27
Dec
2019
0

الفساد ٤ – خرافة الميثاقية

بدعة الميثاقية رشوة لكل طائفة. قمة الفساد السياسي. لم يبلغ لبنان هذا الدرك الأسفل من الأخلاق والسياسة كما في عهد شاع فيه استخدام الطوائف لمبدأ الميثاقية. كل طائفة يدعي أكباشها (زعماؤها) أن حصتهم مما هو مطروح ومتاح أقل مما يجب، بالأحرى أقل مما يعتبرونه عدلاً لهم. يقولون أن الأمر المطروح غير ميثاقي حتى ولو أيدته أكثرية الناس ونوابهم. الميثاقية أداة للتعطيل. هي في جوهر النظام التوافقي حيث الاعتبار الأولي هو لتمثيل الجميع في السلطة، وإلا اعتبروه الخارجون منها غير ميثاقي. الميثاقية مساوية وموازية للوطنية. بنظرهم هي جوهر الوطنية. الميثاقية قمة الاحتيال على الدستور. هي تستدعي التفاهم بين مكونات الطوائف (بالأحرى أكباشها). دون هذا التفاهم يصبح تطبيق الدستور مستحيلاً. تضع الميثاقية نفسها فوق الدستور. كما في الأنظمة الدينية، يقبع المرشد فوق الرئيس. مشيئة صاحب العمامة فوق الدستور، أي القانون الوضعي. لا يثق كل هؤلاء بالدستور ولا بالقانون. يريدون حفظ الدين عن طريق المرشد، كما يريد أولئك حفظ الطائفة عن طريق الميثاق.

الميثاق الوطني ليس عهداً بين اللبنانيين وليس معطى سماوياً له قدسية. هو بكل بساطة خطاب وزاري ألقاه رياض الصلح في مطلع الأربعينات، وكتبه نصري معلوف وكاظم الصلح. فحواه أن لبنان لن يكون ممرا ولا مقراً. أضيف تعبير الوطني ليعطيه اللاحقون هيبة لا لزوم لها.

لم ينشأ لبنان بموجب ميثاق عقده أهله. لا يتأسس بلد إلا بموجب سلطة احتلال قررت. العيش المشترك إقرار بالأمر الواقع بين الناس. ليس شرفاً لمن يأخذ به. هو واجب على الجميع. واجب العيش ضمن الحدود المرسومة عشوائياً. الدولة هي هذه الحدود وما هو ضمنها. تنشأ الدولة بالدستور ثم بموجب القوانين التي تسن بناء عليه. الوطن، الأمة، الطائفة، الميثاق، الخ… والتعابير الشبيهة لا قيمة لها، إلا لمن يستخدمها. ما له قيمته بذاته ومن أجل ذاته هو الدولة، والدولة يعبر عنها بالحدود والدستور. ما على المواطنين ضمن هذه الحدود إلا أن يعيشوا سوية. يسمى ذلك العيش المشترك. وهذا أمر اضطراري. لا يختاره من يتوهمون العقد الاجتماعي؛ وما ذلك إلا كتبرير ايجابي لوضع يجب تكريسه وإلا فان الفوضى أو الحرب الأهلية هي المصير. نفهم أن نعيش سوية في الدولة، لكن وضع المرشدية (مرشدية الميثاق أو القائد الديني) فوق الدستور، فهذا نوع من الفساد. ترشوا الطوائف نفسها بذلك. تصادر المجال العام كما يصادر كبار الرأسماليين أملاك الدولة، وكما يصادر أصحاب المصالح العامة المال العام.

تلغي التوافقية السياسة. تعلو الميثاقية على الدستور. إرادة المجتمع لا تتكوّن إلا بالسياسة والحوار. النقاش في المجال العام ومساهمة الناس كمواطنين في القرارات العامة. الميثاقية قيمة احتيالية يستخدمها أكباش الطوائف والطامحون الى سرقة الوطن ونهبه عن طريق الطوائف. بالمناسبة، الطائفية ليست غريزة (يتحدثون عن إثارة الغرائز الطائفية). الغريزة الطائفية عند الناس وهم يفترضه الأكباش عند الطوائف. الغريزة في الأصل أمر بيولوجي ميراثي. أنت لا تصبح شيعياً أو مارونياً أو سنياً أو فرداً في أية طائفة قبل أن تولد، أي عندما تكون في بطن أمك. تصبح واحداً من هذه المقولات بعد أن تولد وتصادرك الطائفة، ويصدر إخراج قيدك. أنت ابن الطائفة لا بالطبيعة. تلدك أمك حسب قوانين الطبيعة. تصير ابن الطائفة حسب قوانين المجتمع. الطائفية مسألة اجتماعية حسب النظام الاجتماعي السياسي لا بسبب الطبيعة. تلقفت الرأسمالية الطائفية، وهي قديمة، وجعلتها أداة لإخضاع البشر. إخضاعهم لإرداة الطوائف وأكباشها، ولا أكباش إلا عندما تسير وراءهم قطعان. تحويل الناس الى قطعان.  تتبع دون أن تفهم هو جوهر الطائفية. لا تريد الرأسمالية أن يفهم الناس كيف يُستغلون، وكيف تضطهد السلطة الرأسمالية باستخدام الطائفية للإخضاع. الميثاقية وسيلة للتجهيل. لا تفهم كيف صرت ابن طائفة. لا تفهم كيف تستغلك الطائفة. لا تفهم كيف صرت واحداً في قطيع. لا تفهم كيف صرت لا تفهم. لا تفهم آلية النظام. تفهم فقط آلية الولاء وأن تصير من زبائن الأكباش الطائفية. حتى هذا الأمر يجدر بك أن تسير فيه دون أن تسأل.

