22
Jan
2019
0

تحالف النيوليبرالية والأصولية الدينية والفاشية

تعتقد الرأسمالية النيوليبرالية، وعلى رأسها النيوليبرالية الأميركية، أنها النظام الطبيعي الوحيد. هي طبيعة الانسان. هي النظام الذي وهبتنا إياه الطبيعة؛ صحيح أن هذا النظام نشأ في القرن السادس العشر مع الميركنتلية. لكن كل التطورات السابقة واللاحقة كانت تقود إليه، كما يقول أصحابه. ثم وضعت الرأسمالية والحداثة تحت جناحيها. وفرّخت منها ما بعد الحداثة. وهي تصادر العقلانية. عقلانية السوق المزعومة هي عقلانية الحداثة وهي عقلانية الرأسمالية، وهي عقلانية الدين خاصة البروتستانتي. تنافس النيوليبرالية الدين. ألا تحارب هي الفساد؟ تعتبر نفسها أجدر من الدين في تقديم السلوك البشري. السلوك البشري الذي أرسته البورجوازية في القرن التاسع عشر هو السلوك الأخلاقي الوحيد المعتبر في التاريخ. ما سبقه من أنظمة أخلاقية لا يستحق الاعتبار والقياس إلا بمعايير الأخلاق الرأسمالية وحداثتها وأخلاقها. فهناك حقوق الانسان ومنظماتها، والمجتمع المدني ومنظماته، والمحاكم الدولية (التي لا تشارك فيها الولايات المتحدة، وإن شاركت في إقرارها، بحجة أنه لا يجوز محاكمة أميركي خارج بلاده). تعتبر نفسها أجدر من الدين في مسائل الإيمان والعقيدة؛ أو على الأقل تنافسه. إذا كان الدين يعتبر نفسه فطرة، أي بمثابة طبيعة بشرية، فإن الرأسمالية أيضاً طبيعة بشرية، فطرة، أو غريزة. كل دين بحاجة الى ايمان. كل ايمان يعتبره الدين فطرة. وكل علاقة بالدين لا تستقيم من دون الرأسمالية.

 تعتقد الأصولية الدينية، الدين السياسي، أن الدين لا يستقيم أمره من دون أن يكون جماعياً. في الجماعة تهيمن الطقوس والعقائد. لا يعود للإيمان الفردي أهمية ما دام فردياً. المهم هو التأدية الجماعية للطقوس. يصير الدين بذلك سياسياً، شاء أم لم يشأ. يدعي عدم الاهتمام بالسياسة إلا جانبياً. المهم هو الشأن الديني. هو أيضاً بروحه الجماعية يهتم بالأخلاق. يعتبر أن الأخلاق ما كانت لتنشأ لولاه. الأخلاق قديمة قدم الانسان. صادرها الدين. دمج في عقائده التقاليد الوثنية القديمة. حتى المتعلقة بالطقوس. صادر الدين الأخلاق. الإشراف عليها صارت مهمته. اكتسب أربابه (علماء الدين) وظيفة اعتبرت أساسية في المجتمع. يستحيل على الدولة أن تقرر قوانين، هي في الأصل سياسية، من دون أن تتفق مع مبادىء الدين، أي من دون أن تنال موافقة رجال الدين. ليس مهماً أن بعض الأديان يقول أن لا رهبانية فيه. لكن لديهم جهازا كاملا من الرجال (بعض الفساد) الذين يلبسون زياً مختلفاً، ويتخصصون في الشؤون الدينية، ويعتبرون أنفسهم ورثة الأنبياء. هؤلاء لا ينتجون بل يعيشون على حساب المجتمع الذي يخصص لهم جزءاً من الفائض الاقتصادي المقتطع. الرأسمالية تقتطع كل الفائض لكنها على استعداد دائم لتخصيص بعض النزر اليسير لرجال الدين، وهناك الكثيرون من أهل الايمان الرأسماليين المستعدين دائماً للتبرع للمؤسسات الدينية، ويعتبرون ذلك نوعاً من الزكاة، كواجب ديني أو ما يشبه ذلك.

يشارك رجال الدين في الفائض الاجتماعي. يشاركون الرأسمالية في هذا الفائض الذي لم ينتجه هؤلاء. مشاركتهم تحتم عليهم المشاركة في المواقف الاجتماعية؛ عملياً، التبرير للرأسمالية. وكما يصادر هؤلاء المال، يصادرون السماء. تصير السماء في خدمة المال وأهله. عن طريق هياكل العبادة، تكتسب هياكل المال (البورصات والمصارف) قدسية مشابهة. كل منهما يصلي للآخر، كما يصلي لجماعته ويدعو الله لديمومة النعمة التي حلت عليهم جميعاً.

