الاستبداد ٢٦ – التفوّق العنصري وعقد الصفقة
يبدع الأصهار في الاعتقاد بقدرتهم على حل ما تعقّد بين الدول والشعوب. الصهر قريب من الرئيس بفعل زواجه من الابنة. هو مجرد حادثة بيولوجية. لكنه يؤمن بضرورة تاريخية لوجوده، وبقدرة لديه غير مسبوقة لحل المشاكل المستعصية. قربه من الرئيس، وضعه كمستشار له، فوق الآخرين، يمنحه قوة هائلة في الذكاء والاستطاعة. يتجاوز كل الأعراف. يخالف كل القوانين. يخرج عن كل ما هو مألوف. يناقض سياسات عملت بموجبها بلاده على مدى عشرات السنين. خبرته أملاك موروثة ومهنة في مقاولات البناء. لكنه يعتقد مثل والد زوجته الرئيس ترامب بأنه يتفوّق على الآخرين. ومن مظاهر تفوقه على الخصوم والأصدقاء عقد صفقات باهرة لم يأت بها غيره. هو غير الآخرين. متمكن مما يفعل أكثر منهم. التفوّق سمته الأساسية. يعتقد أن الشعوب التي استعصت على حروب الإبادة يمكن السيطرة عليها ببضعة مليارات من الدولارات. بنظره ليس في الأرض من لا يرتشي. يريد أن يرشو الفلسطينيين بأموال عربية ليبتاعوا عبوديتهم. هو صهيوني عتيق علّمه أجداده مبادئ جابوتنسكي الذي قال أن العرب لا يساقون إلا بالعصا. هو يعتقد أنه يستطيع أن يتعامل مع الشعب وكأنه ورشة بناء. يرفع الأجور، ينفكّ الإضراب، وينصرف الجميع.
لا بدّ وأنه لا يعرف شيئاً عن التاريخ وعن الشعوب. في التاريخ جرت محاولات كثيرة لم تنجح. عند تحلّل الدولة الفاطمية ودخول الفرنجة الى القاهرة، بعث نور الدين زنكي بصلاح الدين ورهطه من سوريا والموصل الى مصر.سقطت الدولة الفاطمية وخرج الفرنجة (الصليبيون) من مصر، وبعد حين هزمت دولة الفرنجة. مصر مقيّدة الآن باتفاق كامب دايفيد. سوريا منهكة بحروب أهلية. اتكل كوشنر على عرب النفط. اعتقد أن المال إذا جمعه من أهل النفط، سيكون بمثابة مشروع مارشال. ليس هناك ظروف أوروبية تتشبّه بها فلسطين من أجل مشروع مارشال. كان الأوروبين منتصرين، بينما العرب بما فيهم الفلسطينيون مهزومون. كانت أوروبا بحاجة الى ازدهار اقتصادي، واسرائيل تعيش حالة ازدهار اقتصادي. الفاعل هنا هو اسرائيل بحيث لا يدفع ثمن جرائمه. يُعتبر بطلاً عند يارد كوشنر وأمثاله. ألمانيا أدينت بالاجرام. حرب الإبادة الإسرائيلية ضد فلسطين تختلف في الشكل عن حرب الإبادة الألمانية. الضحايا الفلسطينيون كثر. والمهجرون كثر. يريدون العودة. يعتبرون هذا الحق مقدساً وضرورياً ولا يتنازلون عنه. الأرض لهم ولن يتخلوا عنها. اسرائيل تقضم الأرض بالقسر. هو يساهم في قضم الأرض بالرشوة. يكفي أن ترشوهم، وأن تشتريهم، وأن تبادلهم بالمال، وتحوّلهم الى عبيد كي تتحقق صفقة القرن.
