الحق واستلابه
من له حق في شيء أو أرض أو إنسان (عبد) هو من يستطيع فرض إرادته على هذا الشيء أو الأرض أو العبد. تُصاغ القوانين وتطبّق من أجل فرض وحماية هذه الملكية. ما كان ذلك ممكناً لولا تراتبية المجتمع وانقسامه الى طبقات، بعضها يملك القوة وبعضها لا يملك. من يملك القوة يسود ويحكم. ومن لا يملك القوة ولا إداراتها يخضع. الفريق الثاني يعمل والفريق الأول يقتطع فائض القيمة (ما يفيض عن الحد الأدنى اللازم للعيش والاستمرار). يسلّم هذا الفريق الثاني فائض انتاجه للفريق الأوّل بقوة السلاح وحماية القانون. ينقسم المجتمع الى سادة من جهة وعبيد أو ما يشبه العبيد من ناحية أخرى. بينهما طبقة الوكلاء والمراقبين والسماسرة. وبالطبع طبقة البيروقراطية والكتبة. كان ضرورياً اختراع الكتابة في الحضارات القديمة، في مصر وبلاد الرافدين وبلاد الشام وفينيقيا، من أجل تسجيل المحاصيل وفوائضها، ومن أجل تسجيل عمليات التجارة. إذ لم تكن تلك المجتمعات معزولة عن بعضها، بل كانت تتواصل على مدى مساحات بعيدة؛ الكتابة كانت ضرورية للتواصل ولحفظ الحسابات.
مع الانتقال من الحالة الزراعية والحرفية والتجارية الى الحالة الصناعية، كان ضرورياً منح العمل كما الأرض قيمة المال؛ تحولت هذه الى سلع. جميع السلع منتجات توضع قيد التداول. يُضاف الربح الى القيمة ليساوي سعر البيع أو الشراء. ربما كان الصناعيون الأولون يموّلون البيزنس من أموالهم الخاصة. أما عامة الصناعيين فصاروا يموّلون من القروض التي تقدمها البنوك. وصارت فائدة الربح تُزاد الى القيمة لتدخل في سعر البيع والشراء. من قبل كان الاقطاعي الزراعي يقترض ليموّل مصاريفه على بناء القصور والقلاع وغيرها من وسائل الظهور. القوة بحاجة الى إبراز ليكون السيف مسلطاً على الفلاحين. الرأسماليون الصناعيون سلاحهم بالأساس هو القانون؛ مع العلم أنهم يستخدمون الوسطاء والميليشيات لحماية ممتلكاتهم. وهذا حين الحاجة.
في مرحلة متأخرة، مع ظهور الرأسمالية في القرن السادس عشر، والرأسمالية الحالية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، سيطر رأس المال المالي، وصار الاقطاعيون والرأسماليون خاضعين، الى حد ما، لسلطة أصحاب المال؛ هذا التطوّر سيبلغ أوجه في النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك حين صار لرأس المال المالي سلطة مطلقة. وصارت للرأسمال المالي دورة منفصلة عن دورة ما يُسمى الاقتصاد الحقيقي والإنتاج. أصبح تبادل رأس المال برأسمال عن طريق القروض وغيرها مصدراً للربح والتراكم.
لم تعد القروض تُستجدى، أو على الأقل لم يعد هناك بحث في ملاءة المقترض لاستحقاقه الاقتراض. بل صارت القروض تُفرض بمعنى ما؛ صار أصحاب الصناعات والزراعات، ومن بعدهم المستهلكون يخضعون لإعلانات ودعايات من أجل اجتذابهم الى الاستدانة. لم يعد البحث في وضعية المستدين وقدرته على الإيفاء مهماً؛ المهم أن يستدين كل الناس. ومن لا يستدين، ومن لا يحمل بطاقة ائتمان يصير خارج السرب، وخارج الموضة. المصارف بحاجة الى تسليف حتى من لا يحتاج كي تراكم رأسمالها المالي. صار المال يجر المال بمعزل عن عملية الإنتاج. وعندما صارت استدانة المستهلكين (للاستهلاك لا للإنتاج) واستدانة الدول الفقيرة في سبيل الاستهلاك لا الإنتاج، بلغ رأس المال المالي أوجّه. أصبح هو الحاكم المطلق.
صار الحق (فائض القيمة) يُقتطع من الفلاحين والعمال على يد لوردات الأرض والصناعيين. وصارت “أرباح” هؤلاء تُقتطع على يد المصارف. وكل ذلك بوسائل قانونية. القانون لا يقل أثراً عن الدين في تبرير الرأسمالية (بمختلف أطرافها) وتبرير وسائلها. حق الملكية مقدّس؛ بل هو المقدّس الوحيد الذي تخضع له وتبرره الأوساط القانونية والدينية. انتقل التقديس من المجال الديني الى المجال المالي. صار المال مقدساً أيضاً. صار مقدساً تخضع له المقدسات الأخرى.