كل منهما يعادي السياسة. هي تنافسه في المجال العام. هي مجال النقاش والحوار كي يقرر الناس مصائرهم. ما دام الدين السياسي من ناحية والرأسمالية من ناحية اخرى يقرران عن الناس مصائرهم، فلماذا يتناقشون ويتحاورون ويدّعون ما ليس مناطاً بهم. ليس غريباً أن نضال البشرية من أجل الحريات كان نضالاً ضد الرأسمالية وضد الدين السياسي وضد الأنظمة التي تمثلهما. إذا كانت المبادىء الدينية أشد انغرازاً في بعض المجتمعات، فإن المبادىء الرأسمالية أشد انغرازاً في مجتمعات أخرى. تعددت الأسباب والنتيجة واحدة. يتنافسان على الأرض وعلى السماء. يمارسان تقسيم العمل بينهما. واحدهما يختص بما يجري على الأرض. ثانيهما يختص بما يجري في السماء. لكنهما ليسا على غفلة من أمرهما. يهمهما ما يجري على الأرض كما يهمهما أمر السماء. يقول الرأسمالي للعامل أعطنا ما على الأرض تنل أكثر منه في السماء. ويبارك رجال الدين ذلك. ويقول رجال الدين تصرّف كما يجب على الأرض ( أي أطع القوانين والأخلاق الرأسمالية)، تنل حصتك في السماء. لم يعطِ ما لقيصر لقيصر وما للأرض للأرض. كل ما في الأرض ذهب للرأسمالية ورجال الدين. يتقاسمان الفائض الاجتماعي، مع فارق بسيط بينهما هو أن الرأسمالية هي التي تقود وهي التي تحوز الحصة الكبرى.

أخطر ما يقومان به هو نزع السياسة، أي نزع قرار الناس من أيديهم؛ جعل الناس خارج القرار وخارج تقرير المصير؛ إخضاع الناس لروح الجماعة، أي النظام الممسك بروح الجماعة.

المجتمعات الحديثة في أزمة. هي أزمة اقتصادية اجتماعية. لا سبيل للرأسمالية والدين السياسي في مواجهة الأزمة إلا بالروح الجماعية أي الفاشية. التطرّف الديني هو الدين السياسي، التطرّف الرأسمالي هو النيوليبرالية. نسمع عن التطرّف الديني ولا نسمع عن التطرف الرأسمالي. تسعى الرأسمالية الى تأطير الناس وراءها لا في مواجهتها. تستطيع ذلك، أو تعتقد أنها تستطيع ذلك، عن طريق إثارة الحقوق، والخوف من الخارج ومن الغريب، ومن المهاجر، ومن المختلف، وممّن ينتمي لثقافة أخرى، ومن يمارس شعائر دينية مختلفة. الخوف من الخارج أقل كلفة على الرأسمالية من غضب الناس. بعد أزمة 2008 ازدادت الفجوة بين القلة الأغنياء والكثرة الفقراء. أكثر من نصف البشرية لا يملكون شيئاً. الطبقى الوسطى تتراجع أوضاعها. المطالبات تكثر. المواجهات تشتد. الرأسمالية لا تنوي إعطاء شيء. تزداد الاحتياجات لأن الناس يعرفون، وهم متأكدون، أن السلطات العليا والطبقات العليا تجهز على مكتسبات المرحلة السابقة وعلى صناديق التقاعد وعلى التقديمات الاجتماعية، بما في ذلك الضمانات الصحية والاجتماعية، فضلا عن إطالة يوم العمل. الثروات عند القلة تزداد حجماً. الأجور للطبقات العاملة مجمدة أو تتراجع منذ صعود النيوليبرالية. بين الخوف والغضب عند الجماهير، تختار النيوليبرالية الخوف. الإرهاب جاهز ليضرب ضربته كلما سار المتظاهرون ذوو السترات الصفر في فرنسا. في بلدان أخرى يزداد نجاح اليمين المتطرّف في الانتخابات. تزداد مؤشرات المسيرة نحو الفاشية. لم تعد الدولة إطاراً ناظماً للمجتمع. بل سلطة لتوجيه المجتمع ودفعه باتجاه الخوف والغضب. هما موجودان أصلاً بسبب تفاقم الأزمات الاجتماعية والسياسية. لكن السلطة تدفعهما لا باتجاه السياسة والتسويات وسماع أصوات البروليتاريا والطبقة الوسطى بل باتجاه الوحدة الوطنية التي صارت لا تعني أكثر من التضامن ضد الغير مما يعني تفاقم الفاشية. المهم أن تتوجه الروح الجماعية لدى كل شعب ضد الخارج والمختلف.

