في ذكرى 25 أيار عام 2000 – تحرير ولا حرية
حروب تحرر وطني. تأسيس دول مستقلة. سلطات دكتاتورية. الذين قادوا معارك التحرير يحكمون حكما استبداديا. تحررت الجماعة لكن الحرية الفردية ممنوعة.
عادة يقود النضال حزب أو تنظيم سري. يضطر الى التعبئة الشاملة العسكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية. حالما يتم الاستقلال يستمر الحزب على حالة التعبئة دون الاعتبار أن الأحوال صارت هادئة أو طبيعية ولا تتطلّب استمرار حالة التعبئة والمراقبة. يبقى الحزب الحاكم متوتر الأعصاب. تم الاستقلال لكن الخوف من مؤامرات الخارج دائم ومستمر. يبقى المجتمع، أو يجبر على البقاء، منغلقاً. تسود سياسات الهوية للتأكيد على “من نكون نحن” لا للبحث عن كيف نكون أو “يجب أن نكون”. تحررت الدولة من الاحتلال، لكن المجتمع لم يتحرر من عقلية المحاصرة والمؤامرة الدائمة. الثورة دائمة. المؤامرة دائمة. الحاكم الذي اكتسب شرعية القتال ضد الاستعمار والاحتلال يستخدم شرعيته لضبط الناس. هو حارب من أجل دحر الاستعمار وأنجز. على الجمهور أن يتبع له وان يحفظ له الجميل. التآمر الخارجي غالباً ما يكون حقيقياً. والمؤامرات غالباً ما تكون وهمية. لكن الحاكم بحاجة الى المؤامرة الخارجية كي تستمر قيادته بعد حرب التحرر الوطني. يعيش حالة حرب دون حدوث حرب. يحتاج الحاكم الى نظام الرقابة كي يضبط المتعاملين مع الأجانب. ينتهي الى نظام رقابة على كل الناس. الترصد ضد العدو يتحوّل الى ترصد ضد المجتمع.
النضال ضد العدو يحتاج الى حزب أو جبهة وطنية أو قومية تؤطر الناس وتحشدهم. اذا شاء البقاء في السلطة، يحتاج الى الأمر نفسه لقيادة الداخل ضد العدو الحقيقي والمحتمل. مع مرور الزمن يتحوّل من حزب للقيادة الى حزب مواجهة مع الداخل. هذا ما تفرضه حالة التعبئة الشاملة التي كانت ضرورية ضد العدو، والتي تستمر بغيابه مع وجود المؤامرات والمواجهات الخارجية. هو بحاجة الى مواجهة دائمة (بالإمكان القول الى حرب دائمة، حقيقية أو وهمية). عليه أن يبقي الجمهور في حالة تأهب دائمة. يعتقد أن حكمه مرتبط بحالة التأهب هذه.
في السياسة يتماهى الحزب أو الجبهة مع الناس. ربما كان هناك منظمات مهيئة عديدة بين الحزب والناس. لكن على هؤلاء أن ينضووا في واحدة منها، وإلا اعتبروا معادين. يتدعّم هذا الاتجاه عندما يصير الأمر تكليفاً شرعياً. اختلاط الدين بالسياسة، بل استدعاء الدين لدعم سياسة الحزب الحاكم أو الزعيم أو القائد، يصير أمراً مناسباً للسلطة، وليس فقط استمرار حالة التعبئة وعبورها من النضال الفعلي ضد العدو الى حالة الاستقلال. يجب أن يكون الانتماء للنظام كلياً. يصنف الناس على أساس درجة انتمائهم. السلطة تتسرّب من فوق الى تحت. في الديمقراطية عكس ذلك. السلطة تتكوّن من تحت الى فوق، نظرياً على الأقل. زعماء الديمقراطية لديهم تدابير من أجل تلافي هذا الأمر. في الاتحاد السوفياتي تحولت الاشتراكية العلمية الى ما يشبه الدين لدى التنظيم الذي حافظ على عبادة الفرد رغم أن الظروف لم تعد تستدعي ذلك، ورغم أن العقيدة تتناقض كلياً مع ذلك.