الصفقة، بالتعريف، عقد بين فريقين متكافئين. ليس هنا صفقة. هنا طرف واحد، أي دولة اسرائيل (أميركا) يفاوض دولاً عربية (لا تمثل شعوبها) على مصير شعب فلسطين. كأن ورشة العمل في البحرين سوق نخاسة يُباع ويشترى فيها شعب بكامله، بتاريخه، بمصيره، وبوجوده الإنساني. حق المصير الذي تبنّاه ويلسون بعد الحرب العالمية الأولى ينطبق في كل مكان إلا في فلسطين. سياسة أميركية ضد إقامة المستوطنات في الضفة يرمي بها في كيس القمامة. وضع خاص للقدس يتم التخلي عنه. بالنهاية لا اعتبار لشعب فلسطين. لكن مصيره يُقرر عنه بتوكيل لم يؤخذ منه. المفاوض الأميركي شديد الانحياز لأعداء فلسطين. صهيوني أكثر من الصهاينة.
هو شعب فلسطيني. يعتبر تارة ذلك. وهو شعب عربي. يعتبر تارة أخرى كذلك، حسب تبدلّ الظروف. في جميع الأحوال، يُنظر إليه وكأنه لا شعب عربي ولا فلسطيني. فلسطينية الفلسطينيين لا تؤخذ بالاعتبار. عروبة الفلسطينيين لا تؤخذ بالاعتبار. العروبة تعبّر عن شعوبها لا دولها. دول فاقدة الشرعية. لكن الأميركيين يفاوضون معها.يتعاملون ويعتبرون الشعوب العربية وكأنها كمّ مهمل. ماذا إذا رضي الفلسطينيون ولم ترض الشعوب العربية؟ القمع جاهز. كيف اذا رضيت حكومات العرب ولم ترض الشعوب العربية؟ لتكن هناك حرب أهلية بين الفلسطينيين كي يعرف العرب والعالم أنهم لا يعرفون كيف يحكمون أنفسهم بأنفسهم. هم أطفال على سلّم الارتقاء الاجتماعي. يحتاجون الى من يمسك بيدهم كي يدلّهم على الطريق الصحيح. إذا كانوا لا يعرفون فكيف يعرف فلسطينيو الشتات، وجميعهم من أرومة واحدة.
الصفقة (صفقة القرن أو غيرها) تعقد بين طرفين يكون كل منهما قابلاً وقادراً على الرفض والقبول. معلوم أن الجانب الفلسطيني أضعف من أن يشارك. وقد قال لا لأنه لا يستطيع المشاركة خوفاً من ردة الفعل الشعبية. أما رجال الأعمال وممثلو الدول العربية الذين شاركوا فهم أشبه بمستعمرات أميركية لا يستطيعون الرفض.
ظنت أميركا أنها تستطيع عقد الصفقة لأنها الأقوى في العالم: عملتها احتياطي العالم والمقياس الأساسي في نظامه المالي؛ جيشها هو الأقوى، وربما ما زالت موازنته تفوق موازنة جيوش العالم مجتمعة. نظام يعقد اتفاقات دولية ويتراجع عنها من دون مبرر. يتغيّر الرئيس، فيلغي ما شاء من الاتفاقات في مختلف أنحاء العالم. يتصرّف بعشوائية كاملة. يعتقد أن أميركا هي الأعظم. استثنائية متميزة. يحق لها ما لا يحق لغيرها؛ ما تفعل هو الحق بعينه. يفرض العقوبات على الدول والأشخاص والشركات في الخارج بأوامر منه من دون محاكمات. يتصرف بالعالم كما يشاء. يتبجّح رئيسها بأنه عشوائي القرار كيلا يعرف العالم الخارجي قراراته القادمة. تتصرّف الولايات المتحدة في العالم كما يتصرّف أي طاغية في بلد ديكتاتوري بعشوائية كاملة وتجاوز القوانين. وفي الحالتين، اعتبار الطاغية الأميركي (عالمياً) والطاغية محليا هم مصدر العالم وهم الذين يقررون مصيره.
الحلف مع الأنظمة العربية قائم. تمويل صفقة القرن قائم في معظمه (معظم تمويل ال50 مليار)، وهو من تبرعات العرب. الدول ورجال الأعمال اتهمهم بالفساد. وهذا صحيح. اذن هو سوف يستفيد من فسادهم لتمويل المشروع. بمال الطبقة العليا العربية يشتري عبودية العرب. يشتريهم بمالهم. يدفع العبيد أثمان أنفسهم، وكل ذلك بمال أساسه الفساد.