الروح الجماعية تخيم فوق الناس. هم لا يفهمونها ولا يستطيعون نيلها. السلطة النيوليبرالية تعرف ذلك وتحشد المثقفين لتغذية الخوف والغضب والكراهية. بعد انتخاب أوباما رئيساً، يقرر أحد ما لجماهير البيض وفقرائهم أن هذه التجربة يجب أن لا تتكرر. هناك أعداد على الحدود، مهاجرون يريدون سرقة الوظائف وفرص العمل من الأميركيين (البيض). يتكرر المشهد بما يشبه ذلك في بلدان العالم الأخرى، أحياناً لأسباب تتعلق بالشأن الاجتماعي-الاقتصادي، وأحياناً تتعلّق بالشأن الديني-الطائفي. في أسيا طوائف بأكملها تهجّر. وفي بلدان أخرى طوائف يعاد تأهيلها. في كل بلد من بلدان العالم “الجماعة” في خطر. الخطر آت من وراء الحدود. الأولوية للتوحّد الداخلي ضد الأخطار الخارجية والداخلية وتطهير المجتمع من كل ما يدنسه في الداخل. آيات شيطانية على لسان كل من يُعتبر تهديداً لوحدة المجتمع. عودة الى المقدس. والمقدس مجبول بالجهل كما قال أحدهم.

يعتقد الفاشيون بتفوّق جماعتهم في الأخلاق والثقافة. فهم أصحاب رسالة تمدنية للشعوب الأقل تميزاً، وهم ذوو حقوق على غيرهم. حقوق لا تجوز إلا لهم. حقوقهم طبيعية تعود الى طبيعتهم التي تختلف عن طبيعة الآخرين. أكرمهم الله بما هم عليه. هم يمكن أن يكونوا علمانيين ومن غير المؤمنين بأي دين. لكن لديهم رسالة هم مكلفون بها. لا يهم أن يكون التكليف علوياً سماوياً. أو هو شبه غريزة تدفعهم إليها الطبيعة والحيوية التي يتمتعون بها. الحيوية الفائقة جزء من طبيعتهم البيولوجية والثقافية. وهي تصير مع الزمن جزءاً من تطلعاتهم الاستراتيجية. الأراضي المحيطة والبلدان المجاورة تصير مدى حيوياً لجماعتهم. مسرحهم أكبر بكثير مما تحيط به حدود بلدهم. توسّع إيران مجالها الحيوي بالدعوة الدينية؛ توسع تركيا مجالها بالقوة الحيوية؛ يسيطر الرأسماليون في عصر النيوليبرالية بالحيوية المالية. حيوية ثقافية عند بعضها كما الحيوية المالية عند أربابها.

انتفاخ الذات واحد عند عتاة أصحاب المال في النيوليبرالية وعند الأصوليين الدينيين؛ وعند الفاشيين العنصرية. البنية الذهنية واحدة. التحالف بينهم ليس غريباً. يستطيع النيوليبراليون تطويع وحشد وتجييش الطبقات الدنيا لصالح دعوتهم؛ وقد صارت النيوليبرالية دعوة شبه دينية. تخفي النيوليبرالية حقيقة وحشيتها ومدى الاستغلال الذي تمارسه وراء الأصولية والفاشية. تبشّر بحقوق الإنسان وهي عنصرية في حقيقتها. الجدار الذي تبنيه أميركا على حدود المسكيك، والذي يُراد إرغام الكونغرس على تبنيه، والذي يخاطر “بإغلاق الحكومة” الجزئي في سبيله، هو رمز للجدران الثقافية الي تشيدها الأصولية الدينية والفاشية في مختلف أنحاء العالم. الجدار الأميركي بدأ مع النيوليبرالية. منذ بدايتها. وأول ما بُدِئ به أيام بوش الأب بعد ريغان. وهو رمز أيضاً للحرب الجمركية التجارية. هو وسيلة جديدة عند الرأسمال المالي، وعند النيوليبرالية الأميركية لغزو العالم من جديد.

في جميع الأصوليات أصل موهوم، لكنه يقرر حقائق الحياة. هو موهوم لأنه لا يطابق الواقع. لكنه يقرر حقائق الحياة لأنه يساهم مساهمة أساسية في قرارات البشر حيال الحياة. أصولية الرأسمالية هي النيوليبرالية وأولوية الرأسمال المالي على الصناعي أو التجاري أو الزراعي. أصولية الدين هي أولوية الحياة الآخروية على الحياة الدنيوية، حتى بما يتناقض مع الكتاب المقدس؛ الله خلق الإنسان على صورته لتأكيد حياة الإنسان لا لتأكيد الصورة؛الأصولية الفاشية أو العنصرية هي إعلاء شأن المقولة على الحياة البشرية؛ ليس للبشر أهمية بمقدار الصورة (الأرسطية) عن الحياة، أو بمقدار المثل (الأفلاطونية)، أو بمقدار المقولات المعتبرة مسلمات بديهية اقتصادية عن الحياة البشرية.

ليس الإنسان صورة عما عداه؛ ما عداه صورة عنه. الأصوليات هي ما يجعل الإنسان صورة عما عداه. الإنسان صورة عن الله. العمل البشري صورة عن الرأسمال. الفرد صورة عن الجماعة.

أصوليات تحكم العالم. النيوليبرالية هي أصولية الليبرالية؛ الأصولية الدينية تتحكم بالدين؛ الأصولية الثقافية هي أساس الفاشية والعنصرية. النيوليبرالية تقود هذه الأصوليات وتوجهها.