27
Dec
2024
0

التكنولوجيا والهوية

التكنولوجيا علاقة الإنسان بالأشياء؛ الهوية علاقة الإنسان بالآخر البشري. تستند التكنولوجيا على العلم الحديث الذي يُقدّم لنا أسباب ما يحدث ويُعلّل حدوثه، ويُقدّم لنا تفسير ما يحدث في الطبيعة والمجتمع. وتستنند الهوية إلى علاقات البشر بين بعضهم البعض. فهي قبل كل شيء أمر من أمور السياسة. لكن الإنسان يتوهم أن الهوية معطاة وحسب، فلا خيار له فيها.
الهوية تُعرّف صاحبها بالآخر. أصل الكلمة (هوية) هو. وذلك يعود إلى فهم الهوية على أنها علاقة بالآخر. فهي علاقة تزرع بالآخر شيئاً من الذات، وفي الذات شيئاً من الآخر. إذا كانت الهوية أمراً سياسياً فهي تسوية، أو تراكم تسويات، بين الذات والآخر. لا تستطيع الذات أن تكون وجوداً بعيداً عن التأثير والتأثر. هي ما يستدعي أن يكون صاحب الذات، فرداً كان أم جماعة (طائفة، إثنية، مجتمع) هو نفسه وغيره في آن معاً. لا يمكن للذات أن تكون مستقلة دون تأثير خارجي وإلا تحوّلت إلى جماعة مغلقة أو نوع من العبادة.
العلة في الطائفية أنها تميل دائماً إلى تحويل كل طائفة إلى كيان قائم بذاته ولذاته وفي ذاته، كما يقول الفلاسفة؛ وهذا ما يجعل المجتمع في حال انقسام دائم. انقسام لا بدّ أن يتحوّل إلى منافسة ثم إلى حرب أهلية بين الحين والآخر. فالسلم الأهلي في نظام طائفي مغلق، أو شبه مغلق، هو حالة حرب دائمة، وإن كانت متقطعة. النفوس دائمة التوتّر، الخوف من المستقبل يشل المجتمع، والبارانويا تُعطّل الإرادة. في جو من هذا النوع لا يستطيع المجتمع أو أي طائفة من الطوائف صنع المستقبل الذي لا بدّ له في كل حين من إرادة متحررة من الخوف وعلاقة ثقة بالآخر، مهما كان.
تُعنى السياسة بإدارة شؤون المجتمع، ولا تقتصر على التنافس على السلطة، كما هو شائع. وهي لا بدّ أن تُبنى على العلاقات بين الأفراد وتبادل المعلومات بينهم وجميع أنواع المعرفة ـ التي لم تعد عند معظم الناس ـ نتيجة البحث والسؤال. لم يعد المرء يسعى وراء المعرفة أو بالأحرى المعلومة، بل هي تسعى إليه عبر شاشات ووسائل التواصل الاجتماعي التي تُغْرِق العقل البشري بتدفق المعلومات التي منها ما هو صحيح ومنها ما هو كاذب. وقد صارت المعلومة الكاذبة جزءاً أساسياً مما يدخل عقل الإنسان ويُشكّل الوعي لديه. لم يعد البحث عن الحقيقة طريقاً للمعرفة، بل صارت تصل إلى الإنسان وتتدفق إليه مُذرّرة، أي جملة من المعلومات المُفكّكة وغير المترابطة. لم تعد هناك قدرة على الربط بين المعلومات لدى دماغ غارق في كل ما يرد إليه. هي حرب على الوعي وفي نفس الوعي حرب على الهوية التي في النهاية يتشكّل منها الوعي.


