النظام العالمي وتبعاته الإنسانية والعربية – العنصرية في أساس الرأسمالية
ربما كانت العنصرية هي الوجه الآخر للفاشية. وربما لم تكن للواحدة منهما علاقة بالأخرى. لكنهما تسيران معاً في نظامنا العالمي. النظام العالمي الجديد الذي بدأت ملامحه تظهر مع سقوط الاتحاد السوفياتي، وصعود الفاشية الليبرالية الجديدة وأخواتها الأصولية: المالية والدينية والمعلوماتية.
المال ليس ثروة، بل غياب الثروة من أيدي نصف سكان المعمورة، وتلاشيها من أيدي الطبقة الوسطى. وتركزها بأيدي أقل من 1% من البشر. الدين ليس الأخلاق، بل في غالب الأحيان ادعاء امتلاك الحقيقة لتبرير جرائم كثيرة باسمها. يتناقض الدين مع الأخلاق ما دام يزعم أنه يطبّق شريعة سماوية خارجة عن الإنسان. المعلومات ليست معرفة. هي ما يخزنه بنك المعلومات كيلا تبقى المعلومات في ذهننا. وكيلا يعمل الذهن على تحليلها وربطها أو فكفكتها.
هناك أوهام كثيرة عن الواقع، الذي يعتبر قدرنا، ولا نسيطر عليه. سقطت أوهام الاشتراكية الزائفة مع الاتحاد السوفياتي (كان رأسمالية الدولة وليس اشتراكية). وصعدت أوهام أشد وأدهى. ربما لم يكن للاتحاد السوفياتي إلا حسنة وحيدة، هي منع الأوهام من التفاقم.
العنصرية ليست دليلاً على صفات وسلوكيات يتمتّع بها الغير. بل نفي لصفات عندنا وإلصاقها بالغير. يصير الغير نفياً للنحن. هو ما ليس نحن. قذارتنا، دناءة النفس عندنا، قلة الأخلاق، غياب الضمير، استغلال الغير، النصب، والاحتيال، الخ… صفات للغير. نطهر أنفسنا بالعنصرية (الطائفية ليست أقل بلاء منها). نعتبر أنفسنا أكثر قدرة، لأسباب بيولوجية (أو ثقافية) على اكتساب وممارسة الحضارة والمدنية. غيرنا هو المتوحش، غيرنا هم البرابرة. السلسلة طويلة. المهم هو اعتبار أن لدينا جوهرا ثابتا غير جوهرهم. يتولد الجوهر عن صفات كامنة في وجودنا وجيناتنا. هم لا يستحقون أن يكونوا معنا وبيننا. لون البشرة ينمّ عن ذلك. الثقافة تحتل مكان لون البشرة عندنا. نريد أن نكره أحدا نشترك معه باللون ونريد استبعاده.
ما كان عرضياً يتوهمونه جوهرياً؛ ما كان صفة إضافية بفعل البيئة صار صفة فطرية وكأنها موروثة جينياً. يعتقد الأحرار أو ما يُسمى الليبراليون أنهم يدافعون عن الحرية البشرية. يفترضون أن البشري حر (طليق) مما أدى الى أن يكون ما يكون. يعتقدون ذلك طبيعة بشرية ولا يرون أن الحرية نضال من أجل أن يصير الإنسان حراً مما نشأ عليه. ليست الحرية أن تقول ما تشاء، على ما في ذلك من ضرورة؛ الحرية أن تكون ما تشاء، وأن تكون ما تشاء أصعب بكثير من القول بما تشاء. الحرية تعني الضرورة أن تكون حراً مما يريده الغير لك أن تكون. الحرية انفلات من الضرورة التي كان يجب أن تكونها. شرط الحرية أن تعي ما تفعل. لذلك قيل إن الحرية وعي الضرورة. الضرورة هي ما نشأنا عليه. الحرية هي ما نريد أن نكون عليه. يبدو الكلام مبتذلاً. لكن الحرية ليست أمراً مفتعلاً. تاريخ البشرية كله هو الصراع ما بين الحرية والاستبداد. نعرف الاستبداد جيداً، أو هكذا ندعي. لكننا لا نعرف معنى الحرية. الاستبداد هو أن نكون كما كنا. الحرية هو أن نكون شيئاً لم نكن عليه قبلاً. الحرية أمر صعب. صعب الممارسة وصعب الفهم.
أن تكون كما كنت هو جوهر العنصرية. أن تكون كما كنت يعني أن تكون كما يجب أن تكون. كل ما يملي عليك ما يجب أن تكون، سواء الجينات البيولوجية أو الجينات الاجتماعية أو الجينات الدينية. كل ما يملي عليك ما يجب أن تكون هو الوجه الآخر للعنصرية.
