الاستبداد – عودة الاستعمار ٨
يُغضب الاستبداد شعبه. يفقد شرعية رضى الناس. يفقد العلاقة السوية مع مجتمعه. يزوّر كل المؤشرات التي توضح العلاقة مع مجتمعه. من ذلك تزوير الانتخابات. لا بد من أن يعتمد على قاعدة. بعد فقدان قاعدته الداخلية لا بدّ من أن يعتمد على قوى خارجية.
يجيء كل استبداد بوعود؛ خاصة فيما يتعلّق بالازدهار وتحسّن مستوى المعيشة. يفشل في ذلك بسبب انتكاس العلاقة مع المجتمع. يتراجع العمل. تهبط قوى الإنتاج. يفقد الناس حماسهم وزخمهم. يتكاسلون عن تأدية واجباتهم في الإنتاج. التكاسل ردة فعل صامتة على الاستبداد وطمس الإرادة وقمع الرأي. لا حماس إلا مع التمرّد وشعور المرء بأنه والمجتمع والسلطة دولة واحدة. يفقد الإنتظام معناه. الانتظام في دولة معناه أن يرى الفرد الدولة والمجتمع بصفة “نحن”. مع استيلاء نظام القمع على الدولة، تصير الدولة والمجتمع بالنسبة للفرد “هم”. يصير الكلام عن الدولة والنظام كأنهما غريبان. يخرج النظام والدولة من ضمير الناس قبل ان “يضطر” النظام الى اللجوء الى قوى خارجية من أجل الاستمرار في السلطة. ليس الكلام هنا عن خيانة. بل عن ظروف خلقها الاستبداد بذاته. يصير أسير علاقته السلبية بالمجتمع. يستعين على المجتمع بالخارج وبالأجهزة الأمنية القمعية من أجل ضبط المجتمع. هذا الضبط الصادر عن النظام والخارج ليس انتظاماً طوعياً في الدولة. الانتظام القسري نتيجة حتمية للقمع.
تهتز العلاقة بالقانون. يصير القانون جزءاً من أدوات القمع. لا يطبّق الناس، من العامة، القانون طوعياً؛ هو بالنسبة لهم قانون الغير وليس قانون النظام الذي كان يفترض أن يكون منهم وإليهم ولهم. هو نظام مكرّس للغير في الخارج. يصير تطبيق القانون عشوائياً أو لقاء بدل مادي. فشل الوعود بالازدهار، بالإضافة الى استفحال الطغمة الحاكمة التي تشكّل حاشية الطاغية، يؤديان الى الإفقار والاضطرار للبحث عن مصادر أخرى للعيش الى جانب الراتب الذي يتقاضاه الفرد من الدولة؛ وكأنه أصبح من مهام دولة الطاغية أن تنشئ مجتمعاً من الفقراء، على اعتبار أن الفقراء يقبلون بأي شيء، حتى التخلي عن كرامتهم. يفاجأ الطاغية بالكرامة؛ يكذب بالخطاب. يدّعي أنه ليس عند أهل الثورة خطاب، وأن ليس عندهم برنامج؛ ربما تهكّم على مدى تعليمهم وثقافتهم. لكن الطاغية لا يتحدث أبداً عن كرامة الجمهور.
كرامة المجتمع هي ما يعتبره الطاغية عدوه الأول. فاقد الشيء لا يعطيه. اعتماد الطاغية على الخارج يفقده الكرامة. يختبئ، ويدخل في جحر الايديولوجيا النيوليبرالية التي تحتقر المجتمع وتحترم الرأسمال المالي. يتهم شعبه بالجهل. لعله نال شهادة أو أكثر في مراحل تعليمه بفعل ما ورثه. لكنه لا يجرؤ على التحدث عن الكرامة والشرف. يتحدث عن وطنية، بعد أن جعل من الوطن صنواً لشخصه وعائلته وحاشيته. لكنه بعد أن جعل الشرف والوطنية خطين متوازيين لا يلتقيان، يتحدث عن وطنية واحدة؛ هي ما يتمثّل بشخصه.
تصل العلاقة بين الطاغية وشعبه الى درجة أن بقاءه بالسلطة يصير مرهوناً بالخضوع للخارج. لا يستطيع الاستقواء بمجتمعه، يجد نفسه مضطراً للاستقواء بالخارج. يعود الاستعمار. وهل ان الاستعمار هو سوى عودة سيطرة الخارج على الداخل؟ هذه المرة ليس الاستعمار بالغلبة القسرية، بل بالخضوع الطوعي والانغلاب (من غلب) الطوعي. انقلب الطاغية الى عكس ما كان يدعو إليه تماما. يصير مجتمعه هو العدو، والخارج هو الحليف. انفكّ الحلف مع المجتمع. صار الحلف مع الخارج ضد المجتمع. قيل أحياناً ان الاستقلال هدية مسمومة. السم في هذه الحالة هو الاستبداد.
مع الاستبداد والحليف الخارجي ينتهي أمر الدولة. الدولة انتظام المجتمع. معنى ذلك أنها لا تكون، ولا توجد، إلا في ضمير أبنائها. أفرغ الاستبداد الضمير من كل محتوى. أفرغه من الدولة، ومن الشعور والإحساس بالانتظام وضرورته. حرم المجتمع من إمكانية العيش سوية. الانتظام هو في أحد جوانبه أن يعيش الناس سوية بقوانين يضعونها هم. وبدستور يكون تعبيراً عنهم وعن هذه الإرادة بالعيش سوية. فقد النظام مبرر وجوده. لم يعد في خدمة دولة المجتمع؛ بل في خدمة دول الغير. الاستقلال صار تبعية.