يحتاج من في أعلى الهرم الى نوع من القدسية التي تمنع المساس بها سلباً أو ايجاباً. تحاك الأساطير والخرافات حول الزعيم المقدّس الذي يكرّس نفسه للقضية، والذي يعتبر وجوده في أعلى السلطة ضرورياً لاستمرار القضية، قضية المواجهة مع العدو. يبدو أن للأحزاب السرية في السلطة بنى متشابهة، أو على الأقل سلوكيات متشابهة. قضية 1984 تكرر نفسها في بيئات مختلفة.
وفي الثقافة تستدعي حالة التعبئة الشاملة حالة عداء ثقافية ضد الغرب. هو الشيطان الأكبر، إذن ثقافته شيطانية. لكن الحاجة الى تكنولوجيا الغرب تستدعي التعامل معها من أجل البقاء في السلطة. استيراد السلاح من الغرب أو ما يشبهه ثقافياً أمر ضروري. تنقسم المعرفة الى معرفة محلية ضرورية (التراث) والى معرفة غربية لا يؤخذ منها إلا التكنولوجيا. أما الثقافة المحلية والتراث فيكفيهما التركيز على الرموز؛ وتقام لهم التماثيل فعلية أو ذهنية. الرموز والطقوس ضرورية في نظام من هذا النوع، إضافة الى الاحتفالات في كل مناسبة كي يتكلّم الزعيم ويمارس قدسيته.
ينتهي الأمر الى مجتمع مغلّق، يدور حول نفسه. مجتمع يخاف من نفسه ومن كل تطوّر. الأحداث تقررها الزعامة أو هي من صنع عدو شيطاني. التعددية مشبوهة إلا إذا كانت تخدم “القضية” في مجتمع ذي تعددية طائفية ينجرف فيها الناس تلقائياً ولا شعوريا (دون معرفة ما يجري فعلاً) وراء الأحداث ومن افتعلها. تصير التحالفات أمراً ضرورياً. يأتي التحالف من فوق، بين الزعماء، دون اختلاط بين جماعة هذا وجماعة ذاك. يجب أن تبقى الجماعة مغلقة.
يعترف الحزب أو التنظيم بالتعددية لكنها تعددية “مكونات” (دخل التعبير من العراق) أي تعددية طوائف تشكل كل منها جماعة (مجتمعاً مغلقاً) ينطق كل فرد من أية جماعة باسم الجماعة لا باسم شخصه. الخطاب ليس نابعاً من الضمير الفردي بل من ضمير الجماعة. الجماعة لا ضمير لها بل مصالح، أو ما يتوهمونه مصالح. فهي تحالفات نفعية تتحوّل فيها القضية الى موضوع من مواضيع الصراع السياسي مع الأخصام. لا يخاطب الأفراد بعضهم إذا كانوا من طوائف مختلفة. تخاطب الطوائف بعضها. لا أحد يتكلم من القلب. الكل يتكلم بما تقتضيه الظروف. المجتمع المغلق يصير مرتعاً للانتهازية. وفاؤنا للقضية يصير وفاءنا لمصلحة الجماعة.
الأخلاق لا يمكن أن يكون موضوعها إلا الضمير. الجماعة لا ضمير لها. الجماعة لا أخلاق لها. تمارس السياسة. يمارسها قادتها، لا على قاعدة أخلاقية، بل على قاعدة المصلحة والانتهازية. الانتهازية هي أنك يلزمك حليف من غير دين. يُصار الى جبهة وطنية، كما عودنا نظاما الأسد الأب وصدام حسين. المصلحة هي النضال. يجب أن يتوجّه الى العدو الأقرب. المذهب المغاير ولو كان مشتركاً في الدين. التحالف مع المتطرفين مع أتباع المذهب من غير دين. الافتراض أن المخالفين في المذهب المشاركين في الدين هم بيئة حاضنة للتطرف “الديني” والإرهاب. في منطقة شديدة التعقيد كالمشرق العربي يصير التحالف ضد الإرهاب والتكفيريين تحالفاً أقلوياً ضد الأكثرية. الأكثرية مدانة باسم التكفير والإرهاب. يدان شعب بكامله بسبب بعضه الذي يخوض معركة، أو يفتعل معركة، بوسائل تكفيرية وإرهابية. أنت في خطر تشكله الأكثرية. يستعاد التاريخ. وأحياناً يُختلق بأبشع صوره لتبرير التحالفات. وكل طائفة لها تاريخ بشع. تفترض المصلحة الراهنة أن يكون التاريخ البشع عند غيرك من الطوائف. تطهّر نفسك بإدانة غيرك.
