التحليل الطبقي وتحليل التشكيلات الاجتماعية
تتعدد الهويات لدى كل شخص منا. تتراكم الانتماءات في كل مجتمع. وتتنوّع الصراعات. أساسها جميعاً هو الصراع الطبقي. هو الذي يشكّل على المدى الطويل تطوّر المجتمع. تتراكم فوقه الصراعات القومية والإثنية والعشائرية والطائفية. تشكّل هذه جميعاً في تراكمها التشكيلة الاجتماعية. تكون التحليلات الاجتماعية أحادية وناقصة ومنحرفة عندما ينحصر الواحد منها على الطائفية (انقسام المجتمع الى طوائف) أو الزبائنية (التبعية لزعامات ووجاهات على أساس خدمات يقدمها هؤلاء) أو الإثنية (على أساس ولاءات ايديولوجية لانتماءات إثنية أو قومية أو حتى مناطقية، كأن يكون الواحد منا شمالياً أو جنوبياً أو بيروتياً ولا يعترف إلا بواحدة منها). الانتماءات العائلية والعشائرية في لبنان شديدة الأهمية؛ العائلية منها في كل لبنان، والعشائرية خاصة في البقاع والشمال. الكثير من هذه الانتماءات متخيلة، كأن يعتقد الواحد أن العشيرة تمتد في قدمها الزمني الى أب واحد، أو كأن يعتقد أصحاب القومية العربية أن الأمة موجودة بالفعل وهي في حالة وجود فوقي بانتظار التجسّد في دولة واحدة. وأخطرها مفهوم الأمة الإسلامية، التي يعتبر أصحابها أن ما يوحّد الأمة هو الشريعة (رغما عن التعددية داخل الشريعة، والتناقضات الحادة في التفسيرات الدينية). كثيرا ما يخلط الباحثون وأهل السياسة بين الأمة العربية والأمة الإسلامية، رغما عن أن الأولى علمانية والثانية دينية التعددية في كل مجتمع، بما في ذلك لبنان. ومع أنها متخيلة، إلا أنها واقعية ولها أثر كبير في وعي وسلوك الأفراد.
في كل مجتمع، وداخل كل طائفة أو عشيرة أو إثنية، يشكّل الأغلبية طبقة من الفقراء الذين يستغلهم زعماء الطوائف والعشائر والإثنيات. الطبقة مشتركة بين الجماعات. ومن الخطأ أن يقتصر الكلام عن مكونات المجتمع على “المكونات”؛ التعبير الذي استخدم في العراق ويستخدم الآن في لبنان لأسباب مشبوهة. بدأ هذا الاستخدام للمكونات الطائفية مع الاحتلال الأميركي الذي جهد لتحويل العراق الى كونفيدرالية طوائف متناحرة. ولا شيء منع اللبنانيين من استخدام التعبير بسبب تجذّر الطائفية في بلدهم وبسبب إرادة أكباش الطوائف أن تبقى الطوائف من أجل استخدامها في الحرب الطائفية عند اللزوم. على كل حال، أن تاريخ لبنان الحديث هو حرب طائفية مستمرة وإن متقطّعة. وقد أريد صراحة أن يكون العراق شبيهاً بالنظام اللبناني. سن الاحتلال الأميركي الدستور على هذا الأساس. وقبل به العراق وصار عار الطائفية من سمات النظام العراقي الذي يعاني على الدوام مثل لبنان فراغاً في السلطة وتلاشياً للدولة. ما اعتبره العراقيون خلاصاً من الاستبداد، وهذا صحيح، حل مكانه استبداد أدهى، وهو استبداد الطوائف وأكباشها. تعددت الديكتاتوريات على يد الامبراطورية الأميركية. إذ كان فيتو كل طائفة يشكّل خرقاً للميثاقية، على اعتبار أن المجتمع والسلطة يتشكّل كل منهما من ميثاقية طائفية، وهي استبداد من نوع آخر. لكنه استبداد يفرّق المجتمع ويذرره بعد أن كان يوحده قسراً من قبل. الانتخابات في العراق ديمقراطية استبدادية كما في لبنان. تشتيت مفتعل وإن استخدم فيه التنوّع الطائفي الذي كان سائداً على الدوام. ليس بالضرورة أن يقود التنوّع الى التشتيت والتذرير. بل إلغاء السياسة واستبدالها بالميثاقية هو ما يقود الى التشتيت. الميثاقية رفع بالطائفية الى مستويات أعلى وأكثر تجذراً. وهي كما سبق القول نوع آخر من الطغيان.
