تراثنا ليس هويتنا
تراثنا ليس هويتنا. من نريد أن نكون، وكيف نريد أن نكون، إرادتان نقررهما نحن. كل امرئ يولد من تراث وماض وتاريخ. ويكوّن ذكريات ذات أثر كبير فيه، وتنشأ له صداقات. وهي جميعها لا تقرر الشخص الذي سوف يتولد عن كل ذلك. المستقبل يصنع الهوية. الهوية تجاوز لما مضى. التجاوز هو عدم التطابق مع ما مضى. تناقض مع المعطى. لا يمكن أن نبقى حبساء المعطى، مسجونين في أفكارنا، نردد عظماءنا، نفخر بهم، وهذا ضروري. نحاول أن نكون نسخة عنهم. نلغي وجودنا الراهن المتجاوز المتدرج في عالم جديد كي نعيش في عالم مضى لم يعد موجودا. التقليد تراكم على ما مضى. تجديد لما مضى وليس جموداً للماضي في الحاضر. التقليد هو ما يتجاوز الزمان والمكان. تتراكم الأحداث على التراث. يتجاوز نفسه. يصير تطوراً. التطوّر يصبح تاريخاً. يعيد نفسه أحياناً. يتطوّر بشكل مختلف في معظم الأحيان.
الهوية هي ما نصنع بمستقبلنا. كيف نريد أن نكون، وماذا نريد أن نكون. الهوية ليست معطى محدداً ثابتاً. الهوية كائن متحرك ذو وجود تاريخي. لا يكرر الزمن نفسه. لا تكرر الهوية نفسها. مع تطوّر التاريخ القريب والبعيد في الزمن، ومع تطوّر ما يجري على الجغرافية القريبة والبعيدة، نتفاعل مع ما يجري، ونقرر هويتنا. ليس غريباً أن تعبير هويتنا مشتق من هو. يعني أننا من إنتاج الغير بمعنى ما. الإنسان، كفرد أو مجتمع، لا يعيش وحده. ما يحيط به زمانياً ومكانياً ينتجه. في الحياة تجاوز وخروج الى العالم. نتجاوز عالمنا، فننخرط في العالم. إن لم نذهب إليه، يأتي إلينا. كل ذلك حركة دائمة. كل مجتمع في كل مرحلة يمتاز بملامح نلتقطها، فيؤلّف منها التاريخ. غيرنا يلتقط ملامح أخرى فيكون تاريخه غير تاريخنا حتى ولو كان الموضوع واحداً.
المشكلة مع الأصولية من أي نوع هي في إصرارها على أن الهوية معطى ثابت في زمن مضى، وعلينا أن نتبناه ونعيش حسبه مهما كان. كل الأصوليات سلفية ولو قالت بغير ذلك. ترمي الأصولية الى تثبيت الزمن في مرحلة معيّنة، وأن تلغي التاريخ، وأن تلغي حيوات وتجارب من عاشوا منذ زمن الأصل حتى الزمن الحالي. الأصولية استحالة بحد ذاتها. تناقض في ذاتها. هي يأس من الراهن. تعبير عن عجز ازاء الراهن. لا تريد العيش في الحاضر لأنها لا تستطيع ذلك. الأصولية والسلفية شيء واحد. كل منهما ينسف الأساس الذي بُني عليه. الأصل أو السلف الصالح يلغى من التاريخ إذا أردنا العيش مثله أو إذا أردنا هوية لنا تكون على نمط عيشه، ونمط تفكيره، وأصول تفكيره. التاريخ سلسلة متصلة. عندما تنقطع منها حلقة أو حلقات نسميها الأصل أو السلف، ونلغي بقية التاريخ. وبذلك نلغي الأصل أو السلف أو كليهما. يمكن إلغاء جزء من التاريخ أو طمسه. لكن لا يمكن إلغاء كل التاريخ أو معظمه. احدى مشاكل المسلمين القاتلة في الزمن الراهن هي أننا نريد أن نعيش حسب السلف الصالح أو حسب الأصل فنلغي التاريخ، ونلغي الحاضر. نرفض أن نعيش في الحاضر. هذا الرفض بالذات هو ما يمنع إرادة صنع المستقبل. المجتمعات الإسلامية راهنا لا تستطيع فعل شيء سوى الاقتتال فيما بينها. تختلف حول السلف الصالح الذي تريد العيش حسبه فلا تفكر في الزمن الراهن، وفي علومه وانجازاته. لا يستطيعون بأصولهم وأسلافهم الخروج الى هذا العصر. يقاتلون العصر. يعجزون على العيش فيه. يموتون من العيش فيه. لا تعيش في العصر إذا لم تأخذ بتلابيبه. تحكم على نفسك بالموت. تدرك ذلك. تفضل الموت على يديك. تنتحر. لا عجب أن نرى كثرة العمليات الإنتحارية لدى المسلمين. نقتل أنفسنا ونحقد على العصر الراهن. نقتل مع أنفسنا ما تيسّر من الغير. يصير الموت إرهاباً. تًشن حرب عالمية على الإرهاب (خوفاً على انتظام العالم). نصير ضحايا لغيرنا. هل نستحق ذلك؟ حكمنا على أنفسنا بالموت عندما قررنا ثبات تعلقنا بالسلف والأصل.
