الايديولوجيا العربية السائدة
وعي تكنولوجي من دون انتاج تكنولوجيا:
يتعلق العلم الحديث بـ”لماذا”. تتعلّق التكنولوجيا الحديثة بـ”كيف”. العلم الحديث يحاول اكتشاف الأسباب، وقوانين الأشياء، وتطورها، وعلاقتها ببعضها. التكنولوجيا تحاول استخدام النظريات العلمية المكتشفة لانتاج سلع وأدوات مفيدة. العلم معرفة في سبيل المعرفة. التكنولوجيا معرفة في سبيل الفائدة. يتطلب العلم رهبنة معرفية. تتطلّب التكنولوجيا قدرة تجارية. المفروض ألّا يختلط العلم بالمال، وأن تبدأ التكنولوجيا ومشاريعها بالمال والاستثمار.
تاريخياً، تطوِرت الأدوات التكنولوجيّة، أو كثير منها، قبل ظهور النظريات العلمية المناسبة، وعلى أسس فردية. وبعضها تُرِكَ زمناً من دون استثمار. تغيّر الأمر في القرن العشرين. إذ لم يعد العلم فردياً، بل يجري السعي اليه في مراكز تفكير. اما التكنولوجيا ففي مختبرات كبرى. ويلحق التطوّر التكنولوجي التطوّر العلمي. ولم يعد الفصل بينهما حاداً كما أيام الثورة الصناعية وما قبلها.
العقل العلمي فيه نوع من المثالية؛ معرفة في سبيل المعرفة. العقل التقني نفعي، وفي معظم الأحيان انتهازي. في العقل العلمي يبقى المال مسألة جانبية. في العقل التقني يكون المال مسألة مركزية. أما المعرفة، وإن كانت ضرورية، إلا أنها ليست الهدف. هي الوسيلة لشيء آخر. وسيلة للإنتاج والاستثمار. ليس هدف العلم تحويل الأشياء الى سلع، بل فهم حركتها ووجودها. هدف التكنولوجيا تحويل الأشياء الى سلع، وما يستتبع ذلك. هذا لا يمنع أن تحاول الشركات الكبرى السيطرة على البحث العلمي المجرّد في سبيل احتكار التكنولوجيا المتولدة عنه.
العلم وسيلة للمعرفة. التكنولوجيا وسيلة للإنتاج. يحوّل الرأسمال كل شيء الى وسيلة للربح. في عملية الإنتاج يحوّل الرأسمال الإنسان أيضاً الى وسيلة للإنتاج. مع تقدم التكنولوجيا تصنع أدوات الإنتاج غيرها من الأدوات. يحاول الرأسمال تخفيض استخدام الأيدي العاملة. يتحوّل الإنسان الى وسيلة لا ضرورة لها. تكثر البطالة مع التقدم. يصير الإنسان غير ضروري إلا ليكون مستهلكاً، وإلا فإن السلع المنتجة لا يمكن تصريفها. يسود العقل النفعي. تتحكم بالبشر ايديولوجيا المال والانتهازية. ضرورات أصحاب رأس المال تصبح ايديولوجيا عامة الناس. النموذج النفعي يسيطر على العقل البشري. يصير المال هدفاً. يخض الجميع لضروراته. تتكوّن بنية فكرية ايديولوجيّة لا فكاك منها. تزداد صعوبة بناء مشروع تحرري. تعاني الإنسانية من ذلك. ضعف حركات الكادحين وتلاشي حركات التحرر هي الآفة الكبرى. الإحباط يعم العالم. تنتشر الفاشية ومعها أفكار التفوق العرقي.
