إرهاب تمارسه السلطة على المجتمع
تمارس الطبقة السياسية في لبنان على مجتمعها العنف الذي يتدرّج من القسر والإكراه ليصل الى الانفجار الكبير في 4 أب 2020. ليس احتكار الدولة للسلاح من أجل تطبيق القانون، وهي لا تحتكره. وليس محاولة احتكار العنف لمنع العنف في المجتمع، وهي لا تحتكره. بل هي ممارسة العنف والإكراه والقسر، وعلى الطبقة السياسية استخدامهم للتسلط. ولتطويع وتدجين المجتمع اللبناني. وهذا ربما وصل الى مستوى “الجريمة ضد الإنسانية”، كما حصل في 4 آب 2020، والذي تبرّئ السلطة نفسها منه عن طريق استخدام مقولة الإهمال. إهمال بيروقراطية المرفأ للقيام بما هم مسؤولون عنه.
عرف جميع أهل السلطة هول الانفجار الذي سوف يحدث. على مدى سبع سنوات لم يفعلوا شيئاً لإزالة المتفجرات سوى تبادل الرسائل والتقارير بين مختلف الأجهزة الأمنية والقضائية والسياسية. لم يكن مهما بالنسبة لهم حماية المنشآات والناس، بل إرضاء أولياء أمرهم. الإحتفاظ بالمتفجرات، رغم الوعي الكامل بقوة خطرها، كان إهمالا كما يبدو، لكنه كان عنفاً أقصى. أن تدع مجتمعاً يبقى في مجال انفجار قوي معروف أنه سيكون بمثابة انفجار نووي، ومعروف أنه سينفجر، معناه أنك مسؤول ولو لم تقصد أن تحدث الكارثة. أن يصاب الألاف ويموت المئات، هو ليس من نوع الإهمال الذي يحدث عندما ترى السلطة ما لا تعرف نتائجه ولا تسعى لمعرفتها. لقد كانت السلطة السياسية والإدارية تعرف نتائج تخزين المواد المتفجرة في ظروف غير مناسبة. وكانت تعرف نتائجها، وكانت تريد نتائجها لأنها لم تتخذ أي إجراء لمنع هذه النتائج. مهما كانت النتائج، كان للسلطة إرادة لما حدث، وكان ذلك عن سابق تصور وتصميم. ولم تكن النتائج الكارثية غير معروفة في أية لحظة من اللحظات. كل دوائر السلطة كانت تعرف. الدولة مدانة من أعلى الهرم حتى أدناه. ولا مجال للتنصل من المسؤولية. إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فإن السلطة بكامل أجهزتها كانت تعرف، بل كانت تريد النتائج الكارثية. ولا إمكانية للقول بغير ذلك.
هو إرهاب الدولة ضد المجتمع. ومعظم الإرهاب في العالم هو ما تفتعله الدولة ضد مجتمعها. معظم دول العالم تعتقد أن شعبها على خطأ؛ إذن يجب معاقبته. في هذه الحالة بلغت العقوبة أقصى وأقسى ما يمكن أن تصله.
هي عقوبة أنزلتها طبقة عليا لديها الكثير من المال ضد طبقات وسطى لم يبق لها إلا ما تملكه من عقارات. تدمير المنازل سبب كاف لإفقار مالكي العقارات من الطبقات الدنيا. وسبب دافع لكي يبيع هؤلاء أملاكهم برخص الأسعار. الطبقات الدنيا تحتاج الى ما يسد رمق العيش، وهذا له أولوية على ملكية العقارات. التدمير فرصة مناسبة لشراء العقارات بأسعار بخسة. التدمير يضع الطبقات المتوسطة والدنيا في مواقع اليأس. يدفعون شعبهم لليأس لكي يتملكوا عقاراتهم. وهذا ما يسمى التراكم البدائي. وضع اليد على أملاك الطبقات الدنيا بأبخس الأسعار، بعد دفع هذه الطبقات الى وضع ميؤوس منه حياتياً ومعاشياً.
