مجتمع وحداثة
وجود وايديولوجيا
تحرص أنظمتنا العربية، وهي جميعها أنظمة استبداد وطغيان، على السماح بالنقد الاجتماعي، ولا تسمح بنقد الحكام الطغاة أنفسهم، ولا التطرّق لأنظمتهم السياسية. المجتمع مباح مستباح والطاغية مقدس الى الأبد. تصير آفات المجتمع الراهنة والتاريخية حصيلة المجتمع وتطوره. الطاغية وُجِد للخلاص من آفاته. يلام المجتمع ملامة الطاغية وزبانيته مهما ضربوا، وسرقوا، ونهبوا، وأمعنوا في إعاقة المجتمع. المجتمع مسؤول عن نفسه. الطاغية ليس مسؤولاً عن شيء، ولا حتى عن إدارة المجتمع. الطاغية يقاتل الطواحين البيض. هناك من يقوم عنه بالعمل. الجيوش الأجنبية حاضرة لتطويع وتدجين المجتمع؛ وإبادته إن لزم الحال.
الملامة دائما على المجتمع. قديماً كان يُقال أن هذا المجتمع مصاب بالفقر، والجهل، والمرض. إذاً يجب إنقاذه. أما بعد 2011، فهو مصاب بالبله وقلة العقل. والأخطر انه متهم بالتآمر ويجب استئصاله. الطاغية مستهدف دائماً من الأجانب “الأشرار”، فيطلب من الأجانب الأخيار حمايته وتأمين استمراره في السلطة. الأجانب الأشرار هم دائماً يتآمرون عليه، وهم سبب احتجاجات الشعب. لم تنشأ ثورة في بلد عربي إلا واتهم الشعب بأنه كان يتحرك بأوامر خارجية، أو بتخطيطات الأشرار. الطاغية دائماً على حق والمجتمع دائماً على خطأ.
المجتمع تقليدي لا يفصل الدين عن الدولة (عادة لا يميز هؤلاء بين الدولة والسياسة، ولا يعرفون معنى السياسة أو معنى الدولة). الطاغية يخطب بعدة لغات، ويحدث وفوداً أجنبية بلغاتهم. ويلبس البنطال والكرافات، إذن فهو رمز الحداثة. يصير خيارنا بين الحداثة والتقليد، أي بين الطاغية والأصوليين والجهاديين. يقول الغرب إن المجتمع المحلي بيئة حاضنة. فيقولون هنا إنه مصدر للإرهاب. لا يعيرون انتباهاً لحقيقة أن الإرهاب منذ نشوئه هو فعل الأنظمة والحكام، بمن فيهم الطغاة. المجتمع أيضاً تكفيري. طالب بحقوقه، واشتاق الى الحرية، وأدان النظام الذي يمنعه منهما، إذن هو يكفّر النظام وأتباعه. المجتمع التقليدي مصدر كل الآفات والأثام والجرائم. في إطار الحرب الأهلية، يُسجن الناس لأسباب سياسية تتعلق بمطالبهم. يذوي منسوب الجريمة، فالجرائم كلها سياسية. على السجون أن تحوي الشاذين سياسياً، وعلى النظام أن يملأها بهم، لأنه يحافظ على المجتمع في وجه السياسة. السياسة جريمة خاصة عندما يتعرض الوطن للخطر. الأجانب الأشرار يتآمرون والسياسة تخدمهم. أشد العقوبات تُنزل بأعضاء المجتمع الذين آزرهم، أو إدعى ذلك الأجانب الأشرار. ظن الناس أنهم انتهوا من حرب التحرر الوطني الى بناء دولة حديثة، فإذا سلطة الطغيان تعيدهم إليها بحجة مواجهة المؤامرة.
عندما جاء الطغاة في أواسط القرن الماضي، كان برنامجهم تحديث المجتمع، أي إعادة هيكلته ليتناسب مع أهدافهم المعلنة. لكن أهدافهم المعلنة اختفت، وكان أهمها وأول الأولويات فيها الوحدة العربية. وأعادوا هيكلة المجتمع طائفياً بما لم يكن موجوداً من قبل. نظرية المؤامرة تنطبق عليهم. المجتمع لا يتآمر، وهو يطالب بالحق والحرية والعدالة وحسب، وهذا أمر طبيعي. الأنظمة تتآمر. لم يكن صدفة أن أجهزة الأنظمة كانت دائماً ضد “نظرية المؤامرة”، لأنها كانت تعتبر أن كل ما يفعله الشعب مؤامرة، ولأنها كانت تريد إبعاد شبهة التآمر والتواطؤ عن نفسها. تمسكت بالحداثة كذباً واعتبرت أن ذلك يحميها في وجه مطالب حقوق الإنسان التي تُواجه بالإدانة بسببها كل يوم. دائماً، بنظر الأجهزة، يُوضع الشعب في معسكر الأشرار، لأن من في السلطة موقعه الطبيعي في معسكر الأخيار.
