فاشية الثروة جيناتها المال
تنسب الطبقة العليا الى نفسها صفات الخير والحق والجمال، وتنسب الطبقة ذاتها صفات الفقر والجهل والمرض الى الطبقات الدنيا. تميّز الطبقة العليا نفسها بالحضارة والثقافة والمجد والنبالة والشرف. تعتبر أن ذلك أمر طبيعي. إذ أن من طبيعة الأمور أن تكون هي في أعلى السلم الاجتماعي، وأن تكون الاختلافات بينها وبين الطبقات الدنيا أمراً طبيعياً. فهذه الطبقات خُلقت لتخضع وتُحكم وتتلقى مختلف أنواع الظلم والقهر والقمع من دون احتجاج ومن دون مقاومة ومن دون اعتراض. لا يحق لمن ليس في طبيعته النبالة أن يضع نصب عينيه الارتقاء الى ما لا يستحق. النبالة بنظرهم حق مشروع للسادة؛ إرادة هؤلاء تقرّر مسار الأمور. تقرّر الأحداث. تقرّر مصير الطبقات الدنيا.
عند الفلاسفة أيضاً تنطبق أحكام على العامة (الفقراء) غير ما ينطبق على الخاصة. اعتبروا بحث الأمور الفلسفية لدى العامة خطراً على المجتمع. الفقراء مجالهم الوحيد هو الدين، حيث الإيمان هو الخيار الوحيد. العقيدة الدينية تؤيّد التمايز الطبقي، وتبرره، وتعتبره مُعطى سماوياً. العامة لا تستحق البحث فيما لا يعنيها من أمور الفكر والثقافة. الثقافة العليا بما فيها الأدب والشعر والموسيقى يجب أن تقتصر على أهل البلاط ومن حولهم، أي على السادة ملاكي الأرض والرأسمال، وجباة الخراج والضرائب. كلام ابن رشد بشأن العامة واضح.
إذ هو أشار الى خطورة زج أنفسهم، اي العامة، في النقاش الفلسفي. الفلسفة ليست للعامة بل للخاصة. الدين للعامة، وعليهم أن يؤمنوا من دون أن يتساءلوا ومن دون أن يحتجوا. احتجاجات العامة على الدولة وعلى السلطة خطر في كل الأحوال.
في زمن النيوليبرالية، الذي نعيشه الآن، تتجه السلطات حول العالم الي تتجير الثقافة العليا. لم يعد التعليم العالي مجانياً. تتجه الجامعات الى رفع الأقساط ليبقى التعليم العالي مقتصراً على الطبقات العليا التي تستطيع تمويل تعليم أبنائها، مهما كانت الأقساط، بينما يصعب الأمر أو يصير مستحيلاً على العامة. السياسة التعليمية في كل بلد هي طوع قرار الطبقة العليا التي تتحكّم بها. يريدون أن يبقى الخير والحق والجمال حكراً عليهم، وأن يبقى الفقر والجهل والمرض طبيعةً للطبقات الدنيا. تتجير التعليم العالي وتحكّم رأس المال بالتعليم وسيلتان طبقيتان. يستخدمون الوسائل الاقتصادية لتأكيد ذلك. على الجامعات أن توازن نفقاتها وايراداتها بغض النظر عن مصلحة المجتمع. التحكّم بالثقافة العليا بوسائل تجارية أمر تفرضه، حسب ما يقولون، الضرورات الاقتصادية والتجارية. الدولة تتنصل من واجباتها الاجتماعية بوسائل مالية؛ “بعقلنة” السياسات التعليمية حسب مقتضيات المحاسبة العمومية، أي حسب حسابات الربح والخسارة الآنية. مصير التعليم على المدى الطويل ليس مهماً بالنسبة لهم. لم يعد التعليم العالي واجباً اجتماعياً، صار خياراً اقتصادياً، يخضع لاعتبارات مالية؛ اعتبارات يقررها المحاسبون الماليون، ولا تقررها مصلحة المجتمع الإنسانية.
ربما استطاع بعض أبناء الطبقات الفقيرة التعلّم. لكن ذلك يكون عن طريق الاستدانة. القروض المصرفية واجبة على الفقراء. يحصل سلبهم واقتطاع ما أمكن من الفائض الاقتصادي سلفاً. يعيشون حياتهم المستقبلية لإيفاء الدين. الديْن والدين والديان هم في انحياز طبقي معلن. ما علينا إلا القبول بالأمر الواقع.
