10
Jan
2020
0

الفساد ٥ – ثقافة الاستهلاك والديْن

مقابل نمط إنتاج الفساد، هناك نمط استهلاك يقوم على مبدأ الاستدانة بما يفوق القدرة المادية للأفراد والمجتمع. استهلاك قائم على الديْن المفروض على الدولة وعلى المجتمع فرداً فرداً. قليل من الاستهلاك يقتصر على الضروريات. معظمه يدور حول الكماليات. تستدين الدولة والمجتمع والأفراد من أجل الكماليات لا لأن هناك حاجات ضرورية عند كل من هؤلاء، ولا لأن الإنتاج لا يكفي لما نستهلك (معظم ما نستهلكه لا ننتجه) بل لأن ضرورات النظام الرأسمالي النيوليبرالي في لبنان تحتم الديْن لأي غرض كان. نستورد ما لا نحتاجه فنستدين. نستهلك ما تطلبه الرغبات فيكون في الأمر تلبية لحاجات غير ضرورية؛ معظم الأحيان يتم إشباع الرغبات بحاجات افتراضية ليس فيها شيء من انسانيتنا، بل فيها ما يكمل مشهدية-سياسية سطحية المضمون والجوهر. حداثة افتراضية. حداثة بلد متخلّف مسكون بالرغبات غير المجدية التي لا تخلو من المعنى والمغزى وحسب، بل من أي عمق اسناني. صرنا ننتج ثقافة لا تستند على معرفة. ثقافة أشبه بطلاء يزول حالما يمسه ماء. صرنا نعيش من يوم ليوم، راضيين بالنظام. نساهم بالسياسة عن بعد. لا نعتبر أن السياسة عملية ذات بعد عميق يتعلّق بإدارة المجتمع وإصلاحه المستمر. لم نعتبر أن الإصلاح عملية تراكمية مستمرة، الى أن جاءت الثورة، فكانت زلزالاً وكانت احتجاجاً على السلطة وعلى أنفسنا وعلى نمط عيشنا القائم على هذا النوع من الاستهلاك المفروض وغير الضروري.

يُنظر للثورة بعين الخطأ والصواب وكأن معيارها تحقيق أهداف. لم ندرك أن الثورة حدث آني، أشبه بالانفجار. حدثٌ يجب أن يحدث لأنه حَدَثَ. حدثٌ دون منة من أحد، دون قيادة لأنها ثورة من مجتمع ضد نفسه، ضد السلطة أيضاً لأن السلطة لم تكبح جماح الديْن بل شجعته، فكانت نيوليبرالية بكل معنى الكلمة.

أسأنا إدارة ما بُني من البنى التحتية. أسأنا الصيانة، كأن الإعمار لم يكن. تواطأ الجميع على ذلك. فكأننا شعب ضد نفسه. بكل سرور ساهمت الطبقة السياسية-المالية في ذلك. فاستخدمت السمسرة والفساد في الإنشاء والإدارة بعد ذلك. لا نذكر أن الكهرباء وصلت الى بيوتنا في العام 1997 كل النهار، وكل نهار في الأسبوع؛ الى أن جرى تدميرها. وقس ذلك على قطاعات البنى التحتية الأخرى. العهد الأخير لم يكن إصلاحاً بل استمرارا لعهود سابقة امتدت منذ الحرب الأهلية مع فارق هو ازدياد الدين العام الاستهلاكي، والفردي أيضاً.

