20
Jul
2018
1

النظام العالمي وتبعاته الإنسانية والعربية – ١

يقوم النظام العالمي الحالي على سلطة رأس المال المالي. لم يعد هو الرأسمال السلعي القائم على إنتاج السلع واقتطاع الربح من بيعها كما في القرن التاسع عشر ومعظم القرن العشرين. قيمة العمل الممثلة سياسياً بالنقابات وأحزاب اليسار هي التي كانت تمثّل قاعدة النظام. لم يكن الرأسمال المالي هو من يوجّه الأمور. كان الرأسمال الصناعي هي الذي يقود المجتمع. وهو الذي أسس للبورجوازية ودورها الوطني، وغير الوطني أحياناً؛ وهو الذي أسس للاستعمار، ثم الامبريالية بحثاً عن المواد الأولية وما رافق ذلك من نهب شعوب العالم الثالث بعد تقاسمها في سبعينات القرن الثامن عشر. عملية اقتطاع الربح من العمل الصناعي في المراكز تزامن مع عملية اقتطاع الربح من المواد الخام التي تنتجها بلدان العالم الثالث. نتجت الامبريالية عن تقاسم المركز الأوروبي (والأميركي) للعالم طمعاً في مواده الأولية والزراعية. كانت معظم صادرات المركز مواد صناعية ومعظم صادرات العالم الثالث مواد زراعية. وكان رأس المال المالي وسيطاً بين السلع. كان دوره الأساسي هو في التبادل، وإن بشروط غير متكافئة، بين المصنوعات والمواد الأولية. كان تقدم المركز متزامناً مع قدرته على التصنيع، وكان تخلّف الأطراف مرتبطاً بالعجز عن التصنيع وتصدير المواد الأولية من دون تصنيع. المواد الأولية هي في معظمها المواد الخام من المناجم والمحاصيل الزراعية.

في النظام العالمي الجديد تحوّل الرأسمال المالي من وسيلة تبادل الى صنم يعبده الجميع. تحولت الوسيلة الى هدف. صار المال النموذج الذي يكوّن الرؤى الفكرية والأخلاقية، وهو الهدف الذي يسعى إليه كل الناس. ويموت الناس ويحيون من أجله. تطوّر كبير في بنية الرأسمال العالمي جعله قائد الأوركسترا، وأخرجه من تواضعه الى الاستكبار؛ صار هو الإله الفعلي. وصار يقرر الأخلاق والإيديولوجيا ويعطي النظام العالمي الجديد ملامحه. في جميع العصور كان المال وسيلة، صار غاية. هذا هو التحوّل الأساسي. وهذا هو سر النيوليبرالية. كان العمال والمزارعون هم أكثرية المنتجين. فكانت لهم أجور ترتفع ونقابات تفاوض باسمهم، وتُضرب أحيانا، فتزيد الأجور تدريجياً، ويضطر الرأسمال الصناعي والمالي للخضوع. تراكم النضالات الى ما يُسمى دولة الرعاية حيث زادت التقديمات لأصحاب العمل اليدوي، وزادت الضمانات الاجتماعية والصحية لجميع العاملين الذين لا يملكون شيئاً. طبعاً الخوف من اليسار والاتحاد السوفياتي ساهم في ذلك. لكن الأساس كان النضالات العمالية والنقابية. كانت أكثرية العمال منضوية في نقابات تمثلها، وكانت أحزاب اليسار تحرّض وتناضل في وجه السلطة السياسية. كانت الرأسمالية في الخمسينات والستينات والسبعينات مذعورة. فكانت مستعدة للعديد من التنازلات.