كتب الكثير عن التنمية بعد الاستقلال، وبعد حروب التحرر الوطني. التنمية لا تكون إلا من صنع أصحابها. هي تنمية للغير إن لم تكن لأصحابها؛ منهم ولهم. في عصر النيوليبرالية تصير التنمية من أجل كيان خارجي، عالمي معولم. ليست العولمة اسماً جديداً للاستعمار. ليست العولمة أممية. الأممية تشارك فيها الدول كممثلة لشعوبها. تشارك فيها الشعوب عن طريق دولها. العولمة نظام عالمي تشارك فيه المجتمعات من أجل غيرها.
الاستثمار، أي تدفق الاستثمارات من الخارج، هو الذي يحل مكان جيوش الاحتلال. يحتلون البلد بالاستثمارات. الأدهى إذا كانت الاستثمارات تتدفّق مع جيوش الاحتلال. الاستثمارات بحد ذاتها وضع المال لصنع أشياء وبنى تحتية. الاستثمارات في هذه الحالة وسيلة لاقتطاع ما ينتجه أبناء البلد الذي يخضع للاستبداد وحلفائه.
ليس تدفق الاستثمارات مع الاستبداد مساعدة، ولا يضع أفقاً للتنمية. هو فقط وسيلة للتراكم في بلد الغير. الناس يعرفون ذلك. ويعرفون أن بلدهم صار في قبضة الغير. الذين يصنعون الثورات في البلدان العربية منذ 2011 يثورون ضد الاستبداد والاستعمار في آن معاً. يثورون لاستعادة بلدان صاروا يشعرون ويعرفون أنها لم تعد لهم.
ما أصعب أن يعيش المرء خارج بلده. الهجرة لم تكن مرة الخيار الأول لأي مهاجر أو مهاجرة. والذي يعيش في بلد وهو يشعر أنه لم يعد له يعاني مما يعانيه المهاجر. كأنه هاجر. أن يهاجر الناس وهم في أرضهم يبعث على مشاعر تتراكم وتؤدي الى الانفجار. الثورات منذ 2011، وما تزال، هي انفجارات. غير صحيح أن ليس لديها برامج. برنامجها هو إسقاط النظام واستعادة الدولة، استعادة البلد. استعادة العيش معاً. يهاجرالمرء وهو ما زال في مدينته أو قريته. يشعر أنه غريب عنها. الشعور بالغربة نوع من الانسلاخ. ليس ضرورياً أن تترك بلدك كي تُسمى مهاجرا. أنت مهاجر بالرغم من بقائك في مكانك. ليست الهجرة عيباً. قام تاريخ البشرية على الهجرات وعلى الاختلاط. الهجرة القسرية هي العيب. يهجّرك الاستبداد وأنت في أرضك. هجّرك يوم انتزع منك قرارك وكرامتك وانسانيتك، وأخيراً ملكيتك.
معنى الاستعمار (والامبريالية والاستبداد وما شابههما) انك أنت الخاضع. أنت موجود كما يُراد لك، كما يريد الغير لك. معناه أنك أُفرغت من المعنى والمغزى لتمتلئ بما لا تعتبره إرادتك ومصيرك وما تريد أن تكون. والاستعمار في كل مراحله برّر نفسه بأن الشعوب المحتلة ليست متمدنة بما فيه الكفاية، وأنها لا تعرف ما تريد، وأن هناك في أرض الله الواسعة (قوى الاستعمار) من يعرف أكثر من الشعوب المحلية ما تريد. يريدون تثقيف المحليين. الاستبداد حليفهم شاء أم أبى. الاحتفاظ بالسلطة يجبره على ذلك. الطاغية أيضاً فاقد الإرادة والاستقلال. مأساة الطاغية أنه يعيش حياة لم يردها لنفسه. لا حرية مع عبء الضرورة. لا إرادة (حتى لجبّار) مع الانصياع للخارج.
منذ نيل البلد استقلاله تختلف الأولويات بين السلطة والمجتمع. السلطة تصرّ على البقاء في الحكم. والمجتمع أولويته الحفاظ على الاستقلال. يحدث التناقض منذ اللحظة الأولى. يفقد الحاكم صلته بالمجتمع. يتعمّق الطلاق بينه وبين المجتمع. يضطر الى الاستبداد. والاستبداد يدفعه الى الاستعانة بالحليف الأجنبي. لا يتحقق الاستقلال من دون تقرير المصير، ومن دون التزام الحاكم إرادة شعبه قبل أن يصبح طاغية. فارق شعبه فصار طاغية. هناك حكام آخرون ارتكبوا هفوات وغلطات وهزائم، لكنهم لم يفارقوا مجتمعهم ولم يصيروا طغاة. ينقطع الحوار بينهم وبين الناس. يتجه الطغاة لاستمداد شريان الحياة من حلفاء أجانب. فقد الطاغية تمثيله للاستقلال. فقد مبرّر وجوده. إزالته صارت ضرورية من أجل الشرعية والدولة.
طغاة بلادنا وعدوا بالازدهار والتقدم. أخذوا الكرامة لقاء ذلك. كان الظن أن التخلي عن الكرامة والخضوع للقمع سيكونان مؤقتين. وأن المستقبل كفيل بالوصول الى غد أفضل. جاء هذا الغد ووجد الناس أنفسهم بلا تنمية وبلا كرامة. خسروا كل شيء. لم يبق لهم إلا أن يفعلوا شيئاً واحداً. معادلة الاستقرار مع القمع لقاء التقدم والازدهار فشلت. هذا الفشل يعاقب عليه الحاكم لا المجتمع. لا يلومنّ أحد المجتمع إذا انتابه اليأس.