نخسر الماضي والحاضر والمستقبل. التاريخ يكتبه الحاضر، وربما يصنعه. لا نستطيع العيش في الماضي. نلغي عيشنا في الحاضر. نعجز عن صنع المستقبل. نعجز عن صنع هويتنا. نحكم على أنفسنا بالهامشية والموت والإنتحار. نقاتل، نميت غيرنا أحياناً. نكسب بعض المعارك لكننا خاسرون الحرب سلفاً. واقع الأمر أننا لا نعرف أية حرب نخوض: ضد من، ومع من، وأي هدف للقتال. ننتهي الى قتال بعضنا. ننتحر وندفع أشقاءنا للموت. انتحار جماعي.
سماها صاحبنا أمين معلوف “الهويات القاتلة”. هي محاولات يائسة كيلا نعيش في هذا العصر، وكيلا نصنع التاريخ، وكيلا ننتج المستقبل، وكيلا ننتج هويتنا أو هوياتنا. الأصوليون والسلفيون ليس لهم هوية. تراثهم ملغى، وكذلك تراث مجتمعهم. وإذا كان لهم بعض التراث فهو مما لا يفيد بشيء. يصرون على الطقوس تشبهاً بالأوائل. معظم هذه الطقوس لا يفيدنا في بناء علاقة من أي نوع كان مع من ندعي الانتماء إليهم راهناً. ولا نستطيع بناء ماكينة واحدة. نموت بسلاح الغير، وبسلاح صنعه الغير. أُتيح لهم المال. يشترون السلاح لقتل أنفسهم ولخوض حروب أهلية. ربما كان منهم من قرأ تروتسكي “الثورة الدائمة”. لا تكون الثورة بالعودة الى الوراء. لدى الشعوب المتقدمة سلف صالح وأصل ينتمون إليه، حقيقي أو غير حقيقي؛ حقيقي أو متخيّل. لكن هذا جزء صغير. جزء احتفالي من راهنهم. هم يصنعون الأشياء. يصنعون المستقبل. يصنعون هويتهم. هم يتجاوزون تاريخهم. الأصل والسلف الصالح هامشيان في تاريخهم. كم مرة نراهم يتخلون عما كان يعتبر مقدساً لديهم. هم يتطورون مع التاريخ. يتغيرون. لا يعيشون مع الأصل ولا مع السلف. ولا يخجلون من ذلك.