في هذا الجو لا مكان للحرية إذ لا مكان للرأي الفردي. لا يتحرر الناس إلا عندما يتحررون من خوفهم. تتوسّع التحالفات في المنطقة لتصير موجهة ضد أكثرية لا تخيف في العادة أحداً. العدو انتقل من الخارج (الأميركي-الاسرائيلي) الى الداخل. كما تحولت القاعدة ثم داعش من العدو الأبعد الى العدو الأقرب. صار أيضاً النضال عند أهل التحرير مفتعلاً من العدو الأبعد الى العدو الأقرب. في عملية ذهنية لا علاقة لها بالواقع، يُعاد تشكيل الأقليات والأكثرية، ويغيب عن البال أن الأكثرية هي ذاتها مجموعة أقليات. ما حدث في سوريا شاهد على ذلك مهما كانت التبريرات.
يبدو أن التحرير للجماعة والحرية للأفراد. الحرية لا يمكن أن تكون إلا فردية وهي قد أخضعت لمواقف الجماعة. التحرير يتعلّق بموقف الجماعة من فلسطين، العداء لإسرائيل، وتحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي. وقد تحرر الجنوب عسكريا، الأمر الذي لم يحدث مثيله في أي قطر عربي. هذا الانجاز هزّ ضمائر العرب المسلمين والمسيحيين من المحيط الى المحيط. كما هز ضمائر الشعوب الإسلامية. المعروف أن لإيران يد طولى في دعم الحزب الذي قام بهذه المهمة. تجاهل الحزب الحريات لدرجة كبيرة. أراد التنظيم في البداية أن يكون دينياً ثم تحوّل الى حزب سياسي، لكنه لم يستطع أن يكون ديمقراطيا في المناطق التي يمكن تسميتها بيئة حاضنة له. مجال الحريات لم يكن واسعاً منذ التحرير سواء فيما يتعلّق باللباس والسلوك أو إبداء الرأي.
الرأي الحر هو دائماً مشاكس، متسائل، شكاك، لا يحترم القيادات كما يجب. يريد أن يشارك في كل شيء وفي صياغة القرارات. لكل حزب، خاصة الأحزاب السرية، نظام مغلق. كان مطلوباً الانضباط وقمع الرأي الشخصي لصالح موقف الجماعة. برز ذلك بشكل واضح في ثورة 17 تشرين الأوّل 2019، والموقف من البوسطة، بوسطة الثوار التي مُنعت من الدخول الى الجنوب. ثم الخلط بين الدين والسياسة بإعطاء أوامر سياسية وكأنها تكليف شرعي. كان لذلك أثر على الجو الفكري في الجنوب. إذ تراجع الزخم الأدبي والشعري. لا يزدهر الفكر إلا في مجتمع مفتوح وهذا ما لم يكن متاحاً. تتشابه الأحزاب السرية مهما اختلفت ايديولوجيتها وبناها السياسية. هناك انضباط ستاليني في كل حزب سري والنتائج معروفة. من كان شيوعياً أيام ستالين وفي أعقاب مرحلته، ومن شهد أنظمة ما بعد التحرر الوطني، يعرف الوضع عموماً، ويستطيع معرفة ما يجري بالقياس على ذلك. ليس من مصلحة أي حزب تشديد وسائل وفرضها على الناس. ما يؤمن استقرار الحزب واستمراريته هو الديمقراطية الحقيقية. التعددية الحقيقية هي تعددية الأفراد والتعددية داخل كل فرد. كل فرد متعدد الهويات لناحية انتمائه الديني والوطني والقومي والمناطقي. يستحيل رسم الأفراد على صورة واحدة وإلا كانت النتائج وخيمة