كانت الرأسمالية، بمعنى ما، تحكم العالم عن طريق مؤسسات يمكن اختصارها بالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومجلس الأمن، ومنظمة التجارة الدولية، ومنظمات أخرى. امتد نفوذ هذه المؤسسات لترسم سياسات الدول الطرفية، وهي أكثر العالم. وتؤسس منظمات أخرى لحقوق الإنسان، ومحكمة الجزاء الدولية، ومؤسسات التعاون الدولي. الكلام يطول حول الازدهار الذي أصاب الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية. لكنه نظام تصيبه الأزمات بين الحين والآخر. اضطرت الولايات المتحدة في السبعينات الى فك ارتباط الدولار بالذهب، والى تثبيت الأسعار. أيام نيكسون، ارتفعت أجور العمال وازدادت المنافع التي انتزعوها من الدولة والرأسمالية. اضطرت الرأسمالية الى تغيير منحاها في السبعينات والثمانينات. انتقلت السلطة الى الرأسمال المالي. دخلت الولايات المتحدة في صراع تسلحي مع الاتحاد السوفياتي الذي لم يستطع المواجهة فسقط في عام 1989. مع سقوط الاتحاد السوفياتي، سقطت الليبرالية في الغرب، واعتلت العرش الرأسمالية المالية التي صدّرت الصناعات الى بلدان أسيا الشرقية. ورافق ذلك ازدياد وتصدير رؤوس الأموال أو ما يُسمى الاستثمار. اعتمدت الرأسمالية المالية على انخفاض الأجور وتصدير التكنولوجيا الصناعية العالية والمواد الزراعية التي صارت تنتجها في مزارع ضخمة بطريقة صناعية، طبعاً بعد سلخ الملكيات الصغيرة في بلدان المركز، وصار القمح والصويا والذرة من أهم صادرات الدول الكبرى، خاصة أميركا وأستراليا.

ما يُسمى تقليص حجم الدولة هو في الحقيقة تغيير دورها. لم تعد مهمتها التقديمات الاجتماعية ولا معاشات التقاعد. تحولت هذه الى عبء عليها. منذ أيام ريغان وتاتشر صارت الخصخصة دين العصر، وازيلت القيود على المصارف، واشتد الضغط على بلدان العالم الثالث للاستدانة. رأسمالية جديدة؛ من فوق الى تحت. اخترعوا ما يُسمى “التسرّب الى تحت” في الاقتصاد، بما معناه أن ازدياد وتمركّز الأموال بيد القلة من الناس، يؤدي الى تسرّب الفوائد للطبقات الدنيا، وتحسين أجورها. هذا ما لم يحدث. ازداد التمركز منذ الثمانينات، وازداد عبء الديون على بلدان العام الثالث حتى صارت الخصخصة أي بيع ممتلكات الدولة مطلباً.

مع تسيّد رأس المال المالي صارت التجارة الحرة مبدأ التجارة الدولية. صارت منظمة التجارة الدولية هي المرجع بين الدول. المعلوم أنه مع سيطرة كل امبراطورية، تاريخياً، تفرض التجارة الحرة على بقية النظام العالمي. ذلك، الى أن تبدأ الدولة المهيمنة بمعاناة نتائج سلبية؛ وهذا ما يحدث الآن.

تصدير الصناعات والكثير من الخدمات الى بلدان الأطراف سببه استفادة الرأسمال في بلدان المركز من انخفاض الأجور. لكن ذلك يؤدي بدوره الى ازدياد البطالة في بلدان المركز والى ثبات أو تدني الأجور نسبياً. منذ الثمانينات بقيت الأجور ثابتة، وأدت أزمة 2018 المالية الى خسارة كميات كبيرة من اقتطاعات التقاعد التي كانت مُستثمرة في صناديق الاستثمار. تلك الأزمة أدت الى ازمة أصابت الطبقة الوسطى، التي تتلاشى تدريجياً، والى تمركز الثورات بيد أقل من 1% من الناس. الطبقات الفقيرة، عموماً، وهي تشكل نصف عدد السكان لا تملك شيئاً. أدى الهجوم على الطبقة الوسطى الى ضمورها، والى صعود الشعبوية واليمين الأقصى الذي يرفع شعارات فاشية ضد أبناء الثقافات الأخرى والمهاجرين.