حدثت الأزمة المالية عام 2008 لأنّ القروض المشبوهة كثرت. واضطرت المصارف لبيعها لشركات التأمين. وهذه تضعها لدى شركات تمويل وتأمين أخرى. عملية تعمية كبرى كان من نتائجها أزمة 2008. انفجرت فقاعة الديْن. وما كان على الدولة إلا إنقاذ المؤسسات الكبرى التي كان سقوطها يعني خطراً يؤدي الى سقوط النظام برمته. عملياً أمّم النظام الأميركي الشركات الكبرى (مؤقتاً) لإنقاذ النظام. استخدم وسائل تدخّل الدولة التي اعتبرها الكثيرون أدوات اشتراكية. سعت جراء ذلك الحركات الشعبوية ضد الإدارة الحاكمة وضد تدخّل الدولة. علماً بأنّ هذا التدخّل كان من الممنوعات الإيديولوجيّة. التطوّر البارز في هذه المرحلة الأخيرة ليس فقط التضخّم (زيادة الأسعار بالنسبة للسلع المادية والفكرية) بل أيضاً زيادة المال المتداول حول العالم بما يفوق مئات الأضعاف حاجات التجارة العالمية. زيادة المال الهائلة مقابل كمية محدودة من السلع بما فيها قوة العمل (التي صارت سلعة) معناه ازدياد الأسعار وانخفاض ما يساوي كل سلعة من المال. لم يكن ضرورياً خفض الأجور، أو منعها من الازدياد وحسب، بل إنتاج مواد استهلاكية رخيصة (جينز، تي شيرت، أحذية بلاستيكية) لسد حاجات الطبقات الدنيا التي انعدمت لديها المدخرات وتقلصت الأجور.
تراكم المال تراكماً هائلاً، واحتاج اصحابه الى ملاذات خارج الأسواق الاعتيادية كي تختفي عن الأعين. صار الاكتناز يلجأ الى جزر البهامس والمحيط الباسيفيكي وبعض الجزر البريطانية. في حقيقتها هي ملاذات ضريبية خارج رقابة الدولة. خفض الضرائب في أيام ترامب كان من أجل اجتذاب هذه الأموال الى الداخل الأميركي. وسائل الاكتناز الأخرى كانت وما تزال هي البنايات الشاهقة واللوحات الفنية. لا يفوت الماليون الكبار الفرصة لإيجاد ثغرات في قوانين الضرائب.
هذه الرواية المختصرة تقود الى الاستنتاج أن الرأسمالية لا تتعلّم من أزماتها. ما يهمها قبل كل شيء هو التراكم والاكتناز. والأهم من كل ذلك انخفاض القيمة، قيمة العمل الحقيقية، بالنسبة للمال المتراكم. الحق الذي يتباهى به الفاشيون وأغلب اليمين المتطرّف هو حق العمل. الحق الأساسي لدى الإنسانية، الذي استُلِبَ ويُستلب من خلال عمليات مالية حول العالم. عمليات مالية فيها الكثير من التعمية والغش والاحتيال، بوسائل قانونية وغير قانونية. الدين جاهز للتبرير. لذلك يختلط الصعود الديني بالفاشية واليمين المتطرّف في الغرب وفي كل أنحاء العالم.
أكثر من نصف سكان المعمورة لا يملكون شيئاً رغم انهم يعملون في الاقتصاد الشرعي وفي الاقتصاد الموازي. هم لا يملكون شيئاً لأن حقوقهم مستلبة. هم الذين يعملون وهم الذين ينتجون البضائع والسلع. وهم المحرومون منها ومن فوائدها.
هناك اقتصاد سياسي يعطينا القدرة على فهم النظام الرأسمالي، إذا كان يمكن فهمه مع كل التعميات الحاصلة. إذا كان الحق هو تحقيق إرادة الإنسان على ما يملكه، فإن هذا الحق قد استُلِبَ منه بسبب النظام السياسي في مختلف مراحله منذ القدم. حق المنتجين بحيازة نتاج عملهم هو حق سليب. سلبه منهم النظام السياسي. لا تنفصل السياسة عن الاقتصاد. ولا ينفصل الحق عن الاقتصاد السياسي. مشكلة الإنسانية الآن كما في الماضي هي أن المنتجين لا يستطيعون بسط إرادتهم على ما ينتجونه. غيرهم يفعل ذلك بوسائل العنف أو الغش أو الاحتيال.