تفترض العنصرية أن “الآخر” هو كذلك لأنه يجب أن يكون كذلك. لولا هذا الافتراض لما كان آخر. كل افتراض للآخر هو إقرار بالعنصرية. ليس هناك آخر إلا ما نحن عليه. إلا إذا أردنا أن يكون الأمر غير ذلك؛ إلا إذا أردنا الآخر أن يكون غير ما نحن عليه.
تتعدد الثقافات وتتعدد الحضارات. يختلف الباحثون حول تعريف الثقافة وتعريف الحضارة. أيهما معني بالاستعمالات المادية، وأيهما معني بالأفكار. الاختلاف كبير جداً. هو هالة قومية بين ألمانيا وفرنسا؛ بين النصف الأوروبي والنصف الآخر. مشكلة الثقافة الإسلامية (ومن ضمنها العربية) أنها لم تعد موجودة لكي يكون النقاش حولها. هي جزء مما مضى، من القرون الوسطى (الأوروبية). نقول القرون الوسطى لأنه ليس هناك قرون عربية (أو إسلامية حديثة) كي نتحدث عنها. هذا يعني أننا لم ندخل الحداثة. نحن في قلب الحداثة. الحداثة التي صُنعت لنا ولم نصنعها. الحداثة بمعنى الاستهلاك. يخطؤن بالحديث حول الحداثة والتقليد.
الحداثة هي أمر اليوم. التقليد جرى تدميره. حداثتنا (مع العديد من الصفات والاتهامات) دمرت التقليد. لا نستطيع أن نكون جزءاً من العالم من دون حداثة من نوع ما. السؤال هو ليس حول الحداثة وعدم وجودها. السؤال هو حول الحداثة التي نصنعها نحن، والحداثة التي تُصنع لنا. كي لا يُساء فهم ما يقال هنا: نقول إن الحداثة بالنسبة إلينا هي بالضبط تقليد الغرب بإرادة منا؛ تقليده حرفياً. حداثة المثقفين هي أننا نأخذ من الغرب ما نريد. ما نريد فعلاً (على لسان شعوبنا) هو النصر، والتكنولوجيا (الحداثة)، والعلم (ما قبل الحداثة). هو العلم الذي أنتج الحداثة. هو العقل الذي قاد الغرب الى اكتشاف الطبيعة، والكون، وإنكار الخلق، بالأحرى، جعل الخلق ظاهرة طبيعية. ظاهرة تنتج شيئاً من شيء. والصورة الأولى إنتاج الكون من الصفر. والظاهرة الإلهية تنتج كوناً من لا كون. أما أن يكون للكون نقطة صفر ينطلق منها، فهو موجود، أو لا تكون هناك نقطة صفر قلا ينطلق من لا شيء. لنعود الى العنصرية.
العنصرية هي أن يتباهى بعض البشرية بأنهم أدركوا الحقيقة (أو الحضارة) والآخرون لم يدركوها؛ الأهم أنهم لا يستطيعون إدراكها. الاعتراض على ذلك أن الشعوب الأولية تستخدم كمية من دماغها بما لا يقل عن الشعوب المتحضرة؛ والثاني أن ما اكتشفوه لا يقل أهمية عما اكتشفته الشعوب المتحضرة. طبعاً مع عدم أخذ ميزان القوى بعين الاعتبار.