منذ الحرب العالمية الثانية، أي منذ الاستقلال، عشنا 3 مراحل. الأولى شملت 30 سنة، الثانية 15 سنة، الثالثة 30 سنة. اشتهر الأوروبيون بالحديث عن الثلاثين سنة المجيدة بعد الحرب العالمية؛ في لبنان لا ندري أيتها الثلاثين سنة المجيدة: الأولى أم الثالثة، التي تمتد من 1990 الى 2020. توجت المرحلة الأولى بالشهابية وبناء مؤسسات الدولة مع إعمار خجول. توجت المرحلة الثالثة بحريرية رفيق الحريري وإعمار واسع مع إصلاح خجول. تتناقض آراء اللبنانين في الحكم على المرحلتين: الأولى والثالثة. فريق يرى الأولى هي المجيدة بسبب التشريعات والمؤسسات. فريق آخر يرى الثالثة هي المجيدة بسبب الإعمار أي الشغل المادي التنفيذي. يتناسى الجميع أن المرحلة الأولى انتهت بحرب أهلية، وأن المرحلة الثانية ولدت في الحرب الأهلية؛ وأن المرحلة الأولى بطلها جنرال رفض الحرب الأهلية، وأن المرحلة الثالثة بطلها غير الحريري جنرال خاض الحرب الأهلية. يريد الجميع تناسي أو تجاهل الحرب الأهلية من أجل الانهماك في تهتك استهلاكي عشوائي لم يسبق أن شهده لبنان. لا بدّ من الاستدراك بالقول أن التهتك هو أسلوب الحياة الذي يعتمد على الاستهلاك دون الإنتاج. لا يحدث الإنتاج إلا بالعمل والسعي.  إذا غاب العمل حلّ التهتك لأن المستهلكين حينها لا ينفقون ما ادخروا بعد أن عملوا، بل ينفقون ديْنا ادخره الغير وحازوا عليه بأساليب النصب والاحتيال، أي عبر نظام مصرفي يشجع الدولة على الاستدانة دون مراعاة قواعد الاقتصاد التي تدور حول محاور ثلاث هي: الإنتاج والتوزيع والاستهلاك. اعتمد النظام المصرفي على الربا وليس مجرد الفائدة في استيراد أموال خارجية مرسلة من دول ودائنين ولبنانيين في المهجر الذي طردوا إليه. أنت تستطيع أن تستهلك ما شئت شرط أن يتم تزويدك ببطاقة إئتمان لشراء خدمات الخلوي أو السيارة أو حتى المنزل وحاجيات المنزل الغذائية. المهم أن الأموال تتراكم وهي تأتي من الخارج. صارت مهمة المصارف الأولى موازنة ما يأتي من الخارج مع ما يدفع من فوائد. صار النظام المصرفي بحاجة الى ورود أموال من الخارج تفوق الفوائد التي على الديون والتسليفات التي تُعطى فردياً أو تودع لدى مصرف لبنان أو تسلّف شخصياً الى أن تأتي ظروف تجف فيها الأموال التي تأتي من الخارج لتكون أقل من ما يريد النظام المصرفي للبنان، أو أن جهة تسحب كميات من الدولارات من المصارف أو الصرافين فيصل البلد الى أزمة سيولة. هذا ما حصل. كأن جفاف السيولة كان عقاباً ضد اللبنانيين، فلا يستطيعون التمتع بأموالهم أو رواتبهم الموجودة في المصارف. تحويل اللبنانيين الى متسولين وراء أموال يملكونها هم. وهي مودعة في المصارف بشكل آخر. للناس حق الرقبة. للمصارف حق المنفعة. لم يكن العقاب الذي أنزل بالناس هو ما جرى في الميادين والتظاهرات، على ما خالط ذلك من أعمال عنف ارتكبتها الأجهزة الأمنية. العقاب الحقيقي والشامل كان في المصارف. هؤلاء يعرفون أن رقاب الناس في قبضتهم.  يجب على اللبنانيين أن يتسولوا أموالهم يومياً. يجب أن يشعروا، بل يعانوا، أزمة انكماش أو غياب كميات النقد من الدولار بعد عقود من تعويدهم على معادلة الليرة بالدولار بشكل صارم. بالإضافة الى إشاعة عدم احترام الليرة، حتى صار الجميع تقريباً يتعاملون بالدولار.

منذ عقود أعطي اللبنانيين من حساباتهم أو ديونهم ما يحتاجون لشراء حاجاتهم؛ بطاقات الائتمان مسهّلة. مجلس الوزراء أحال على مجلس النواب موازنة تلو الموازنة، تفوق فيها النفقات الاستهلاكية الايرادات بكثير. لم يهاجر/يُطرد اللبنانيون جميعهم. من بقي نسلفه أسباب البقاء. جميع الديون التي وافق عليها مجلس النواب دون نقاش، ودون اتباع القواعد الدستورية في النقاش والتصويت. كانت غير شرعية. مجلس النواب أنتج عدم شرعية الدولة. عدم شرعية نفقات الدولة بالإضافة الى أشياء أخرى. أغرى اللبنانيين بالديون. وتراكمت ديون الدولة. وعاش لبنان فترة ازدهار تستحق أن تُسمى الثلاثين سنة المزدهرة. وعندما تكشفت الصورة الحقيقية للمالية العامة اللبنانية على مدى ثلاثين عاما، وذلك عندما وقعت الأزمة، وانخفضت السيولة، وعوقب اللبنانيون على الثورة، صبوا جام غضبهم على الشخصية الأبرز خلال الأعوام الثلاثين، وكان رفيق الحريري. فكأن مجلس النواب، برئيسه نبيه بري ونوابه، لم يكن يوافق على كل قرش انفق في محله وفي غير محله المناسب. جرى التركيز على ما أنفق في غير محله ليضعوا الملامة على بعض الطبقة الحاكمة من الذين لم يوافقوا سياسياً على ما يجري بعد أن كانوا شركاء في كل ما يجري. “كلن يعني كلن” شعار صحيح. الجميع يتحملون مسؤولية الانهيار.