انفجرت الثورة طلباً للكرامة في وجه الطائفية والزبائنية. أراد الناس إسقاط النظام، نظام الطائفية والزبائنية والميثاقية. ارتدت عليهم الثورة المضادة بالميثاقية وأخواتها. أرادتهم أن يعودوا كما كانوا، وإلا فالقمع والاضطهاد كي يرضوا بما قُدّر لهم وأريد لمصيرهم. تتقاسم السلطة الأدوار فيما بينهم.  من ينجح بالاستئثار بالسلطة يعتبر ذلك ديمقراطية؛ من يفشل يعتبر ذلك خروجاً عن الميثاقية. الدستور ليس مهماً لدى أطراف السلطة، ليس مهماً لمن خرج أو لمن بقي. من يخرج من السلطة ( وهو من أرباب السلطة) لا يطيب له أن يكون في المعارضة ولو لحين. يلجأ للميثاقية وهي تعبير آخر عن الطائفية. يلجأ لطائفته. يصير رجل الدين المترأس للطائفة مرشداً آخر للثورة المضادة. بالطبع يؤيد ابن طائفته الفاسد الذي خرج من السلطة، ويجعله “خطاً أحمر”. من يخرج من السلطة، وهو من أربابها، يرفض أن يكون معارضاً. يلجأ للطائفة. يستخدم تعبير الميثاقية. يعتبر خروجه من السلطة اخراجاً قسرياً من الوطن. افتئاتاً على الميثاقية والوحدة الوطنية. يصير البلد على حافة الحرب الأهلية. الميثاقية طريق الحرب الأهلية.

استرداد الناس الى طوائفهم، وإعادة زرع الطائفية في قلوبهم وعقولهم، بما هو أعمق مما سبق الثورة، هو برنامج للثورة المضادة، ثورة السلطة على الناس ومطالبهم المحقة. اعتاد لبنان أن يهرع الأشقاء العرب الى مساعدته على تجاوز الأزمات، المالية والسياسية، أما هذه “الأزمة” فهي ثورة ديمقراطية يزعزع التشبه بها أركان جميع البلدان العربية الأخرى. لا يريد طغاة العرب أن ينتشر “وباء” الديقراطية والحرية الى بلدانهم. لا يريدون أن يكون لبنان وثورة أبنائه مثلاً يُحتذى به في أمكنة أخرى. يحجمون عن التدخل، ولا يمكن أن يكون تدخلهم إلا لمناصرة الثورة المضادة في لبنان. معروف من هم حلفاؤهم. الحلف الأساسي هو لبنان الطائفي، سواء كان سنياً أو غير سني، ولبنان الميثاقي سواء كان مارونياً أو غير ماروني.

يخطىء من يعتبر الفساد مقتصراً على الفساد المالي. الفساد السياسي الطائفي والميثاقي هو صنو وحليف الفساد المالي. الطائفة أداة للسرقة والاحتيال على أتباعها وأتباع الطوائف الأخرى. الميثاقية تضع نفسها فوق الدستور وتجعل المصير متعلقاً بعشوائية أكباش الطوائف؛ هي إقرار بأن المذهب فوق الدين وفوق الدستور.

ليست الميثاقية عقداً اجتماعياً كما تحدث عنه روسو. هي سلاح تستخدمه الطوائف ضد بعضها. هي سلاح تستخدمه الطوائف بعد الثورة لتعيد الطائفية والمحاصصة بأبشع أشكالهما. ليس للطوائف حقوق على الدولة. لها منافع متبادلة إذا بقيت، وهي ستبقى بينها وبين أتباعها. نزع نظام الطوائف وتدميره يعني تحرر المواطن من التبعية لطائفيات يقررها أكباشها وصيرورته الى مواطن منتم الى دولة؛ عضو في دولة؛ مواطن في دولة.