لكن الأساسي في كل ذلك هو أن الذين وراء صفقة القرن لا يفهمون العرب ومجتمعاتهم. وأن قضية فلسطين لا تحلّ بوسائل تجارية ولا بوعود سمع العرب مثلها على مر العقود. والمضمر الذي لم يرد في مشروع صفقة القرن هو قضم الأراضي الفلسطينية من دون مسوّغ قانوني، والوسيط الأميركي في هذه الحالة هو طرف يتبنّى اسرائيل، وما يُسمّى بالقوانين الدولية، بالأحرى القرارت الدولية، التي شارك فيها الأميركيون خلال عقود يخالفونها الآن من دون أن يرفّ لهم جفن؛ ومن دون حياء.
هم منتصرون يفرضون شروط الاستسلام بعد الحروب. يشارك حكام عرب بالاستسلام. لا يدري، أو لا يريد أن يدري الطرفان، أن الشعوب العربية لم تستسلم بعد. هي ما زالت تناضل ضد هؤلاء الحكام. ضد المنظومة العربية الحاكمة. الشعوب العربية تناضل وترفض الاستسلام. هذا لا يعني أنها لن تستسلم. ما يتعرض له العرب هو حرب إبادة. وهذه إمكانية ليست نتائجها حتمية. اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم يشبه القمع غير المسبوق للجماهير الغاضبة في بقية البلدان العربية. هؤلاء تفرض عليهم شروط اسرائيل، وأولئك تفرض عليهم شروط الطغاة وحكومات العسكر. القوة وحدها هي التي يتعاطى بها الجميع ضد العرب. قالها جابوتنسكي بأن شعوب العرب لا تعامل إلا بالحديد والنار. خاض الاستعمار على مدى القرون الماضية حروب إبادة ضد شعوب أخرى، أيضاً. النتائج معروفة (فيتنام وبقية شرق أسيا). لن نخوض في مناقشة نتائج هذه الحروب. لكن أميركا كانت أقوى نسبياً وانتصرت هذه الشعوب بقواها الذاتية وقوى داعميها. ليس من يدعم الشعوب العربية الآن. وهذا هو الأخطر. حتى العرب مجتمعات وحكاما لا يأبهون لقواهم الذاتية. لا يفعلون شيئاً لمعرفة قواهم الذاتية واستغلالها. المعارضون لصفقة القرن يرفعون الشعارات من دون أن يفهموا معناها.
الولايات المتحدة تدير العالم لأنها ما زالت قادرة على ذلك. العرب مهزومون ولا يستسلمون بالكامل لأنهم غير قادرين على الاستسلام. العجز شبه كامل ولو كانت إمكانات الصعود متاحة. في رؤوس العرب شعارات ولا معرفة حقيقية، وبالتالي لا إمكانية لاستغلال إمكانياتهم الذاتية المتاحة.
إن عزل الاقتصاد عن المطالب السياسية والتلويح بالمليارات لقاء الاستسلام هو نوع آخر من الرقّ. استعباد أقوام لقاء أموال لهم. في هذه الحالة تدفع لهم وهماً، أو بالأحرى زيفاً وتلفيقاً لأن المال لا يأتي من الشاري بل ممن يحسبون أنفسهم أولياء أمر القضية لاستعبادهم. النهب الامبريالي لايرادات العرب من النفط وغيره حصل ويحصل باستمرار. ما تبقى منه يستخدم لشراء الطبقات الدنيا من العرب وفلسطين. كل ذلك وسط جو من التعمية. لا نعرف معنى تعبير الأرض المحتلة: هل هي فلسطين بكاملها؟ أم الأرض المحتلة في العام 1967؟ أم أراضي المستوطنات التي يقضمها ويسكنها الإسرائيليون كل يوم؟ ولا نعرف من السلطة التي سوف تتلقى الأموال في حال ورودها؛ هل هي سلطة فلسطينية غير معترف بها من العدو الأميركي بحجة الفساد؟ وهل هناك حملة شاملة لتغيير هيكلية المجتمع الفلسطيني؟ العبودية هي أن تسيطر دولة ما على شعب كامل وتصادر جميع حقوقه وحرياته السياسية، وأن يأتمر الشعب المحكوم بأوامر السلطة الحاكمة، ويستسلم استسلاما كاملا لمشيئة الغير. استبداد طاغية بشعبه أمر شنيع. استبداد دولة غريبة بشعب هو امبريالية، هو استبداد زائد عبودية. المسألة لم تعد استبدادا مع الحفاظ على ملكية المحكومين، بل هي استبداد مع تملك أرض وثروات المحكومين. وفي النهاية تملّكهم هم كأشخاص، ولا يهمّ هنا معدومو الحقوق والحريات السياسية. كل الحقوق لدى الحاكم الأجنبي. من شروط الرقّ قديما أن يستطيع العبد اعتاق نفسه بماله. لا يستطيع ذلك في هذه الحالة. وضع يتجاوز النيوليبرالية والحكم بالأمر الى تملّك المحكومين كبشر تملّكاً كاملاً وتجريدهم من كل إمكانيات الإعتاق. لا يأبه أحد لرأي الفلسطينيين أو طموحاتهم السياسية؛ حتى كما اتفق عليه في أوسلو. هم محكومون ممتلكون. فاقدوا الحرية، والحق بالحرية. شراء فلسطين بالمال يضع طريقاً مسدوداً أمام الفلسطينيين. ليس لهم خيار في شيء سوى طاعة أسيادهم.
يخطط الأميركيون لما يسمّونه “السلام”، ويسمّون برنامجهم خطة “صفقة القرن”. هم قالوا أنها صفقة بيع وشراء. هي صفقة شراء الفلسطينيين حتى ولو رفضوا. وهي صفقة بيع عرب النفط للفلسطينيين حتى ولو رفضوا. العبد لا يستطيع أن يرفض عملية بيعه وشرائه. هو مجرد سلعة في سوق النخاسة. المنافسة هي سوق النخاسة في هذه الحال، والعبيد في نظر الأميركيين والاسرائيليين تحفظ لهم أماكن المبيت الى أن يأتي وقت يتمّ الاجهاز عليهم أو تهجيرهم من كل فلسطين. هي حرب إبادة تحدث وإن كان سيرها على خطوط متقطعة متصلة.
بالطبع يعرف الأميركيون أن لدى العرب ثورة عامة ضد حكامهم. وأن الثورة تقمع في جميع أقطار العرب. وأن الثورة المضادة، حتى اشعار آخر، تنتصر. هم يتحالفون مع الثورة المضادة، مع الأنظمة العربية التي ترفضها شعوبها. ويعرفون أيضاً مكانة فلسطين في وعي العرب وفي ضميرهم. ويعرفون أن ما يسمى “صفقة القرن” لن يكون مصيرها النجاح إلا بتغيير الشعوب العربية. حرب إبادة ضد العرب بأساليب جديدة أيضاً. الشعوب العربية لا ينسى بعضها بعضا. تربطها أواصر اللغة وغير ذلك. لا يستطيع الأميركيون-الاسرائيليون النفاذ الى ضمير العرب وتغيير وعيهم. أمن اسرائيل لا يتحقق نهائياً إلا بالتخلص من العرب حيث هم. أليست تلك حرب إبادة جماعية؟
إذا آخذنا بالمظاهر، نرى العرب منهكين. أعني الشعوب العربية المنهمكة في أمورها اليومية وفي مطالبها في وجه حكامها. الاحتجاجات في الميدان العام هي حول الأمور اليومية. لا نرى فلسطين شعاراً إلا نادراً. فهل معنى ذلك أن القضية اختفت أو تلاشت. هذا ما يتمناه حكام العرب وأسيادهم الأميركيون-الاسرائيليون. هم يراهنون على حكام العرب والقضية تراهن على شعوب العرب.
يستطيع الأميركيون أن يفهموا كما يريدون. لكنهم يختارون الفهم الخاطئ. يعتقدون أنهم يستطيعون أخذ الشعب الفلسطيني والشعوب العربية من حكامهم الذين يشنّون ضدهم الثورة المضادة. يفرضون صفقة مع أنظمة حاكمة لم تعد تسيطر على شعوبها. هذا هو التناقض الأساسي الذي يحصل. صفقة القرن هي مشكلة القرن.