العنصرية هي ليست اختلافنا مع الشعوب البدائية. هل تستطيع أن تصير على ما نحن عليه؟ السؤال يشمل الشعوب المتأخرة (ومنها نحن، أصحاب حضارات قديمة اضمحلت) والحديثة. هل تستطيع التطوّر بمختلف مراحلها الى ما نحن عليه؟ أم أن هذا التطوّر مرهون بالغرب؟ لذلك، يكون الغرب وحده مسؤولاً عن العنصرية. ليس الرق جزءاً من ذلك. إذ يصير عبداً من انهزم في الحرب، ولا يُفرض ذلك على الشعوب المتأخرة لأنها متأخرة. المسؤولة هي الرأسمالية التي تعتقد أن شعوباً تستحق الرأسمالية وغيرها دون ذلك. لا تستطيع الرأسمالية أن تعتقد بغير ذلك، بسبب قانون الملكية الخاصة: من ورث ثروة فهو يستحقها. هو يستحقها لا بسبب الكفاءة أو غير ذلك، بل بسبب قانون الوراثة، المبني أساساً على الفطرة. قانون الوراثة يسمح بأن توجد الثروات لدى من كان لا يملكها، ثم تجعلها وراثة جينية. قانون الوراثة موجود في كل الأديان والثقافات، وهو قائم على مبدأ أن من يرث فلأنّ هذا يصير صفة جوهره، أشبه بالجينات الوراثية. ليس الرابط علمياً، لكنه رابط ايديولوجي. ما كان يجب أن يكون، وأن يستمر على ما كان عليه. هذا ما تقوله الجينات. البشري محكوم بأقداره. أما في العلم الحديث، فهو محكوم بجيناته. كل ذلك يشير الى مبدأ قديم وهو أن الإنسان محكوم سلفاً بقوة كبرى كونية تقرر مصيره. وهل الرأسمالية إلا هذه القوة الكونية التي تقرر مصير البشر؟ صادرت الرأسمالية علم النجوم والتنجيم كي تبقى الرأسمالية كجزء من علم التنجيم لا من علم الأسترونوميا. يعرف علماء الأسترونومي مصطلحات النجوم ويستطيعون توقعها. علم التنجيم (الاقتصاد) لا يستطيع أن يتوقع شيئاً. يبقى الاقتصاد رهينة بيد المشعوذين. في موقع يقرر مصير العالم. لذلك يصح تصنيف
تستدعي حركة النجوم أن يكون هناك طبيعة تتقرر من خارج الكيان البشري. طال الاعتقاد بالنجوم وتدخلها في المصير بالبشري الى أن دخلت البشرية عصر العلوم وتقرر أن المصير البشري يقرره البشر، وأن جزءاً منهم يقرره للآخرين، ولا مكان للنجوم أو للكائنات العلوية في ذلك.
ما إن زال تأثير النجوم في المصير البشري، وذلك حسب الوعي البشري، حتى ازداد أثر أصولية المال والمعلومات والدين. أخذ المال بيد السحر وأرجعه الى خلفية المسرح واستلم هو الدفة وملأ الدماغ البشري بالأوهام. المال عملة التداول. هو داخل في كل تعامل بشري. هو الواقع الذي لا واقع أعمق تأثيراً منه. وهو في آن واحد الوهم الذي لا أكثر تعمية منه. يحتاج البشر الى شيء لا يفهمونه كي يستندوا إليه فيما يفهمونه. الدين والمعلومات ساهما مع الرأسمال في مواجهة العقل وتخفيض فعالية العقل في السلوك الإنساني.
لا يمكن للرأسمالية مهما كانت ليبرالية أو نيو ليبرالية إلا أن تكون عنصرية. العنصرية وجه آخر للملكية. اعتبار المُلك حقاً لصاحبه؛ حقاً طبيعياً، يجعله صفة كامنة خفية جينية للمالك. امتلاك الثروة شرف يرثه المالك عن أسلافه كما يرث الصفات الأخرى. يتكيّف الانسان بما يرثه. يتكيّف بالثروة التي ورثها. يصير آخر من دونها: اذا عرف أن اسمه ليس في الوصية. الفقراء هم كذلك لأنهم فقراء. الفقر بمثابة المرض. شيء يتعلّق بالصفات الإنسانية. ليس عرضياً بل جوهرياً في الكيان البشري الفقير.
للفقر ثقافة وللغنى ثقافة. هم بشر مختلفون. وجود الثروة وعدمها يدلّ على فروقات في الحق. الحق يصير طبيعياً. هو كذلك منذ زمن، وما هو طبيعي يُعادل البيولوجي. أساس كل ذلك نظرية الحق. عند هيجل كانت بمثابة وضع اليد، فرض السيطرة. استخدام القوة لفرض الإرادة؛ صار الحق طبيعياً مع الليبرالية. ينتج عن كل ذلك العنصرية الدونية: اعتبار الفقير المعدوم أن فقره قدره. ولد فقيرا، صار كذلك، يبقى كذلك، ويصير كذلك. يتمسّك الغني بمكاسبه إذا أصر على العنصرية. لماذا يتمسّك الفقير إذاً بمصيره الأسود إذا اعتُبِر بأنه لا يستحق أكثر من ذلك! القوانين التي تحمي الملكية الخاصة تحمي هذا النوع من العنصرية: التربية التي تُعلِّم الحقوق والمحافظة عليها ترسّخ هذه العنصرية. لا يتعلّم التلامذة أن الثروة تراكم قيم مقتطعة من المنتجين. وأنّ الذين أنتجوها بقوة عملهم هم الفقراء الذين لا يتعلمون أن القانون على ضرورته بني على وضع قائم نتج على هيراركية التراتب الاجتماعية، وعن بنية اجتماعية سمحت للأضعف أن ينتج ولا يملك، وسمحت للأقوى أن لا ينتج وأن يملك.