صفة هذا العصر الرأسمالي هي سيطرة رأس المال المالي على القطاعات الرأسمالية الأخرى. مع تطوّر التكنولوجيا وخاصة الالكترونية منها، وما يُسمى وسائل التواصل الاجتماعي، صار استهلاك الكلام سلعا تقاس بالوقت، وتتلاشى حال حدوثها. انها السلعة الأهم. تراجع دور اقتصاد السلع المادية الملموسة أمام دور السلع الأثيرية والثقافية. وتقدم رأس المال المالي ليمسك بكل مفاصل المجتمع حول العالم. لا تستطيع تصريف أعمالك اليومية، حتى أبسطها، من دون إجراء علاقة ما مع بنك بواسطة بطاقة ائتمان. حتى الشيكات تراجع دورها نسبياً. أنت تملك حسابات، أو تتلقى رواتب، يديرها جميعها المصرف. المقاول الذي يزمع القيام بمشروع ما تجاري أو على صعيد الانشاءات، يفعل ذلك بالاستلاف من البنك. لا تحصل على التسليف إلا بعد أن تجري معك مراجعة. عملياً، تخضع لمحاكم التفتيش. ربما علمت عنك المصارف أكثر مما تعرف الدولة، حتى لو كانت بوليسية. لديهم المال، لكن لديهم المعلومات أيضاً. يتعاونون مع شركات التواصل الاجتماعي التي لديها بنوك معلومات لمعرفة خصوصيات كل فرد في الأرض. طبيعي أن تتعامل بنوك المال مع بنوك المعلومات. من يملك أيا منهما، أو واحداً منهما، يسيطر على السلطة الفعلية. أكبر الشركات في العالم الآن هي شركات المال والمعلومات. شركة جنرال الكتريك التي تصنع الأدوات الكهربائية وصولاً الى أكبر المحركات حُذفت من بورصة داو جونز. تراجعت أهميتها بالنسبة للجيل الجديد من الشركات.

سيطرة المال من جهة والمعلومات من جهة أخرى هي السيطرة الفعلية. من يملك المال يستطيع أن يوجّه الأفكار. من يصنع الأفكار حتى الكاذبة، أو الافتراضية في أحسن الحالات، يصنع الثقافة. ثقافة عالمية. الثقافات المحلية صارت نوعاً من الفولكلور: للفرجة أو السياحة. سيطرة الرأسمال الصناعي والامبريالية تنتج نقابات ومقاومة ضدها. سيطرة المال والمعلومات تنتج خضوعاً. الخضوع طوعي. المقاومة جيوب متفرقة. حتى الناس الأفقر في العالم، الذين هم على حافة الفقر، أو دون خطه الفاصل، يبذلون كل ما لديهم من أجل هاتف ذكي. هو صلتهم بالعالم. عبر الفضائيات تتدفق الأمكنة إليك. تعرف عن العالم أكثر مما كانوا يعرفون فيما مضى. لكنك تعرف ما يراد لك أن تعرف. بضع غرف عمليات في العالم المركز تضخ المعلومات الى أذهان الناس في كل الأرض. يُعاد تشكيل المعلومات والثقافة؛ على الأقل، يُعاد توجيه الثقافات بالاتجاهات التي يُراد لها. الايديولوجيات الشائعة في عالم اليوم هي التي تتشكّل عبر وسائل الاتصال الاجتماعي. عندما تضع ملاحظة على تويتر أو انستاغرام، أنت لا تعبّر عن نفسك وحسب، بل تعبّر عن نفسك كما تشكلت تحت وابل المعلومات التي تضخ إليك كل ثانية. محو العالم القديم لم يحصل، لكن طبقة من عالم جديد تعلو عليه وتديره. طبقة لها عالم المال والمعلومات.

نوع جديد من المعرفة يتكوّن من معلومات متفرقة غير مترابطة. يظن صاحبها أنه يعرف. الذي يعرف حقيقة هو شاشة التلفزيون أو هاتف الذكاء الذي في الجيب. قديماً قيل أن المعرفة سلطة، صارت خضوعاً. الفرق بين المعرفتين، القديمة والجديدة، هو أن الأولى ذات ربط بين الأسباب والنتائج، والثانية لا تكترث لذلك. تظن أن امتلاكك للمعلومات التي تضخ إليك يدخلك الى عالم المعرفة؛ وهذا أمر مشكوك فيه. الحقيقة أن المعرفة القديمة تتطلّب أن تكون المعلومات في رأسك وتخضع لتحليلات عقلك؛ المعرفة الجديدة ذات معلومات هي في جيبك، في الآلة الصغيرة التي تحملها؛ لا تخضع هذه لأي تحليل. هل تعطّل دور العقل؟
(يتبع)