مأساة الوعي العربي، بالأحرى الايديولوجيا السائدة بين العرب، أن هذا الوعي تسيطر عليه التكنولوجيا. الاندهاش بالغرب تحوّل الى اندهاش بالتكنولوجيا الغربية. يستهلك العرب هذه التكنولوجيا، ويزدادون انبهاراً بها. لكنهم لا ينتجون التكنولوجيا. يتحوّل الانبهار الى نوع من الدونية والاعتقاد بعدم جدوى الثقافة العربية. ينعكس ذلك على الرؤية التاريخية. تنسحب الدونية على الماضي. يعتقد العرب أنهم الآن كما كانوا خلال العصور السابقة. يعتبرون ثقافتهم غير مؤهلة للعلم والتكنولوجيا. ما زال وعيهم يسكن الفتوحات المجيدة والخلافات على السلطة التي أدت الى انقسامات مذهبية. يعتقدون أن تاريخهم هو سلسلة حروب أهلية. يتجنبون التاريخ أو يلغونه من وعيهم. يغيب عن وعيهم أن التاريخ تحوّل، وقد يكون الى الوراء أحياناً. كما لدى بقية الشعوب في مراحل مختلفة. ينظرون (العرب) الى ثقافتهم الموروثة باحتقار. لا يبقى إلا الدين. تسيطر الايديولوجيا الدينية بأشكالها السياسية المختلفة. تتخذ أحياناً أشكالاً جهادية نتيجة الدونية والإحباط. يولّد الإحباط حركات عشوائية يكون فيها القتل والتدمير عشوائياً. تفقد الحياة انتظامها. الخلاص يعتبرونه في الآخرة. ترتبط التكنولوجيا بالاسكاتولوجيا (نظريات حول نهاية العالم). يصير الموت هدفاً طوعياً لا نهاية محتومة. يتحوّل الموت من ضرورة الى اختيار. الانتحار فعل جماعي. الحرب الأهلية انتحار بمعنى ما.
أدى الانبهار بالتكنولوجيا الى رفع مقامها واعتبارها دواءً لما نعاني منه. أصبح الوعي بأهمية التكنولوجيا “وكأنها هي الحل” يشبه شعار الاخوان المسلمين “الإسلام هو الحل”. لم تع نخبنا أن ولوج عصر التكنولوجيا، على أهميته، يتطلّب النظر في أمر التراث والتاريخ والدين، تطويراً يتناسب مع عصر التكنولوجيا، وليس تدميراً شاملاً للبنى الفكرية القديمة للتراث، والتاريخ، والدين. شتان ما بين التطوّر والتدمير. جرى تدمير ممنهج لهذه المجتمعات بتفكيكها واختراع تراثات جديدة لها، وإشعال المنافسة بين أجزائها حتى بلوغ الحرب الأهلية.
تعاون الوعي التكنولوجي الجديد ونمط الاستهلاك مع الطغيان والاستبداد. الأوّل ساد مع تدفق عائدات النفط، وبروز النمط الاستهلاكي البذيء. ورأى الثاني في التكنولوجيا وسيلة لإخضاع الناس. الأهم هو أن كلا منهما رأى هذا التعاون مناسباً لعدم ممارسة النقد الثقافي. تُضاف التكنولوجيا الى الثقافة السائدة، والتي هي على الأرجح من اختراع الأنظمة ومن وراءها. تكون النتيجة سيطرة ايديولوجيا غير نقدية وغير مناسبة للعلم والاكتشاف. عدم وجود مراكز بحث في المنطقة العربية لم يكن صدفة. لم يكن سياسة الأنظمة وحسب، بل كان أيضاً عدم وجود من يبحث عن طريق السؤال، والتجربة، والاكتشاف. ساد استخدام مصطلحات سياسية، وتكرارها، وتكرار التجارب التي ساهمت فيها، من دون تمحيص، ومن دون تقدير نتائج العمل بها. الأهون هو أن تقوم بأي عمل وتضعه تحت عنوان المقاومة، بعد أن تضع المقاومة موضع التقديس. يصير السؤال نوعاً من العمالة.