نشأت القوانين بعد ترسيخ الفروقات في الملكية. هناك حقوق بالثروة لمن يملك. وحقوق للفقراء بأن لا يملكوا. صار عدم الملكية حقاً. صار الفقر حقاً وقدراً.
يأنف الناس من حروب الثقافات أو الحضارات. ويعتبرون حروب الطبقات (من أجل إعادة توزيع الثروة) خرقاً للقانون. النيات الفكرية التي تعتبر الانسانية ثقافة واحدة، سيمفونية واحدة تتنوّع فيها الألحان المتنوعة، يجدر بأصحابها الانتقال الى اعتبار أن البشر طبقة واحدة. الانتقال الى اعتبار البشرية ثقافة واحدة هو انتقال الى اعتبار البشرية طبقة واحدة. في الطبقة الواحدة فقط يتساوى الناس أمام القانون. وجود فقراء في مواجهة أغنياء لا يمكن أن يقود الى المساواة أمام القانون. ويجعل إقامة العدل أمراً مستحيلاً. لا عدل من دون المساواة. لا عدل في القانون من دون المساواة في الثروة والإمكانات المادية.
ثورة المعلومات جعلت العدل مستحيلاً. يحق لك بسببها أن تعرف لا أن تحلل وتعلل ما يجري. ثورة المعلومات تجعل مستحيلاً عليك أن تفهم أسس النظام العالمي وتعرفه، وبالتالي أن تحتج ضده. تجعلك ثورة المعلومات عبداً للنظام العالمي. تصير مشبعاً بقيم الرأسمالية وقوانينها. ممنوع عليك أن تدرك أصل هذه القوانين، وأن أصلها هو الغلبة والتراتبية في المجتمع، ما أتاح أن تسيطر أقلية على نتاج عمل الأكثرية. الدين له وظيفة حتمية هي أن يبرر ذلك، ويرده الى الخلق الإلهي بعد أن ردته الرأسمالية الى الطبيعة (البيولوجية). كانت الرؤية نحو الحق الطبيعي بالحرية رؤية تقدمية في سبيل التحرر، فأصبحت نظرية رجعية في سبيل تثبيت الفروق الطبقية.
سوف أعود الى موضوع الهجرة، لكن لا بد من الإشارة الآن الى أن الحق بالمكان سبب آخر للعنصرية. أنت موجود في هذا المكان (البلد) لأنك يجب أن توجد فيه. هو قدرك. هو طبيعتك. صارت الهجرة مخالفة للقانون لأنها مخالفة لقدر الطبيعة الموهوم. أن تنتمي الى ثقافة معينة هي بمثابة أن تنتمي الى مكان معيّن. لا غرابة ان نشأت الدول وحدودها مع تطوّر الرأسمالية، كما لا غرابة ان انتقلت الرأسمالية من الحق الإلهي الى الحق الطبيعي. البشر يضعون القانون. والقانون مبني على الحقوق. والحقوق مختلفة بسبب التراتبية (الطبقية) التي أصابت البشرية منذ بدأ المجتمع يتكوّن.
التعددية معناها تعددية الثقافات في مجتمع واحد. ولكنها تصير تعددية في قابلية امتلاك الثروة (تراكم نتاج عمل الآخرين) وتصير رجعية. ليس هذا الكلام هجوماً على التعددية، بل دعوة الى الانتقال الى مجتمع أكثر عدالة. لا تتحقق العدالة ألا بالمساواة في امتلاك الثروة مع حق الاختلاف بالرؤى والآراء. ليست التعددية حلاً سحرياً. ما لم يتعلق الأمر بامتلاك الثروة والمساواة في ذلك، لن تكون هناك عدالة في امتلاك الآراء. صاحب الرأي من دون الثروة لا يؤخذ برأيه. السلطة لا تفهم إلا لغة أصحاب الثروات.
مفتاح القضية هو أن التنوّع في الرأي والثقافة مطلوب، وهو حق. لكن الفروق في الامتلاك تسحب البساط من تحت هذا الحق. هناك أكثرية البشرية من الذين لا يملكون، ولا يشاركون في تقرير مصير أنفسهم، ولا يشاركون في إدارة مجتمعاتهم. صوتهم غير مسموع، وهم مهمشون بمقدار غياب الثروة لديهم، وهذه معضلة النظام العالمي الرأسمالي. تناقض لا يمكن الفكاك منه. الوصول الى التغيير باتجاه المساواة يتطلّب أسساً جديدة لنظام عالمي مختلف. النظام الرأسمالي العالمي الحالي يؤجج التناقضات. هي تناقضات في أساس هذه النظام. تناقضات بين لا مساواة تعتبرها طبيعية (عنصرية)، وليبرالية تعتبر المساواة أمام القانون تكفي.