كلما قويت الرابطة بين الناس والمصارف ازداد اعتماد الناس على المصارف، وصارت ايداعاتهم في قبضتها وتحت رحمتها، وأصبح سهلاً على السلطة السياسية معاقبة الناس من خلال المصارف. رضخ الناس لذلك وعدوه ازدهاراً. منهم من اعتبر ما يجري في البلدان العربية من حروب أمراً مناسباً، إذ أن ذلك سيدفع الجيران من العرب الى الاستمرار في جلب أموالهم الى القطاع المصرفي، ولم يحسب أحد حساب أن هذه الأموال يمكن أن تسحب لأغراض تمويل في سوريا، أو تُهرّب خوفاً مما سيحدث في لبنان. لم يتصرف النظام السياسي ومن وراءه السلطة السياسية على أن هناك تلاعباً بأموال الناس. وكان الحل البسيط إغلاق المصارف بوجه الناس وتقنين السحب من ايداعاتهم. كأي نظام استبدادي لم يعد يثق بجيشه الرسمي فخلق جيوشاً موازية. خلقت السلطة والمصارف سوقاً موازياً للدولار عند الصرافين. وكان عند البعض كميات مسحوبة من أجل شراء الدولار بأقل من قيمته بثلاثين بالمئة أو أكثر، أو السيطرة على العقارات المبنية بأسعار متدنية. حفلة نصب كاملة محكمة ساهمت فيها الطبقة السياسية والمصرفية. انصب غضب جهابذة الحراك على الأموال المنهوبة ولم يعطوا الاهتمام الكافي لأموالهم التي في المصارف الى أن أدركوا أنها غير قابلة للسحب، أي انها ليست ملكهم ( على الأقل حتى اشعار آخر). نوايا الاستيلاء على هذه الأموال تظهر من خلال الشعارات المرمية في السوق مثل “قص الشعر hair cut” أو كابتال كونترول أو إفلاس بعض البنوك وضمها الى غيرها.

أدرك الناس أن انكماش السيولة هو مسؤولية النظام السياسي والمصرفي. ركزوا على أن ايداعاتهم حق لهم أكثر من التركيز على تواطؤ البنوك مع السلطة السياسية التي يملك بعض أركانها مصارف تجعل السلطة السياسية في قلب المصارف وجمعية المصارف. الاستنسابية في الإفراج عن بعض هذه الإيداعات لبعض النافذين سياسياً هي مؤشر على هذا التواطؤ. كل  من أودع ماله في المصرف، لسبب أو لآخر، من صغار المودعين أو أواسطهم، يشعر بأنه وقع في الفخ. طبعاً الحل الوحيد العادل هو الإفراج عن أموال المودعين الصغار بكاملها والتعامل مع أموال الكبار لحل أزمة المصارف والسلطة (إذا كان هناك من أزمة). التعمية التي تمارسها السلطة وإدارة المصارف تجعل المرء يعتبر الأزمة مفتعلة. كبار المودعين يعدون على الأصابع، وهم يملكون أكثر من 90% من الودائع. حل الأزمة يجب أن يكون على حسابهم لا على حساب المودعين الصغار وأصحاب الرواتب التي لا تمر إلا عبر المصارف.

تراكم الدين العام (دين الدولة) كان برنامجاً هادفاً للمصارف وللسلطة السياسية. تراكم الديون على الأفراد كان عملا هادفاً للمصارف. جميع من في الطبقة العليا الحاكمة يتحمل مسؤولية عن تراكم الدين هنا وهناك. أصبح الناس ودولتهم يرزحون تحت عبء الدين لأن الطبقة العليا أرادت ذلك وبرمجت له. المستفيدون من هذه الأعباء على كاهل الناس العاديين هم المصارف (بما فيه مصرف لبنان) والسلطة السياسية. التطوّر للوصول الى هنا ليس تلقائيا ولا عفويا، بل هو برنامج الطبقة العليا السياسية والمالية.

