مثلاً، أنشأها الاستعمار بحدودها، وقرارات الاستعمار الفرنسي في حينه، أي في الحرب العالمية الأولى. ما تزال هي مرجعية حدود الدولة. أو تنشأ الدولة نتيجة تطوّر تاريخي طويل من ملكيات وامارات فرضت سيطرتها. لا يصير الأمر الى دولة إلا مع تقادم الدهر واعتياد الناس، والأهم من كل ذلك نشوء الاقتناع بالعيش سوية كأفراد في الإطار الناظم. الدولة الحديثة التي لا يمكن الانتقال إليها إلا مع إلغاء الطوائف، أو على الأقل إلغاء سيطرتها على الأفراد. مهما قيل في الطائفة، إلا أنها نقيض الحرية. الأفراد الذين يتحررون من طوائفهم في مجتمع طائفي يفعلون ذلك على حساب مصالحهم. يُنظر إليهم كما الى “البعير المعبد”. يُعتبرون خارجين على الاجتماع البشري والطائفي. يُنظر إليهم على أنهم شواذ. تمارس جماعتهم نوعاً من الحرم عليهم. تحرمهم من الحرية، تحرمهم من ممارسة السياسة. تكون السياسة ضمن الطوائف أو لا تكون. وعندما تنحصر ضمن الطوائف فهي تنعدم. السياسة التي تُمارس فيما بين الطوائف، أو ما يُسمى في العقدين الآخيرين، مكونات المجتمع، هي مشروع دائم لحرب أهلية.

يُقال عن الطوائف أنها انقسامات عمودية، وأنّ الطبقات انقسامات أفقيّة. صراع الطبقات هو أيضاً مشروع دائم لحرب أهلية. تفرض الطبقة العليا شروطها. هي أيضاً طائفة مغلقة لا يدخلها إلا من يمتلك الثروة أو الدخل العالي. تمنح الرأسمالية الطبقات الدنيا حق العمل، أي حق امتلاك ما يقابل العمل وإمكانية الادخار. لكن هذا الحق لا يُمارس إلا إذا كان فيه ربح للطبقة العليا. تنشأ البطالة. يكثر التنافس بين أبناء الطبقات الدنيا مما يؤدي الى تدني الأجور وتحقيق مستوى أعلى من الربح للرأسمالية. يُحرم بعض أعضاء الطبقة الدنيا من حقوقهم بالبطالة. ويُحرم العاملون مما يفوق الحد الأدنى. يُفرض على جميع أعضاء الطبقات الدنيا حكم الضرورة. الضرورة عملياً تلغي الحرية المعترف بها نظرياً.

هناك في الأمر مفاضلة بين الانقسام الطائفي والانقسام الطبقي. لكن المؤكد هو أن الصراع الطائفي يقسّم المجتمع، مما يعني أن تماسكه يصبح صعباً. بينما الصراع الطبقي ضروري للمجتمع من أجل تماسكه. الصراع الطائفي لا يلغي التمايز بين الطبقات ضمن كل طائفة بل يعززه. أما الصراع الطبقي فهو يهدف الى إلغاء التمايزات العمودية والأفقية ويعزز وحدة المجتمع. لا يمكن فصل مسألة الحرية عن صراع الطبقات وإلغاء التمايزات. إذ لا يبقى حراً من جُرِّد من كل إمكانيات العيش. وقد حُرِمت الطبقات الدنيا.

شاع في العقود الأخيرة القول بنهاية عصر اليوتوبيا. إذ لم يعد للايديولوجيات مكان. يُقال ذلك رُغم أن العالم ليس أكثر عقلانية، بل هي اللاعقلانية التي تتعاظم عن طريق الميديا، وجميع وسائل الإعلام التي تُغرق الدماغ بالمعلومات وتخفّض القدرة على الربط. هو عصر سياسات الهوية، كانتشار الحركات الانفصالية في العالمين المتقدّم والمتأخر. تزامن ذلك مع صعود النيوليبرالية والصعود الديني. الطبقات الدنيا لم تعد لها نقابات مهمة تحميها وتدافع عن قضاياها، وتطرح على النظام قضايا التطوّر والإصلاح. صدّرت الصناعات من البلدان الصناعية الى بلدان كانت في عداد العالم الثالث. وهنا يحدث الإنتاج تحت رأسمالية عاتية تضطهد الطبقة العاملة وتقمعها. لا غرابة إذ يزداد العنف مع النيوليبرالية وحكم الدين السياسي. يُمنع على الطبقة العاملة أن تكون لها نقاباتها وأحزابها، بالأحرى تخلق الظروف لكي لا يصير ذلك ممكناً. تقلصت قيمة الإنسان بالنسبة للمال والسماء، ومعنى ذلك أن قدرته للنضال والدفاع عن نفسه قد تقلصت.ازداد الانتفاخ الذاتي لدى النخب مع غياب الظروف الموضوعية. يتخذ المفكرون المواقف وحسب. مواقف تستند الى ما يُسمى الإيمان من دون التحليل ومن دون العقلانية. لم تعد الأولوية للقضايا. حل محلها سلاح الموقف.