كل المشاكل التي يعانيها لبنان تنحل بإلغاء نظام الطوائف في الدولة. تتآكل الدولة ويتغوّل الطوائف عليها. ليس الأمر أن ليس لدينا دولة، بل المشكلة أن الدولة تحت رحمة الطوائف. والشعب كذلك. تمحو التطوّر البطيء باتجاه الدولة وتحل مكانها دولة مشكّلة من مكونات طائفية؛ أي لا دولة. الأكثر من ذلك، الذي يحكم بعد تشليع الدولة هو تشليع النظام: لكل طائفة نظامها، وكل أجهزة السلطة يخضع الواحد منها لهذه الطائفة أو تلك. حتى الجيش يفقد هيبته كذلك الأجهزة الأمنية. تتحوّل الدولة الى سجل عقاري، وعلى الصعيد الرسمي كل ما عدا السجل العقاري منافع تتوزعها الطوائف فيما بينها، سلماً أو قتالا. في الحالتين تكون الحصة الأكبر للأقوى. المواطن الذي هو خارج الطوائف والذي اختار ذلك يصير منفياً في بلاده. المحاصصة الطائفية هي النظام الباترومونيال الجديد. النظام الباترومونيال القديم يبقى وتشتد أواصره مع تغيير أسماء بعض الأكباش من زعماء الطوائف. ينعكس ذلك في الانتخابات النيابية. تصير الديمقراطية شكلية. يعيّن أكباش الطوائف نوابها، ويتيحون للأتباع مخالفة القوانين التي تنتهك كل يوم، بل كل لحظة. يبقون على اتفاق على نظام المشاركة والمحاصصة لكنهم يفرغونه من مضمونه. يدل تحوله الى إلغاء الطائفية. يؤكدون عليها ويحولونها الى باتريمونية جديدة.

الميثاقية نقيض المواطنة. تتسامى فوق الدستور. تشبه موقع المرشد في الدولة الدينية التوتاليتارية. تصادر الطائفة. هي آلية للمحاصصة الطائفية وما يرافق ذلك من زبائنية ونصب واحتيال وحماية الفاسدين. تجعل من المذاهب طوائف يحكمها أو يقودها الجهلة والأغبياء والحمقى. العقلانية في الدولة ومفاهيم الدولة والمواطنة. الجهل والحمق في مفاهيم الميثاقية ومفاهيم المحاصصة الطائفية. الفرد وحده حامل الكفاءة والنزاهة والعقلانية. تجرده الميثاقية من ذلك، وتجعله تابعاً من الأكباش. لا عجب أن يهاجر/يُطرد معظم الأكفياء من لبنان. لا مكان لهم فيه.

الدستور كتاب الدولة. متى أدخل فيه أو أضيف عليه أو تسامى فوقه مفهوم ميتافيزيقي (أو دستور عشوائي) آخر يفسد الدستور. يصاب البلد بالفساد. الدولة لا شرط عليها. هي شرط لكل ما عداها. الميثاقية شرط على الدولة. تهز إمكانية العيش سوية. يبقى البلد معرضاً يومياً، وفي كل لحظة، للاضطراب. الميثاقية تفرض التوافقية. كلما خرج أو أخرج طرف طائفي من السلطة يعتبر أن هناك مخالفة للميثاقية. لا يجري التقيّد بالدستور، ولا يؤتى على ذكره. لا يعتد بالأفراد ولا بالرأي العام فيها وخارجها. يُعتد بالطوائف فقط وبزعمائها، أي أكباشها. يفترض الأكباش أن كلا منهم هو الأقوى في طائفته. يضعون شروطاً على الدولة وعلى إمكانية العيش سوية. يصادرون العيش في كل طائفة. العيش بمعنى فرص العمل والعيش المادي. يشكلون سور حماية  لمن يواليهم. يمنع أن يخرج عليهم أحد. يحجبون الحرية. نظام استبدادي لا حرية فيه إلا للطوائف، ولأكباش الطوائف. حريات الطوائف تمنع حريات الأفراد. يختفي الفرد تحت عباءة كبش الطائفة. يفقد مواطنيته. تتلاشى كرامته. تعددية الطوائف تمنع التعددية الفردية. تمنع التعبير عن الحرية لدى الأفراد.