ازدهر اللبنانيون خلال السنوات الثلاثين الأخيرة. الازدهار غير مسبوق. جوهره الاستهلاك. ربما كان من واجبهم الادخار، وربما كان من واجبهم الاحتراز من المصارف، ومن نوايا السلطة حيال ايداعاتهم؟ لكن هذه السلطة هي التي ربطتهم بالمصارف ارتباطا لا فكاك له. صارت الرواتب وكل عملية دفع تمر عبر البنوك، في وقت كانت هذه تشجّع على الاستدانة، سواء كان الأمر يتعلّق بمبالغ قليلة أو كثيرة. الأموال ذات الحجم الكبير مؤمنة بسبب علاقة أصحابها بإدارات المصارف والسلطة. التهديد الحقيقي يطال أموال المودعين الصغار وهؤلاء هم الكثرة الغالبة، أكثر من 90 بالمئة من المودعين. هؤلاء عصب الثورة، وهؤلاء من يجب أن يُعاقبوا، وهؤلاء من يتوجب عليهم دفع ثمن الإجراءات الآتية والتي سوف تتفق عليها الحكومة العتيدة مع صندوق النقد الدولي، وسيكون الاتفاق إذعانا اضطرارياً.

وسائل الدين صارت متاحة بشتى الأشكال: خطوط ائتمانية إضافية، بطاقات ائتمان، دفتر شيكات؛ أصبح بإمكان الشاب اليانع إعلان الاستقلال عن أبويه وعن مجتمعه، وإعلان فرديته بالتسوّف على حسابه. لا أحد من أهله يرافقه للدفع عنه. لديه البطاقة الائتمانية. وهي جواز العبور الى مرحلة ما بعد المراهقة. فردية مربوطة سلفاً لا بالعائلة أو الطائفة أو العشيرة. بل فردية مربوطة سلفاً بالمصرف وبرأس المال المالي. رأى في كل ذلك أمراً مبهراً في البداية. وعندما اكتشف حقيقة الغرامات، أدرك حقيقة الخصخصة، أي خصخصة المال العام والمنشآت الكبرى. أدرك أنها هي السابقة وهو اللاحق: سيصير أو صار واحدا من ممتلكات المصرف. هو يعمل براتب محدود. هو يعمل ويقبض الراتب ويدفعه. ويكتشف أن الدفع محاط بهالة من الغرامات الشهرية، بسبب أو بدون سبب، إضافة الى الرسوم. أضيفت جميعها لتشكّل إكليل العروس في ليلة الدخلة. دخل الى البنك وأصبح أحد عملاءه قبل أن يبلغ سن الانتخاب. جرى تكبيسه في المصرف قبل سن الاقتراع. لم يقل له المصرف من ينتخب، ولا يظهر المصرف انحيازه، معذ الله. لكن البنك أخرجه الى سوق الاستهلاك بكل فردية و”حرية” ، فينطلق الى صندوق الاقتراع بعد ذلك وفي عقله أهمية الباترون، وربما العشيرة والعائلة. ينطلق مدجناً مستحقاً لعبودية خفية. في الحال تُنزع منه فرديته أو تبقى افتراضية. انتظر بلوغ الشباب ليصير حراً فإذا به يجد الأمر سراباً. وقع في شباك النظام وفقد حريته. نظام الاستهلاك الذي أنتجه أسلوب إنتاج الفساد تمكّن منه. الأبواب مفتوحة أمامه ليمارس فرديته التي لا يمكن إشباع رغباتها إلا بالمزيد من الأجر غير المتاح شرعياً. يدخل الى عالم ينتزع منه عذريته ويضطر الى مال “براني”. المقاومة للنظام ستكون صعبة. بالنتيجة سيصير منبوذاً إن لم ينضم الى القافلة. يُكثر من الاستهلاك بوسائل الديْن. تبدو عليه مظاهر النعمة. يرى الذين حوله أنه غرق في النظام. كان مطلوباً ومفروضاً أن يغرق في النظام. صار بحاجة للحماية. نظام الباتريموني (الزبائنية) هناك ليتلقفه ويجنده. انكسر جانحه. فقد كرامته. أصبح واحداً من الأتباع. انضم الى القطيع وراء كبش الطائفة. كي يهرب من ذلك عليه أن يهاجر، أن يُطرد، الى بلدان الانتشار حيث لا يعرفه أحد. نظام الديمقراطية الزبائني-الطائفي ينتج عبيداً لا يتحررون إلا بالهجرة. في بلد الانتشار يعلو منسوب الحنين الى أرض المنشا. يعود دورياً. عندما تنشب الثورة زلزالاً مدوياً يعود ليشترك فيها. يمارس النوستالجيا. إن لم يجد نفسه غريباً في بلده يكون محظوظاً. ما تعود في بلاد الانتشار على أن تتعامل معه القوى الأمنية والبيروقراطية الجديدة في بلده بهذا الخبث الذي لم يصادفه في بلدان الاغتراب. يجد في العودة الى المغترب راحة نفسية خاصة وإن بلد المنشأ عاد الى عاداته القديمة دون تحقيق الجنة على الأرض بعد الثورة. فرديته تعود إليه هناك لا هنا. عشق أن يكون حراً ولا يجد ذلك في بلد المنشأ. يتزايد غضبه. أحياناً يصل الى فاشية التعلّق ببلده الأصلي دون فهم لما يجري. يخترع لبنان الذي في وعيه. يعيد اختراعه حسبما يتصوره لا كما هو. يخترع تقاليده كما تصوّر وكما يتذكر بعضاً من بلاده وقراها. كلما كبر في العمر تصاب الصورة التي في ذهنه بشحوب. ينسى بلد المنشأ. تتناقص عدد الزيارات لبلد المنشأ. تنقطع الصلات. متى عاد تكون المطاعم والملاهي الليلية قد اخترعت نوعاً جديداً من المازة وبنات الليل. يصير بلد المنشأ محطة للمتعة، كما هي الموانئ البحرية لعمال أو جنود السفن الكبرى. عندما يعود الى بلد المنشأ يشارك في احتفالات الضيعة عند استقبال الزعيم وكأن الثورة لم تحدث.