نحن لا نشبه أسلافنا في الثقافة والإبداع، ولا في الأمور العسكرية والإنتاجية. ليس لدينا القابلية لأن نكون مثلهم، ولا ظروفهم تسمح لنا أن نكون مثلهم. كل أدوات العيش مختلفة، وأساليب العيش مختلفة. كنا منارة للحضارات الأخرى، فأصبحنا ركناً لرمي النفايات. كنا نغزو العالم بثقافتنا، صار العالم يغزونا بثقافته. رحبنا بهم عندما أخذنا منهم، ورحبوا بنا عندما أخذوا منا. ما اعتبروا وما اعتبرنا كونية المعرفة عبءا علينا أو عبءا عليهم. وما اعتبرنا نقيصة عندما أخذنا منهم، وهم فيما بعد سعوا للأخذ منا. رفض الغزو الثقافي لبلادنا أشبه بالحكم على بلادنا بالعزلة. عنصرية مضادة. نستهلك المواد التي يصدرونها إلينا، لكن لا نبحث في كيفية إنتاجها. نلتمس رؤية القمر في رمضان بالعين المجردة، وهم ينزلون على الكواكب البعيدة، ونحن علمناهم حركة الكواكب قبل مئات السنوات. أن نرى تراثنا كهويتنا فهذا حكم بالانتحار على أنفسنا. أن نرى هويتنا ليست معطى بل مستقبلاً نصنعه فهذا بداية النهوض. لا يكبّلنا الدين. فسرناه تباعاً بطرق تتناسب مع تأخرنا. لست أدري لماذا نحن سعداء بهذا التخلّف. ما زلنا جزءاً من العالم ولسنا منه. عندما نصير منه تتغيّر أحوالنا. يجب أن يتغيّر الدين، وتتغيّر تفسيراته تباعاً حسب حاجات المجتمع. ليس للدين صياغة واحدة. له صياغات عدة. حالياً لا نأخذ إلا بأسوأ أنواعها. لا نسيطر عليه بما يناسب تطورنا. يسيطر علينا بما يساهم في تأبيد الخرافات والاستحالات. لا مجتمع من دون دين أو أديان. يتقدم المجتمع بدين أو من دون دين. ومهما كان منسوب التديّن، المهم أن يكون الدين أداة للمجتمع لا العكس. يتحوّل الدين الى عبء علينا عندما يصير مجرد طقوس خالية من الإيمان. لا نحتاج إلا الى ذلك الإيمان الذي يجعلنا صورة عن الله. هو أراد ذلك. وهو قال ذلك. تزول صفة العبء عن الدين كعبء علينا عندما نبدع ونجدد ونعيش في العصر. عندما نبدع العلوم ونجدد التكنولوجيا وننخرط في العالم. لا نخشى منه ولا نخشى الانخراط فيه.
ليس الغرب عدواً لنا إلا لأننا نرى أنفسنا مهزومين أمامه فنبتعد عنه. نحكم على أنفسنا بمزيد من الهزيمة، وهذه تتأتى من العزلة ومن عنصرية نفرضها على أنفسنا. بالأحرى، عنصرية كامنة فينا. عنصرية تمنعنا من التقدم ما لم نتخلص منها. نحن جزء من هذا العالم. تعزلنا الأصولية عنه. نمارس العزلة بما فيها الأذى لأنفسنا. لا نستطيع الاستمرار أو البقاء في عالم نرفضه وننكر الأسس العلمية والثقافية التي تأسس عليها. بقاؤنا مرهون بانخراطنا في هذا العالم، انخراطاً يستدعي الأخذ منه وتقليده واستنساخه. عند ذلك نصنع هويتنا بالتراكم على ما سبق، لا بالبقاء والسكن في ما سبق، في ما هو الماضي الذي مات ولن يعود. يتطلب الأمر استدارة الى الأمام، وتوجيه أبصارنا الى المستقبل. صقل الهمم لصنع المستقبل. مع صنع المستقبل فقط نصنع هويتنا. نقرر من وكيف نكون. نصنع المستقبل كمنتجين لا كمستهلكين. نحن نستهلك نتاج الغرب المادي والثقافي من دون إنتاج. وندّعي التمسّك بالهوية، بالمعطى الذي استسلمنا له. نكذب على أنفسنا ثم نقول بالمقاومة والممانعة، ونكرر أشكالها التي ما زلنا أسرى لها منذ مئة عام. نعيش وهماً كبيراً، مغروزاً في تفكيرنا وممارستنا، وندّعي أن الغير مسؤول عما نحن فيه. آن الأوان لأن نصير مسؤولين عن أنفسنا كي نصنع مصيرنا ونصير أحراراً، ونرمي الاستبداد الى سلة المهملات. الوعي الذي تفشى فينا ساهم في صنع الاستبداد، والاستبداد ساهم في تهميش مجتمعنا. وتهميش أنفسنا في هذا العالم أدى الى هزيمتنا.