المشترك في كل “مكونات” المجتمع، سواء كانت طوائف أو إثنيات أو غيرهما هو الطبقات الاجتماعية الأدنى. وهي الطبقات الفقيرة. هذه يحصل استغلالها بالقسر والإكراه في النظام الفيودالي (الاقطاعي) وبوسائل اقتصادية في النظام الرأسمالي. طبقة الفلاحين تلتزم بالتخلي عن الجزء الأكبر من إنتاجها بالقوة والقسر والإكراه. تنزع الأرض من الفلاحين في النظام الرأسمالي ويصيرون “أحراراً”. ينتقلون الى نظام جديد سمته العمل المأجور. يصيرون بروليتاريا يعملون بالأجرة لدى صاحب المعمل أو المزرعة أو مؤسسة الخدمات. وإذا لم يعملوا عملاً مأجوراً يفقدون مصدر رزقهم، فيعيشون على التسوّل أو ما هو أكثر إذلالاً. كان المتشردون يتعرضون للملاحقة، والسجن إذا قُبض عليهم دون مال في جيبهم. قوانين ملاحقة المتشردين (vagabonds) ما زالت موجودة في الغرب الرأسمالي، وإن كان لا يعمل بها (إلا عند الضرورة) كما في فترة ثورة 1968.
النظام “الريعي” في لبنان هو نظام الاقتصاد الحر الذي تمتنع فيه الرأسمالية عن الاستثمار في أعمال منتجة. كانت الرأسمالية وما تزال تفضّل الاعتماد على فوائد المال، والتمييز بين الريع والفائدة. والربح مفتعل وكاذب. كل اقتطاع لفائض القيمة، أي لجزء من نتاج عمل الفقراء هو ريع حتى ولو كانوا يعملون في مصنع أو مزرعة. الفرق أن الرأسمالية اللبنانية لم تفضّل الأعمال المنتجة. كان، وما يزال، تفضيلها للفائدة، كما كان تفضيل الاقطاعيين (للريع) من قبل، وكما هو الربح الذي تجنيه شركات الخدمات. لذلك نرى بداية نقاش واسع في الغرب الرأسمالي، ولدى الماركسيين، حول عودة الفيودالية (الاقطاعية) بوسائل أخرى. شركات التواصل الاجتماعي لا تنتج شيئاً سوى أنها تترك مستخدمي الخلوي والانترنت يتواصلون، بين المتّصِل والمتّصَل به في منصة رقمية، يجني من ريعها أصحابها مبالغ هائلة. هؤلاء أصبحوا أصحاب ثروات هائلة، فيما جنرال الكتريك أزيحت من بورصة نيويورك، وشركة بوينغ تتعثّر وتنقل مركزها بعد سياتل وشيكاغو الى واشنطن لتكون قريبة من وزارة الدفاع وتركّز على الصناعات الدفاعية. الشركات التي تتوسّع وتصل ثروات أصحابها الى مبالغ خيالية هي شركات الخدمات الالكترونية التي تملك منصات التواصل. بين المتّصِل والمتّصَل به يقبع القابض على المنصة والذي يستوفي الريع الذي يولده الكلام أو نقل المعلومات أو ما يشابه ذلك.
المشترك في قطاعات المجتمع السكانية هو الطبقة الدنيا التي تتشكّل منها جحافل الفقراء من بروليتاريا وغيرهم من الكادحين بأجر. في وعي الكادحين انتماءات أخرى غير الطبقة. ليس فقط العشيرة والإثنية لكنهم بالَإضافة الى ذلك لا يعرفون كيف تسلخ منهم فوائض عملهم التي ما عاد يتبقى منها ما يكفي كفاية العيش. يزداد فقرهم ليس فقط بسبب العملية الرأسمالية نفسها والاستغلال في عملية الإنتاج، بل أيضاً بسبب السلع الإضافية التي يتم تبادلها، لكنها تلزم أو لا تلزم. بل هي قد صارت من ضروريات الوجود الاجتماعي. الانتماء للعشيرة أو الإثنية ضروري مثلما هو إقتناء خلوي واستخدامه. كل منهما يكلفه مالاً إضافيا. على المرء أن يقدم التضحيات للعشيرة وأن يبقى على تواصل بهذه الوسيلة الحديثة ولو كان المحتوى تقليدياً، أو دردشة بما لا يلزم أو لا يفيد معنى. كل هذه الأمور تساهم في تشكيل وعيه مثل الطبقة، وربما أقل، وربما أكثر. لكن الانتماء الطبقي الحقيقي قد تراكمت فوقه طبقات من الوعي غير اللازم لنمط الإنتاج ولا أسلوب العمل ولا طرائق الإنتاج. يصير الوعي الطبقي ممزقاً تحت عبء ما يرزح فوقه. عند الكثيرين يتلاشى الوعي الطبقي أو يزاح تماما. يزداد وجودهم بوساً أو إنسلاخاً عن ذاتهم. وتعلو القضايا من خارج حياتهم أصلاً على وجودهم. فقراء الطائفة بتضحياتهم واندفاعاتهم في طوائفهم ووراء أكباشها يدفعون الثمن غالياً، وذلك بأن يزدادوا فقراً. فهل صاروا بفعل الطائفة أو الإثنية أو العشيرة أو العائلة ضد أنفسهم؟ الأرجح هو ذلك.