أما الذين بقوا في بلد المنشأ فعليهم يقع وزر التغيير. يحاولون ويحاولن الى أن تذوي الثورة وتزول. يعود الشباب الى سلوكهم القديم. المكسب الأساسي هو أن  تعدل الطبقة الحاكمة (من سياسيين ومصرفيين) من سلوكها وتتعظ مما حصل في الثورة، وتأخذ بالاعتبار مطالب الثوار كي لا تتكرر، وأن ترى خطراً عليها في ممارسة الأساليب القديمة، كما قبل الثورة. الأمل أن تكون اتعظت بأن المجتمع تغيّر وهو يحمل إمكان تكرار الثورة التي حدثت. عادة لا يتعلمون من التاريخ، الأمل أن يكونوا قد تعملوا هذه المرة. الأمل معقود أن يتواكب التغيير في الطبقة الحاكمة مع تغييرات المجتمع التي حصلت فعلاً. التناقض بين الطبقة الحاكمة والمجتمع لن ينحل من تلقاء نفسه. لن ينحل ما لم تتغيّر الطبقة الحاكمة بنفسها، أو يغيرها عنف لا يتمناه أحد.

الحل ليس في لبنان القديم. الحل في لبنان جديد تغيّر مجتمعه ولم تغيّر الطبقة الحاكمة سلوكها وتعتبر نفسها ثورة مضادة مهمتها إعادة الأمور كما كانت قبل 17 تشرين الأول عام 2019. ليس صدفة أن هذا العام يسبق المئوية الأولى على إعلان لبنان الكبير، الذي تم على يد الاستعمار الفرنسي، ثم أخذنا استقلالنا ولم نمارس الانتماء لبلدنا الذي يجب أن نكون مواطنين فيه لا أتباع أكباش الطوائف.

نحن على شفير الهاوية، ان لم نكن منحدرين في الهاوية. لا نستطيع منع المزيد من الانهيار دون تعديل نمط إنتاج الفساد والاستهلاك. لدينا اتجاه واحد نسلكه هو العمل والإنتاج والادخار والبناء في تأسيس مجتمع جديد وأفراد يطلبون الكرامة لا الانخراط في مجتمع ودولة الفساد وانتاجه.