سبق ذلك مصادرة أموال الناس (الإيداعات) في المصارف للتأكد أن الطبقات المتوسطة والدنيا لم يعد لديها اختيار سوى بيع ممتلكاتها. هذه ليست المرة الأولى التي تحصل في التاريخ. ولن تكون المرة الأخيرة. لقد وضعت الطبقة العليا، عن طريق المصارف، يدها على أموال الناس. الخطوة التالية هي وضع اليد على عقارات الناس. تراكم بدائي حسب التعابير الماركسية. والأمر عن طريق العنف. العنف المسؤولة عنه السلطة، عن سابق تصور وتصميم، أو عن غير قصد إذا افتعل التحقيق أسباباً تخفيفية. إدانة السلطة وطبقتها العليا أمر لا مفر منه (السلطة بجميع أطرافها الموالية والمعارضة).
إرهاب الدولة لا يقتصر على ذلك فقط. الكل يعرف ما أصاب المحتجين منذ ثورة 17 تشرين الأول 2019. وقد قيل الكثير في ذلك. ولا داعي للاستفاضة في ذلك إلا ذكر أن إرهاب السلطة قد أصاب وسوف يصيب الثوار المطالبين بحقوقهم. وسوف يصيب المحتجين ضد تجريدهم مما تبقى لهم من ممتلكات. يُراد شعب لا يملك؛ وهو ينوء تحت أعباء تفرضها سلطة تمثل من يملك، وهؤلاء الآخرون لا يشملون سوى نسبة ضئيلة من الناس (أقل من 1%). تراكم بدائي يسلخ ملكية من هم على شفير الهاوية المعيشية.
الأصوات التي ارتفعت ضد تغيير البنية الديموغرافية في الأشرفية والمناطق الفقيرة المحيطة بها، هذه الأصوات يبدو أن لها ما يبررها؛ خاصة أنه لم ترتفع أصوات من هم وراء سماسرة العقارات لنفي ذلك. المقدمة لذلك كانت سلخ ملكيات من جبل لبنان. فكأن ذلك كان تحضيراً لما سوف يحصل. النزاع على الملكية في الجبل أو في أي مكان آخر في العالم ينتهي دائماً لصالح الطرف الأقوى سياسياً وعسكرياً. تراكم بدائي لدى أصحاب الأموال عن طريق سلخ أموال الناس بالقوة. هذه سيرة الرأسمالية في كل مكان في العالم. كان في لبنان طبقة وسطى مزعجة لأصحاب السلطة، للطبقة السياسية؛ وهذه الطبقة الوسطى يراد الخلاص منها.
فرضت السلطة انقطاع الكهرباء، وهي عصب الاقتصاد الحديث. ليس عن طريق الإهمال. بل فعلت ذلك عن سابق تصوّر وتصميم. لم تستخدم قوة السلاح بل عنف الطائفية. عنف مارسه فريق في الطبقة السياسية وتماشى معه حلفاؤه وحلفاء حلفائه. ذلك اعتداء صارخ على الناس يصيب صميم معيشتهم وأسلوب حياتهم. حل أزمة الكهرباء، كان ولا يزال، سهلاً قريب المنال، لكن طرفاً في السلطة السياسية فرض إرادته على بقية المجتمع. وما الحرب إلا وسيلة لفرض إرادة جهة على أخرى. وما من شريك في السلطة بريء من ذلك. حدث الأمر خلال تعاقب حكومات وحدة وطنية في السلطة. لم يكن عنف الإرادة بحاجة الى سلاح في البداية؛ استخدمت السلطة السلاح للقمع في 17 تشرين الأول 2019. السلطة التي تستخدم السلاح ضد شعبها تكون في العادة سلطة ضعيفة عاجزة. استخدام السلاح ضد الناس في مظاهرة أو احتجاج يجعلها فاقدة الشرعية. السلطة القوية تحكم بالسياسة لا بالعنف. استخدام كلمة “قوي” في تسمية تيار سياسي يدل على ضعف كان فيه.