يُفترض بالتكنولوجيا أن تزيد قدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة والبيئة. فهي قدرة استخدام العلم لإعادة ترتيب الأشياء وما يتاح للإنسان من الطبيعة لإنتاج أشياء مفيدة، لكن التكنولوجيا، بخاصة ما يتعلّق منها بالمعلومات تُسيطر على الإنسان، وتُعيد تشكيل وعيه. تُعيد تشكيله بما يتناسب مع متطلبات من بيده المعلومات، وما يُبثُ بين الفرد والآخر جزء قليل مما تبثه منصات التواصل الاجتماعي للناس جميعاً. أما ما اعتبره الكثيرون عصر تقدم تكنولوجي يؤدي إلى سيطرة الإنسان على الطبيعة، فإنه يُصبح تقدماً مؤدياً إلى سيطرة الإنسان على الإنسان. سيطرة القلة من ذوي المنصات المعدودة على الكثرة من العامة الذين يتلقون الوعي، ويتحوّل الإنسان من فاعل إلى مجرد متلقٍ، ومن قادرٍ إلى مقدورعليه؛ بالأحرى السعي لاكتساب القدرة وتحقيق المطالب يتحوّل إلى استسلام لما يُراد للإنسان أن يكون عليه.
لم تعد التكنولوجيا وسيلة للسيطرة على الطبيعة بل للسيطرة على الإنسان، وما عاد العلم الذي هو أصل التكنولوجيا أداة بيد الإنسان في مواجهة الطبيعة بل أداة بيد القلة للسيطرة على الأكثرية.
هوية الفرد يُحدّدها الآخر لكنه ليس الآخر المساوي بل الآخر المتفوّق، وما عاد هناك مجال للتفاوض بين أطراف على شيء من التساوي، بل هيمنة يفرض أصحابها ما يشاؤون، وتُلغى السياسة وإمكانيات التسوية وتراكم التسويات. عبوديةٌ من نوع جديد لا تستدعي أن يملك الواحد الآخر، كما في الماضي، بل تتجسّد هيمنة لا فكاك منها، إذ ليس هناك كثيرون لا يحملون الآلة الذكية أو لا يحلمون بملكيتها. تزداد الهوة بالمعلومات والمال بين القلة والكثرة، وتزداد معها السيطرة. ومن الطبيعي أن تكون الغلبة للقلة التي تملك على الأكثرية التي لا تملك أو تملك القليل، مع التذكير أن ملكية المال والمعلومات وجهان لعملة واحدة.
لا تسأل الهوية عن سبب أو أسباب الوجود، كما لا تسأل التكنولوجيا عن أسباب ما يصنع؛ في هذه وتلك يختفي السؤال وينخفض مستوى الذكاء. تتسطّح الهوية كما تُسطّح التكنولوجيا العلم، وتختفي السياسة. العلاقة بواسطة التكنولوجيا بين الإنسان والآخر هي ما يُملى على الذات والآخر لا بما ينبع من ضمير الذات والآخر. يضمر الضمير وتضمر معه الأخلاق، وتصير الهوية نوعاً من الأصولية التي تعتمد الانتماء لا السؤال والتفاوض بين الذات والآخر. تتسطح الذات ومعها الهوية، وينعدم السؤال، ويصير كل منهما مجرد انتماء من دون سؤال. المعرفة الحقيقية تُصنع بالشك والسؤال؛ وعندما يصير كل شيء مُعطى، يكون مصير الإنسان أن يُصبح أداة للمنصة أو لزعيم الطائفة وأكباشها.
المعرفة لا تتأتى إلا من معرفة تاريخ الأشياء والإنسان، من سؤال الـ”لماذا” لا الاكتفاء بجواب معطى لـ”كيف”.


مع سقوط الاتحاد السوفياتي، ولا حزن على سقوطه، صارت الرأسمالية معطى وكأنها طبيعة البشر وعلاقتهم بالأشياء، وازدهرت النيوليبرالية. كانت الليبرالية تسأل عندما كانت مضطرة إلى مواجهة الشيوعية. لم يعد الأمر كذلك. إذ جرى التحوّل الكبير في أواخر القرن العشرين إلى النيوليبرالية والخصخصة وحرية تصرّف القلة بالكثرة، والرأسماليين بالعامة. كان ذلك وجهاً آخرَ لسيطرة التكنولوجيا على الهوية. وصارت التكنولوجيا مصنعاً للهويات التي تُشن الحروب على أساسها، وهي في معظمها قاتلة، إذ تصدر عنها الحروب الأهلية؛ وتزعزع أمر الدولة إذا أفلت من يدها المواطن الذي صار أداة بيد المنصات لا فاعلاً تتشكّل منه الدولة وتخضع له السلطة.. حرية المعتقد هي الانفلات لارتكاب ما لا يسمح به القانون. يتمكّن المعتقد من الإنسان وتنقطع الذات عن التفاوض مع الآخر، إذ تنحصر المواجهة بين الفرد والآلة الذكية وبقية الشاشات، ويتحوّل التواصل الاجتماعي إلى انفصال اجتماعي، إذ تصير الذات حبيسة نفسها.
تختفي الحقيقة الواقعية وراء الحقيقة الافتراضية. فالمعتقد أساس النظرية عند الإنسان الذي لا بدّ وأن يفرض حقيقته على الآخر عندما لا تعود الحقيقة موضع تفاوض، ولا العلاقة بين الذات والآخر موضوع السياسة.
انتصرت التكنولوجيا على العلم وشكّلت الهوية، وكلُ ذلك مؤداه انتصار اليمين على اليسار، والتلقي على المبادرة، والجواب المعطى على السؤال المشكك، واليقين على الظن. لم يعد اليقين غلبة الظن كما كان يقول الفقهاء. صار اليقين مصدر الفعل والأصولية ملاذ العقل. أما النفوس المُعذبة المحرومة من أشياء الكون، فتصبح متلطية وراء المعتقد، والعقيدة تُغذيها وسائل “التواصل الاجتماعي”، وما هو مفترض هو ما يُفرَض. لم يكن الإنسان أداة لغيره كما هو في هذا الزمن. ألا يتشبث الكل بالدولار، وهو حقيقة افتراضية لا تُعبّر عن اقتصاد من يطبعه، بل تحميه القوة العسكرية لمن يتولى إصداره. ثم يحاول الغير مواجهة الدولار وابتداع عملة أخرى لكن دون طائل إلى أن ظهرت عملة “البيتكوين” التي لا يفهمها إلا قلة ممن يتلاعبون بها.
سيطرت التكنولوجيا على الهوية، إذ صارت الأولوية للمعطى والمفترض المفروض على الذات المتلقية التي لا فكاك لها عما تتلقاه، ويستسلم البشري لها ظناً منه أنّها هوية يختارها هو في علاقته مع الآخر. إذ تصير مفروضة عليه ممن بيده أو بيدهم الأمر.

Leave a Reply