تشتد الحملة على المثقفين والباحثين. هؤلاء مهمتهم النقد السياسي والاجتماعي. مهمتهم الغوص في أعماق المجتمع. تمنعهم السلطة من النقد السياسي كي لا يتعرض بنيانها الفكري لما يزعزعه. جهود النقد الاجتماعي تنصب على التاريخ. يجب أن يكتب التاريخ من منظار الحاضر. تُصنف المأثورات التاريخية الى ما هو تقدمي وما هو رجعي أو تقليدي. تبرز كتابات جديدة تدّعي أنها تدافع عما هو تقدمي. انتقائية غير مسبوقة. يُراد تطهير التاريخ مما يُعتبر رجعياً؛ يُراد أن يُكتب بما يناسب السلطة. بالطبع، السلطة لا يناسبها إلا ما هو تقدمي. يدّعي الجميع أن ذلك لا علاقة له بالراهن، وأن الكتابة موضوعية ما دامت تقدمية وضد التقليد. حقيقة الأمر أن الماضي كما حدث لا يهمهم. يجب تنقية التاريخ من العث والاحتفاظ بالثمين. التاريخ ليس إلا مساراً قدرياً يتوّج بمن جاء الى السلطة (القدرية مذهب تبناه الأمويون بعد تولي السلطة).
الأفضل إذا كنت كافراً أن تكون بجانب الناس ودينهم من أن تكون مؤمناً وبجانب السلطة وحداثتها. احترام الناس واجب. احترام معتقداتهم ضروري. التغيير يحدث بالديمقراطية في مجتمع مفتوح. الطغيان في مجتمع طائفي مغلق لا يؤدي الى التغيير بل الى المزيد من التشنّج والقوقعة والبغض المتبادل. لن يتطوّر الدين في ظل الاستبداد. سيزداد الناس تشبثاً بما لديهم. الطاغية الذي يقمع لا يريد التغيير. هو لا يحترم إيمان الناس. وهو لا يحترم الناس. لأنه يحتقرهم ويحتقر ما يعتقدون وما يؤمنون به.
الحداثة ليست ضمانة. ما إن يرفع لواءها مثقفو السلطة حتى تصبح نبراساً. حداثة السلطة وأتباعها مبطنة بالطائفية. تستهلك الحداثة من دون أن تجعلها جزءاً من ضميرها وباطن عقلها.
على المثقف العضوي فهم المجتمع لا رفضه. السلطة ترفض المجتمع. المثقف الحقيقي يحاول الفهم ويعتبره تراكماً ضرورياً. ليس ضرورياً إزالة الشعب من أجل إزالة معتقداته الرجعية أو التقليدية.
الحروب الأهلية التي نشهدها يفسرها البعض بالإبادة. يتمنى المرء أن لا تكون كذلك. لكن الواقع مخيف. التهجير القسري يدمي القلوب. هو مدان مهما كان السبب. لا يمكن قبوله باسم أي فكر. نحن لسنا أمام خيار بين حداثة وتقليد. نحن أمام تهجير قسري مفروض. يُراد لنا أن نختار باسم محاربة الظلامية. معابر التاريخ متعددة. إمكانيات التطوّر متعددة. أما كان يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟ هل مكتوب علينا أن تنتصر الحداثة من دون شعب على قيد الوجود؟ من اليمن الى سوريا الى شواطئ إفريقيا الشمالية حروب واحدة. متشابهة الأهداف ومختلفة التفاصيل. وقودها هم العرب. أسيادها مختلفون فيما بينهم في كل أنحاء العالم إلا عندنا. يجمعهم العداء للعرب. هي حروب أهلية في إطار حرب عالمية واحدة؛ لها موضوع واحد هو ما تبقى من هذا المشروع العربي، مشروع أن نكون أمة.
قصّرنا بما فيه الكفاية. قصّرنا في الفهم، وفي الممارسة، وفي العلاقات، لكننا لا نستحق ما يحدث. ليس الطغيان وحده هو المصيبة، بل هو أيضاً الحلفاء الخارجيون للطغيان.
لا خروج من هذا الوضع إلا بالتفاوض. الصراع بين الأطراف المحلية العربية هو صراع على السلطة. لا دخل للدين والحداثة في ذلك. لا حل إلا بالتفاوض. لا حل إلا بالسياسة والتسويات والتنازلات. على جميع الأطراف أن يقرروا أن وجود الناس أهم وأجدى من تهجيرهم، أو قتلهم، أو تدمير بيوتهم. على الأطراف أن يقرروا أنه يمكن البناء على وجود الناس بعد تأكيده، ومن ثم الانتقال الى نقاشات الدين والحداثة والرجعية والتقدم. تحولت الحرب على العرب الى حرب بين العرب؛ فهل نعلم معنى ذلك؟ الإبادة لا تغيّر أياً من الأطراف المتحاربة. هم يتقاتلون وهذا الشعب المتديّن أو غير المتديّن لا يفكر إلا باالبقاء على قيد الوجود. هل نحترم مشيئته بذلك؟
وجود بأي ثمن؟ نعم. يتطلّب ذلك التخلي، ولو موقتاً، عن الايديولوجيات والرغبات والمواقف المسبقة. الوجود البشري أهم من كل الأفكار والايديولوجيات. ما نخشاه أن يختفي الناس وتبقى الايديولوجيات.
ظهرت داعش الى الوجود مرة أخرى. هل كان ذلك إلا بسبب هذه الحروب؟ المسؤولية في ذلك تقع على عاتق الجميع، جميع الأطراف المتحاربة باسم هذا الفريق أو ذاك، داخل السلطة وخارجها.