انتصارات هزيلة هنا وهناك، ونحسب أننا كسبنا الحرب. نغرق في الهزيمة ونتوهم النصر. نسميه نصراً إلهياً لأننا صنعنا الهزيمة، فألقينا اللوم على الإله. سلمنا أمرنا إليه ولم نتوكل على أنفسنا.
علينا فهم التراث لا العيش فيه. علينا تقوية الذاكرة كي نخرج منها. نخرج منها ولا ننكرها. نعتبر بها ولا نتقيد بها. نتعامل معها بالنقد لا بالتجريح، بالنقد لا بالتقديس. مقدساتنا كثيرة وهي عبء علينا. هي تصادر عقلنا ووعينا. المقدس لا يفيد شيئاً سوى أنه عقبة في وجه التقدم. هو مقدمة للجهل. رفعنا الجهل الى مرتبة المقدس. الجهل بالعالم وبعلومه وانجازاته. الجهل بالتراث وبعلومه وانجازاته. رفعنا التراث الى مرتبة المقدس وأهملنا العلوم الحديثة والثقافة الحديثة. ساد الجهل. تسيّد التكرار، تكرار ما لم يلزم. كل العلوم الدينية لا تلزم في حل مشكلاتنا المعاصرة. علوم العالم الحديثة هي ما ينفع.
العلوم الحديثة تبدأ بالشك. علومنا الدينية أولى بالشك. الإيمان لا علاقة له بالعلوم الدينية. هي تفيد في الطقوس. ممارسة الطقوس تلغي الإيمان. هذا لا يكون إلا فردياً. الجماعي هو العلم الحديث الذي يبدأ بالشك والسؤال. بذلك يتحرك العقل. يبدأ العمل، يتطوّر الإنتاج، نصير مجتمعاً معتداً بنفسه، كاسباً الثقة بحاضره ومستقبله. الهوية التي نصنعها هكذا تبدأ من هنا.
مع الإعتذار سلفا من طريقة التعليق ، ولكنه كلام حق يراد به باطل في جانب ما..
وعلى سبيل المثال لا الحصر ، فها هي إيران كدولة تتقدم علميا وثقافيا وفنيا بما لا يخدش حياء الصالح من ما ذكرت..
طبعا الأنظمة الدينية بشكل عام بطيئة التقدم من ناحية التطور المجتمعي ، إذ أن هناك من محظورات *الطقوس و*السلف ما قد يعيق هذا التطور ، ولكن في نفس الوقت يلجم الإنحلال..
لذا فمفهوم التطور والإنسلاخ عن السلف ، هو مفهوم من شقين..، الأول تطور علمي والآخر أخلاقي ثقافي …
فإيران مثلا تبنت المفهوم العلمي واحتفظت لنفسها بمفهومها الثقافي ، فانفردت بذاتها كيان مستقل لا تابع ، وسعت لتطوير ما اكتسبت من علم ، وتعديل الموروث الثقافي ولكن ببطئ بما يتناسب وتطورها العلمي ، فها هي المرأة وعلى سبيل المثال وليس الحصر تشارك في النتاج الحضاري لإيران جنبا الى جنب مع الرجل ..، ولكن بثوابت أخلاقية لا تبيح المحظور من شذوذ أخلاقي ثقافي يفتك بالمجتمع الغربي ويتآكله في الصميم..
لذا فالمطلوب من السلف الصالح من هويته ، والمطلوب من الحاضر بناءه على الصالح من تلك الثوابت لاوالتنكر لها والغائها ، ورمي مفهومنا القاصر للصالح والطالح على مفهوم وخيار الهوية…
فممانعة التبعية حق وواجب ، ومقاومة الإحتلال بكافة أشكاله ، من أرض لأخلاق لسلوك منوعولمة المفاهيم الهابطة للخضوع والرائج التافه هي ايضا واجب..
لذا فالإختلاف حق في الهوية والرأي والتراث … ووحده الإختلاف فقط يصنع هوية…