أضعف السلطات وأكثرها تهافتاً هي تلك التي تمارس الإهمال، أو ترث الإهمال دون محاولة وضع حد له، أو التي تترك المصارف تستولي على أموال الناس (ايداعاتهم)، أو التي لا تستطيع إيصال الكهرباء للناس على مدى اليوم والأسبوع والشهر والسنة. السلطة العاجزة عن قصد أو غير قصد، هي سلطة ضعيفة فاقدة الشرعية، مصابة بعمى البصيرة وغياب إرادة الإنجاز. السلطة الضعيفة تعجز عن الإنجاز، فتضع الملامة على الغير بالقول “ما خلونا نشتغل”. كأن الشغل بحاجة لمن يفسح له الطريق. السلطة العاجزة تكذب، وقد شبعنا الأكاذيب أيام حكومات الوحدة الوطنية التي رأسها أعضاء في 14 آذار، وكان فيها وزيراً مدللا من 8 آذار. السلطة العاجزة لا تجيد الإنجاز، ولا تعرف كيف يكون الشغل المنتج. وتلجأ الى حلفائها أو الى مظاهرات مضادة. أو تهرب من الميدان لاستبدال رئيس عاجز بواحد أبله. السلطة العاجزة تكابر ولا تقر بعجزها. تتمسك بالحكم من أجل المناصب في حين لا تفعل ما يفيد الناس.. يسمون هذا إهمالا وهو في حقيقة الأمر إرهابا. تتحامى وراء القوى الأمنية. إذ لا يوجد غيرها يحميها من غضب الناس؛ تدعي أن الثوار لا برامج لهم، لذلك تكثر من الاستشاريين، الأفراد والشركات، الذين يضعون التقارير والدراسات التي تأخذ حيزاً كبيراً في الإعلام. ثم توضع على الرف. نقيض العجز ليس كثرة الدراسات، وما أكثرها لدى دولتنا. وليس نقص المال وما أكثر القروض والهبات التي أقرتها الدول المانحة ولم تستخدم وبقيت دون انفاق رغم موافقة مجلس النواب؟
العجز مع البقاء في السلطة هو نوع من التواطؤ ضد المجتمع، أو فلنقل ممارسة الإرهاب ضده. تحارب الفساد وتدعو الى الإصلاح ولا تنجز شيئاً. تلقي اللوم على الآخرين، وتطارد طواحين الهواء كما كان دون كيشوت يفعل. تعدد إنجازاتك فتكون معظمها حضور مؤتمرات وأسفار على حساب الدولة. يكفي استعراض السنوات الخمس عشرة الأخيرة لكي تتمكن من سردية عجز لا مثيل لها في التاريخ. عجز أو إهمال أدى الى تفجير مرفأ بيروت. ولا استبعاد لتهم التواطؤ والتآمر على البلد. الذي لا يعمل ولا ينجز، كما هو مفرتض بأهل السلطة، لا بدّ وأن تكون له أهداف أخرى، وأن يكون في نيته أخذ البلد الى أماكن أخرى. الطريق الى فلسطين مزروعة بالنوايا الطيبة ومنها تغيير صيغة البلد. لذلك فإن مقولة “الحياد الناشط” تستحق النقاش لتخفيف انهيارات تسير السلطة بخطى ثابتة نحوها. ليس الموضوع هو الحياد بل هو العجز المقرون بالكذب والتواطؤ. لبنان ذو وضع خاص منذ بدايته في عام 1920. حياده حدث بحكم الضرورة. انحيازه للعرب والعروبة كان من طبيعة الأشياء. التذكير بالحياد هو لمن يفهم الانحياز العربي. الانهيار هو الذي دفع الى التذكير بالحياد. أن لا نفهم وضع لبنان وجدلية الحياد والانحياز مع الحفاظ على عروبة لبنان، ليس عن طريق الدين بل عن طريق السياسة، هو المشكلة الحقيقية عند دعاة انحياز لا يستطيعون المحافظة عليه. لا ضرورة لتكرار مقولة جورج بوش “إما معنا وإما علينا”. الضروري هو تكرار مقولات العيش سوية لأن الهيكل يمكن أن يهبط فوق رؤوس الجميع. دون العيش سوية لن يكون ممكناً لا الحياد ولا الانحياز، لأنه لن يبقى المجتمع متماسكاً. تماسك المجتمع ليس بديهياً، وليس من معطيات الطبيعة. هو أمر سياسي يجب العمل عليه وتأكيده عملياً ويومياً. والسياسة تقضي بحل مشاكل المجتمع كالكهرباء، واستعادة أرصدة المودعين (قبل الأموال المنهوبة) وتنظيف الأحياء السكنية والمنشآات الأخرى من المواد المتفجرة.
إهمال هذه الأمور هو الإهمال الكبير. وهو بمثابة سوء استعمال السلطة، بل استخدام نوع آخر من العنف ضد المجتمع. عنف تمارسه السلطة. وهذا ما يمكن تسميته بالإرهاب. إرهاب السلطة ضد المجتمع.