أخطر ما في الميثاقية هو العشوائية. الدستور يعني الانتظام في الدولة. الميثاقية تضع كل مسار الدولة قيد رغبات أكباش الطوائف. كل واحد من أكباشها يهدد بقاء الدولة أو يدعي ذلك. يعتبر الميثاقيون أن الدولة مرهون بقاؤها بإرادتهم. إرادة السلطة لديهم هي مصدر قراراتهم دون الاستناد الى دستور أو قانون. يقررون ما يشاؤون ويفرضون ذلك على الدولة. وما يفرضونه يحل مكان الدستور والقانون. الأنكى من ذلك، لا يتقيّد دعاة الميثاقية بأي من قواعد السياسة والأخلاق. حصة الطائفة فوق كل اعتبار، حتى اعتبار وجود الدولة. يتلاعبون بكل مقومات الدولة من سياسة ومال واقتصاد وسياسة خارجية أو داخلية في سبيل مبدأ الميثاقية الذي يصادرونه. لا يهمهم أن يكون المجتمع قوياً متماسكاً. بل تهمهم حصتهم من النظام ولو على حساب وحدة المجتمع وتماسكه. تزول التسوية (السياسة) بين الأطراف؛ يسود مبدأ إما أنا وإلا لغة الميثاقيين هي دائما خطاب تهديد للآخرين. ليس بين الميثاقيين كتاب مشترك أو دستور مشترك ( وهذا أخضع للعشوائية والإرادية) بل هناك خطاب مشترك. كل منهم يتبع مبدأ إما معنا أو ضدنا. الميثاقيون جاهزون لحرب أهلية دائمة. لا استقرار في ظل الميثاقية ولا التوافقية. لا يتوافق الأكباش إلا عندما تسود وجهة نظر واحد منهم. أما أن تسود وجهة نظر مشتركة مبنية على الحوار والنقاش فهذا أمر غير وارد.  لم تشهد الدولة، بالأحرى نظام الحكم، فسادا وانحطاطا وتشلعا كما في عهد الميثاقية والتوافقية.

العقد الاجتماعي إقرار لدى المجتمع بضرورة العيش سوية ضمن الحدود المرسومة (أو غير المرسومة) ولو عشوائياً. وهذا يعني ممارسة السياسة والحوار بين الأطراف والوصول الى قرارات تكون حصيلة هذه الحوارات. السياسة في المجتمع هي ما يحافظ على تماسكه ويذيب الافتراقات بين الطوائف والأفراد. هي وحدها ما يحقق الاستقرار وديمومة الدولة ونصابها. الميثاقية مرشدية تلغي كل ذلك وتضع الدولة في دماغ كبش الطائفة المسيطرة. قال الناس في الثورة أنها من اجل الكرامة. هذا يعني أن للناس وجوداً وإرادة تهينهما ميثاقية الأكباش وحصر الأمر بهم وبأدمغتهم. ربما كان الفقر يحرك الكرامة، لكنه لا يحركها إلا عندما يبلغ السيل الزبى. الفقر في لبنان ازداد زيادة مريعة منذ عقود. تراكم الفقر بفضل سياسات النظام. لكن النظام استلب منه إمكانية الاحتجاج والإصلاح بأساليب عادية وانتخابية، خاصة عندما خضعت البلاد لقانون انتخابي يكرس سلطة الأكباش ويضييق على الناخبين ويحاصرهم من أجل انتخاب مرشحين يعينهم أكباش النظام. ثار الناس لفقرهم وانتزاع كرامتهم وضيق سبل الاحتجاج العادية في وجههم. تعيينات عشوائية، اتفاق عشوائي، احتقار للناس، تشليع للمجتمع طائفياً باسم حقوق الطوائف. كل ذلك دفع الناس الى الثورة. هي ثورة على وضع قائم، وضع يزداد تفاقمه مع ازدياد تسلط الأكباش. الفقر والكرامة مرتبطان. الفقير، والذي تتدنى سبل معيشته تحت خط الفقر، أدرك أن إفقاره مقصود ومبرمج.، وأن كرامته مهدورة على أعتاب الفقر، وأن الفقر يرميه الأكباش والسلطات المالية، وهي تابعة لهم، أو متحالفة معهم، على أعتاب الناس. وصل الناس الى طريق مسدود بعد التعامل المزري مع سلسلة الرتب والرواتب فثاروا.

سبب الثورة هو التعالي على الدستور وعلى الناس، واهتمام الطبقة السياسية بشؤونها وحسب، دون أي اعتبار للناس ومعيشتهم وعيشهم سوية. السبب سياسي-اقتصاد-اجتماعي. ولدت الثورة لبنان من جديد. تعارف الناس، اتحدوا تعاونوا اتفقوا على أنهم مجتمع واحد متنوّع متعدد. أقروا بالتعدد في الوحدة. لم تنته الثورة الى فشل. ما فشل هو هذا النظام السياسي. سنرى نتائج هذه الثورة الباهرة حتى ولو انحسرت.