تزامن الانبهار بالتكنولوجيا مع الاستهانة بالعمل الحديث والفلسفة والنظرية عموماً. تراجع التفكير في الأسباب والنتائج لكل حدث يرد أمامنا. صار التكرار سيد الموقف. صار الحفظ سيّد الفهم. اختفى السؤال. تلاشى الشك. سادت المقدسات. كل ما يخالف الرأي السائد صار حراماً. الحرام جزاؤه العقوبة. دعمت التكنولوجيا المقدسات والعقل المستريح الذي لا يريد أن يتعب نفسه بالبحث والتمحيص، وصولاً الى السؤال والشك، والى اكتشاف جديد. بقي الذهن معلقاً بإرادة الله التي لا تُعرف إلا من خلال المقدس والأحاديث النبوية. صحيح البخاري استولى على العقل وأغلق العقل. أغلق المجتمع. وباتت الفرصة مناسبة للاستبداد، ولرجال الدين. كل منهما أراد السلطة. الأول ليحافظ عليها، والثاني كي يصعد ويجلس على العرش. تنافسا وتحولا الى حروب أهلية، والتي لم تكن أكثر من صراعات على السلطة. ضحاياهما الناس الفقراء. مقدسات السلطة والدين فوق كل اعتبار. حياة الناس لا أهمية لها. القتال هو من أجل تثبيت وجهة نظر. لم يجر العمل على إنتاج وجهات نظر جديدة. يستحيل ذلك عندما يعتبر التفلسف والتنظير (أي العلم الحديث) شبهة وتهمة. وعي مخثّر اعتمد سياسات الهوية. تعددت الهويات. وهذا أمر طبيعي؛ تحولت الى الصراع. تفتت وعي الأمة. بالأحرى تلاشى هذا الوعي. الذات التي تعي صارت مقيدة بالاستبداد والدين عن طريق التكنولوجيا التي تعلّم الممارسة من دون التفكير، والخضوع من دون تمرّد، والاستكانة من دون كرامة. عندما حدثت الثورة العربية في 2011، ارتدّت عليها الثورة المضادة التي مارستها المنظومة الحاكمة، والمشكّلة من الطغاة والتكنولوجيا الدينية. نعيش أياماً أكثر قمعاً للحريات مما قبل الثورة. طغيان التكنولوجيا ساهم في دعم الطغيان السياسي، وطغيان الأصولية الدينية.
مجتمعنا يستهلك التكنولوجيا من دون أن يصنعها. المجتمع الذي يصنع التكنولوجيا يضطر الى أن يكون مزوداً بالعلم الحديث ومراكز البحوث والأصول الضرورية للنقاش وتبادل الآراء في مجال مفتوح. المجتمع الذي يصنع التكنولوجيا مضطر الى إعادة تنظيم نفسه وبناء قواعد إنتاجية تصدر عن عقلانية علمية، لا عن عقلانية استنباطية تستدرج الأحكام من حقائق مسبقة مقدسة، حقائق يقررها طغاة السياسة والدين. العلم ليس وجهة نظر لمن يدعي امتلاك الحقيقة. العلم نظام عقلي يرتكز على ملاحظة الطبيعة من دون أثر لأفكار مسبقة، حتى ولو كانت مقدسة. في العلم اكتشاف لما هو جديد علينا. ما هو موجود يظهر أمامنا بعد البحث. العلم ليس وجهات نظر مثبتة بين دفتي كتاب أو كتب، وليس إملاءات الحاكم. العلم يخضع فقط لعقل يلاحظ الطبيعة ويكتشف قوانينها. لا شيء يمنع من دين يعتقد أن قوانين الطبيعة هي من خلق إله هو مصدر الطبيعة. العلم اكتشاف للأشياء وليس احتيالاً على الأحكام. كانوا يسمون الميكانيك في القرون الوسطى، في تاريخنا، علم الحيل. كما كان لدى الفقهاء كتب الحيل كي يتم تفادي ما يعتقد أنه أحكام الشريعة.
ليس لدينا مراكز بحوث علمية (في العلوم الإنسانية والعلوم المادية) لأنه لا يراد لنا أن نفكّر. التفكير خطر أكبر على سلطات الاستبداد. التفكير يستحيل إلا في مجتمع مفتوح. وهذا هو الخطر الأكبر على الاستبداد بجميع أشكاله. ليس لدينا مراكز بحوث علمية كي يبقى العقل مستريحاً. ويتحوّل هذا الى عقل محتال؛ يحتال على ظلم الاستبداد وبؤس الحياة من أجل البقاء. التكنولوجيا ليست الحل. هي علم الحيل ما لم ننتجها. وهذا مًتاح بالعلوم الحديثة وحسب….يتبع