نتيجة لذلك انتشرت الاتجاهات الشعبوية، وصعد اليمين المتطرّف الى المجالس النيابية. وصارت الطبقات الدنيا تنادي بما تدّعيه الطبقة العليا من أنّ تدخل الدولة هو الذي أدى الى ما أدى إليه. انصبّ جام غضب الفقراء على الدولة لا على الطبقة الرأسمالية العليا التي ازدادت ثروتها أضعافاً بعد الأزمة، والتي لا تبالي بما يصيب الطبقات الدنيا من إفقار مقابل ذلك. فكأن الضحية استسلمت لجلاديها الرأسماليين الكبار. يتطلّب الأمر تقديم الطبقات العاملة حول العالم ضحية للألهة الجدد على مذبح الرأسمالية. في معبد الرأسمالية، الدولار وما يمثله من أوراق مالية هي الألهة الجديدة. إرضاء الدولار وصانعيه صار الهم الأكبر. تراجعت الحركات المناضلة ضد الرأسمالية. بل انحازت بعض الطبقات العاملة إليها لأسباب عنصرية وهوياتية (قومية وإثنية).

لم توفّق التيارات النقدية في وجه النظام الرأسمالي العالمي المستفحلة قواه. لكن الفكر الذي يتم انتاجه لم يعد قادراً على صياغة بدائل عن هذا النظام. ناهيك عن حركات تمتلك القوة الشعبية لتشكّل معارضة حقيقية. حتى النظام الشيوعي في الصين وغيرها تحوّل الى الرأسمالية على حساب شعوبها. وسقطت رأسمالية الدولة في الاتحاد السوفياتي، وانحرفت حكومات ما بعد التحرر الوطني الى الليبرالية الجديدة والى النظام العالمي الجديد. صعود الدين السياسي هو في صميم هذه العملية، ومهمته تبرير ومباركة ما يحصل. طرفا الرأسمالية المالية، النيوليبرالية والدين السياسي، يريدان الإنسان صغيراً. يصغر الإنسان بمقدار ما تصغر قضاياه في مواجهة الطبقات العليا.

تتعرّض الإنسانية لمخاطر تهدد وجودها: لم تتزايد الأجور منذ عقود. أما قضايا البيئة والانحباس الحراري فهي لا تهدد “الكيف” الذي كان يحلم به الإنسان، بل تهدد “الأنا” ذاتها. تهدد الوجود البشري ومعه إمكانية العيش على الكرة الأرضية. لا يختل التوازن أو عدم التوازن الاجتماعي وحسب، بل يختل توازن الأرض التي تتجه أكثر فأكثر نحو عدم إمكانية العيش فيها. ولم يعد هناك مناص من اعتبار الدراسات حول البيئة أمراً جدياً في إشارتها الى ما يهدد الكرة الأرضية. طبعاً ، عند أصحاب الدين هناك خلاص في الجنة. وما العيش على الأرض إلا مقدمة لذلك. أما الرأسمالية العالمية فهي لا يهمها إلا تكديس الثروات في مقابل إفقار شديد لأكثرية البشرية التي تقف عاجزة عن طرح القضايا التي تقود الى حل مشاكلها ومشاكل الأرض التي نعيش عليها. مستقبل البشرية لا يبشر بالخير. أصحاب الدين السياسي يعرفون درسهم ويحيلوننا الى الجنة. النيوليبرالية لم تتعلّم من أزمات الرأسمالية، وهي تحيل الإنسانية الى الخراب.

لا بدّ لكل نضال من أجل الحرية أن يكون نضالاً من أجل الوجود المهدد. قوى النضال الاجتماعي مبعثرة. وهي في جزء منها مؤيدة للطبقات العليا ولا تكترث للجرائم التي ترتكبها بحق الإنسانية المهددة بإبادة جماعية. بالطبع يحاكمون صغار مرتكبي المجازر وجرائم الإبادة الجماعية. أما الطبقة العليا التي تشكّل التهديد الأكبر والفاعل الأكبر فهي في حِلٍّ من ذلك. لها محاكم تقاضيها بل كفوف تصفق لها.

تضعنا الرأسمالية النيوليبرالية (أو ما يُسمى العولمة) تحت حكم الضرورة. تفرض على الإنسانية الخيار بين الخضوع التام لها أو الخراب. هذا ليس خياراً بين ما هو سيّء وبين ما هو حسن؛ هو خيار الفناء أحياءً أو أمواتاً. هذا مع العلم أنه لم نتكلم عن دمار السلاح النووي بعد.