جعلت النيوليبرالية من الثروة المالية مثلاً أعلى؛ نموذجاً يرنو إليه البشر؛ هدفاً للحياة لا بدّ منه. الفقر آفة ينتج عنها الجهل والمرض. كاد الفقر يكون كفراً. ما لا يتحدثون عنه هو أن الفقر هو الوجه الآخر للثروة. ربما كان الأصح القول أن الثروة تخلق الفقر. الثروة لدى البعض القليل العدد تخلق الفقر لدى الآخرين الذين يشكلون غالبية كل المجتمع. يجري تقييم كل شيء بالمال. المال مصدر كل قيمة. الفقر آفة يجب اجتثاثها. منظمات الأمم المتحدة والسلطات حول العالم تتحدث عن آفة الفقر.
كيف يمكن إلغاء الفقر من دون إلغاء الثروة؟ الجواب على السؤال لدى النبلاء هو شن الحرب على الفقراء. يُلغى الفقر بإلغاء الفقراء من الحياة. لا يستطيع الفقراء المعدومون الاقتناع بجعل الثروة مَثَلهم الأعلى، ولا المال مقياسا حياتهم، إذن هم خارجون عن القانون حين تكون لهم مطالب. وهم متهمون ومدانون حين تنفجر ثورة ما. يراد للفقراء العيش في قلق دائم بسبب فقرهم؛ وجودهم مهدد دائماً. أصحاب الثروات يعيشون أيضاً في قلق دائم لأن ما لديهم مهدد دائماً؛ العدو الفقير يتربص بهم. أكثرية الناس لا ترى في نظام الكون جدوى إنسانية. لا يتمتّع بالخير والحق والجمال إلا أقلية من البشر. الأكثرية ليس لديها الوقت لذلك، ولا الإمكانيات. صاحب المال له حق (الملكية الخاصة). يستطيع التبرّع (فهو فاعل خير) والجمال ملك يديه (كل ما هو جميل يُشترى بالمال).
يضطر الفقراء الى الاحتيال على الدنيا كي يكسبوا وسائل العيش. يحاكمون على ذلك. ويكون مصيرهم السجن. قلما نرى أصحاب الثروة يحاكمون أو يسجنون. هم أكثر احتيالاً، لكن الثروة تحميهم. القضاء موجود لحماية أصحاب الثروة والسلطة. السلطة، بكل بساطة، يملكها الأغنياء بمقدار ما يملكون الثروة.
عندما تستأثر أقلية من الجنس البشري بصفات تدعي أنها جوهرية، ولا يتصف بها غيرها. فإنها تدعي التميّز عن غيرها بميزات توازي ما تمنحه الجينات البيولوجية للكائن الحي. تعتقد أنها بأفعالها تمثل الجنس البشري الذي يتوجب عليه أن يخضع لها، وتعتبر أن سماتها ليست عرضية، بل تتعلّق بجوهرها. سماتها لا تتكرر في غيرها. ولا يحق لمن سواها التعدي على ما يخصها. عنصرية تتأسس على جوهرها الذي هو الخير والحق والجمال. فاشية المال والثروة لا تقل تطرفاً عن عنصرية اللون والبشرة والحيوية. عنصرية أشد وأدهى إذ هي تملك من وسائل القوة والتسلّط ما لا يملكه غيرها من البشر أو الدول.
هي طبقة فوق الطبقات وفوق معظم الدول. لا يهمها إلا الولايات المتحدة التي تطبع الدولار وتزودها بالأوراق المالية والقوة العسكرية التي تنفق ضعف ما تنفقه البلدان الأخرى مجتمعة. طبقة تتجاوز الحدود. حدودها هي حدود العالم. بضعة ألاف من مالكي المليارات يكتنزون بعض أموالهم في بلادهم، وبعضها حول العالم، ومعظمها في الملاذات الضريبية.
طبقة يخيفها شيء واحد هو حركات الشعوب. هذه الحركات التي تنفجر من دون توقّع، والتي يجب احتواؤها بالعنف ووسائل الحرب. نفهم الآن سبب تركّز الحرب العالمية في بلادنا. طبقة تدير الثورة المضادة في هذه المنطقة، وتوجه حكوماتها باتجاه مزيد من القمع والقتل والتعذيب. طبقة عالمية تخاف الهجرة إذ تهدد الاستقرار في بلدان المركز. لكن فهمها لا يمنعها من فرض سياسات تقشفية في بلدان العالم الثالث مما يسبب مزيداً من الفقر والبطالة والهجرة. تريد أن تبقى آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا بلداناً تقدم الأيدي العاملة الرخيصة لصناعات تصدّرها الى المركز أو لمواد أولية يتم استخراجها لتصدر الى حيث الصناعات.
“عنصرية الطبقة”، و”فاشية الثروة”، و”جينات مالية”، تعبيرات غريبة. لا بد من استخدامها لفهم ما يجري في هذا النظام العالمي: على الأقل بالنسبة لكاتب هذه السطور.