لو كان في المجتمع طبقة وحسب كان الأمر سهلاً أو طبيعياً أن يكون الانتماء الطبقي صافيا أو معمما أو الوعي به يحتاج الى وعي من نوع آخر. مأزق اليسار الشيوعي، وما شابهه، أن تحليل المجتمع لا يأخذ بالاعتبار إلا الطبقات، وإن كان يرى غيرها فوقها. الأجدر هو الأخذ بالتشكيلات الاجتماعية واستخدامها بالتحليل. التشكيلة تتألف من الطبقة والعناصر الأخرى التي تؤثر في الوعي وتشكله. دون التشكيلة الاجتماعية يبقى التحليل مبتوراً، بالأحرى وحيد الجانب قاصراً عن إدراك المجتمع بغنى العوامل التي تفعل فيه وتحركه. لم يستجب عمال العالم، وليتهم استجابوا، لنداء “يا عمال العالم اتحدوا”، لأن هناك أشياء أخرى في وعيهم تطمس وعيهم الطبقي. لا يستطيع أن يكتب برنامج حزب شيوعي، أو يساري، عالم بعلم الطبقات، بل عالم بعلم المجتمع في تعدديته وكثرة الانتماءات فيه لدى الشخص الواحد. أول ما يواجه الطبقة العاملة هي الحدود الجغرافية المرسومة، بطريقة أو باخرى، وهي أي حدود الدولة. كل دولة لها نظام وأجهزة قمع تحكم وتقمع. تأخذ ولا تعطي. تثقل على المواطن ولا تخفف. الدول تتعاطى فيما بينها بالديبلوماسية، وغالباً ما تقلب هذه الى حروب. هي حرب عندما تحدث بين الدول، وحرب أهلية عندما تحدث داخل الدولة. الذي يقاتلون فيها جميعهم من الطبقة العاملة وأخواتها. هم الضحايا. وما قادهم الى هذا المصير هو القمع. وهو أيضاً وعيهم عندما يعتقدون أنهم يجب أن يقدموا التضحيات فيما يناقض مصلحتهم. يصيرون ضد أنفسهم بسبب التشكيلة الاجتماعية لا بسبب الطبقة. الطبقة تتطلّب منهم البقاء خارج الحرب، والانتماءات الأخرى، جميعها تقريباً، تدفعهم لأن يكونوا ضد أنفسهم، ويزجون أنفسهم في الحرب.
للرأسمالية فنون في استخدام الطبقات الفقيرة ضد نفسها. الاستغلال في مكان العمل، يضاف إليه وجوب العمل بالسخرة في المجالات الأخرى الإثنية والطائفية وأخواتهما. لهذا تتجدد الفيودالية (أو ما يسمى الاقطاع عندنا) في داخل الرأسمالية.
كما أن الطبقة وحدها لا تكفي كأداة لفهم المجتمع، كذلك فإن تعاقب أنماط الإنتاج لا يكفي وحده لفهم تطوّر التاريخ الاجتماعي. أعطتنا الماركسية بكل براعة وذكاء أساساً للتحليل لفهم المجتمع وتطوره. لكن علينا استخدام وسائل إضافية للإحاطة بالمجتمع وفهم آليات عمله.
إن المطلوب لكل حزب شيوعي في بلادنا أن يكون حزب المجتمع، خاصة الفقراء، ليس فقط حزب الطبقة العاملة. فهذا التعبير يعني حصر الحزب نفسه في طبقة ضمرت وتقلصت وتكاد تكون غير موجودة في الغرب الرأسمالي. هذا بالإضافة الى أن النظام بذل جهده لتدمير تنظيماتها النقابية. يبقى الوعي متأسساً على فهم دور العمل في المجتمع ودور الطبقة العاملة مهما ضمرت، لكنه فهم ذي أفق واسع يشمل جميع قطاعات المجتمع. إن النظرية الماركسية حول العمل والقيمة النابعة منه، والقيمة المقتطعة، والربح، والريع، والفائدة، وسيرورة نظام الإنتاج نحو سيطرة المال، وصيروة المال هو القطاع القائد في المجتمع. كل ذلك ما زال صحيحا، لكنه سيكون غير كافٍ ما لم يكن كل برنامج حزبي مؤسس على التطورات اللاحقة بالنظام الاجتماعي والتعقيدات التي تجعل فكفكته أمراً صعباً والصعوبات التي تفسح المجال أمام الانتهازيين والمغفلين للدخول الى الهيكل الماركسي والتلاعب نظريا وعملياً.
ما تغيّر جذرياً هو الرأسمالية التي بدلت واجهتها الايديولوجية من الليبرالية الى النيوليبرالية. لم تعد الرأسمالية تحتاج الى تقديم تنازلات للطبقات الفقيرة وما يسمى “دولة الرفاه”، وخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وزوال المنافسة حول اكتساب الطبقات الدنيا. فكان أن دمرت الطبقة العاملة بقتل قادتها ونقل صناعات كثيرة الى أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث الأيدي العاملة رخيصة، وحيث حكومات الاستبداد جاهزة لقمع الطبقة العاملة وبقية فئات الفقراء الأخرى.