الحرية ١٠ – الفقر والضرورة
تصطدم الحرية بالضرورة. هذه قيد على الحرية. بالمعرفة، بالوعي، نتجاوز الضرورات. أهم الضرورات التي تفرض نفسها علينا هو الفقر. كاد الفقر أن يكون كفراً. يعرف الجميع من قال ذلك. الفقر هو العائق الأساسي في وجه الحرية. ليس في الفقر قلق فكري. لا يستطيع الفقراء التمتع بهذا الترف الفكري. هم بالأساس على قيد الحياة في نظام عالمي نيوليبرالي يسمح لهم بأجور تقل عن متطلبات الحرية الكريمة. يعطيهم النظام ما لا يكاد يكفي للتناسل والحفاظ على عائلة تعيش على حافة الموت. القلق يكاد يتحول الى استسلام كامل للنظام؛ لا التمرد عليه.
الفقر لا يحدث لأن ناساً اشتغلوا فتراكمت الثروات بأيديهم، وآخرون لم يعملوا فينتابهم الفقر. الفقر ينتج عن الإفقار. وهذا الإفقار هو السياسة للرأسمالية الكبرى. يتبعها القمع إن حاول الفقراء التخلص من حالتهم. سياسة الإفقار تستدعي إفقار معظم البشرية، الطبقات الدنيا والطبقات الوسطى. ألا نرى أوضاع هذه الطبقة الوسطى تتراجع مع صعود النيوليبرالية؟
تصطدم الحرية أيضاً بالمعوقات الايديولوجية التي يفرضها المجتمع. للمجتمع سلطة يمكنه أن يفرضها على الفرد. هي قيود وتعليمات على الفرد أن يطبقها وإلا استثني من المجتمع. يُعزل المرء، وتتجنبه الجماعة، وربما تحاربه وأكثر. يساهم رجال الدين مساهمة كبرى في ذلك.
الأساس في كل ذلك هو سياسة الإفقار التي تمارسها الطبقة العليا. تضغط على العامل ظروف اقتصادية هائلة. تؤدي صعوبتها الى انعدام التفكير إلا بموضوع واحد هو الاستمرارية والبقاء على قيد الحياة. الذي يعمل بأجر يعيش تحت الانطباع الدائم بأنه سوف يطرد من عمله. يقضي وقته في العمل وفي اتباع تعاليم رب العمل. يعيش حياة مستلبة بالكامل. ليس الجهل هو ما يؤدي به الى الخوف من التسييس والانخراط في المجال العام وإبداء الرأي. بل هو الخوف من الاجراءات بحقه التي يمكن أن ترمي به الى الشارع وتجعله دون مصدر العيش. هو وأسرته يملأهما الخوف ويؤدي به الى كره رب عمله الحالي والمرتقب؛ بل كل دخيل يمكن أن ينافسه ولو كان وهمياً. في ظروف الأزمات الاقتصادية يؤدي ذلك الى صعود الأصولية الدينية والفاشية. هما وجهان لعملة واحدة. يعيشان على أسوأ ما أنتجه المجتمع من قوى سياسية واجتماعية وايديولوجية. هم حشرات تتكاثر مثلما تتكاثر الحشرات في المزابل والمراحيض.
لا حاجة بنا الى تكرار الحديث حول طبيعة النظام الراسمالي العالمي والى الحديث كيف تحولت جحافل من العاملين يشكلون أكثر من نصف البشرية الى قوى عاملة دون عمل أو قوى عاملة تعمل بالحد الأدنى الذي لا يكفي لسد الرمق. يعيش هؤلاء حالة قلق دائم حقيقي على وجودهم كبشر. هم فقراء يُدفعون الى مزيد من الفقر. حالتهم النفسية لا تسمح لهم بالتفكير وفهم نظام العالم. لا يرون إلا الخطر المباشر، وهو الدخيل أو المهاجر المختلف بلون بشرته. تصعد الفاشية والأصولية أكثر ما تصعد وتنتشر بين هؤلاء الذين كانوا رفاق الطريق، طريق الفقر، وصاروا أعداء لدودين. بالطبع، عمال الغرب يرون أنفسهم ذوي رواتب أعلى مما في أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، فيرون أنفسهم محظوظين (نسبياً)، ويرون في أنفسهم تميزاً. فيعتمدون عنصرية الاستعلاء على أبناء طبقتهم من بلاد أخرى فقيرة. تعمل الرأسمالية الكبرى على إفقار هؤلاء كأفراد ومجتمعات بكاملها، وجعل دولها ترزح تحت الديون. أصبح الديْن الخاص والعام وسيلة لجني المكاسب للمصارف والطبقة العليا، لا الربح الناتج من عملية الإنتاج الصناعي وحده. الرأسمال المالي صار يقود الرأسمال الصناعي ويدفع به الى مزيد من ممارسة الاستغلال لضبط الطبقات العاملة والفقيرة في كل أنحاء العالم: الفقر المدقع في بلدان العالم، والفقر المميز قليلاً في بلدان الغرب الصناعي. عمال العالم الذي كان ثالثاً والذي صار عاشراً يحالون الى القمع والقسر والانضباط لدى دولهم. وعلى الرغم من نيلها الاستقلال لكنها ما زالت تحت التبعية للدول الصناعية المتقدمة؛ يدير كل هؤلاء الرأسمال المالي. أما عمال الدول المتقدمة، فينعمون ببعض الامتيازات والفروقات بينهم وبين زملائهم في بقية العالم. هؤلاء ربما تلقوا ما يكفي للعيش والتمتع بالحرية. لكن ضبطهم يكون عن طريق الخوف من المهاجرين والارهابيين. المهاجرون آتون لأخذ أمكنتهم والحلول مكانهم في العمل. والإرهابيون جاهزون لأعمال عنف تطالهم. المهم أن يبقى الخوف ملاحقاً لهم. لا بدّ وأن مخابرات أنظمة العالم المتقدم تعرف سفن هؤلاء المهاجرين وخلايا هؤلاء الإرهابيين. لكنها لا تفعل الكثير حيالهم. بقاء حركتهم ضرورية لزرع الخوف لدى الطبقات الدنيا. ولا بأس بصعود الفاشية والعنصريات الإثنية وما شابهها. لا شيء كالخوف يضبط أصحابه. النيوليبرالية تلعب بالسيكولوجيا الجماعية لجماهيرها. وهؤلاء تم ضبطهم وتكييفهم ليتلاءموا مع نظام الرأسمال المالي القديم الجديد. تختلف الوسائل والمؤدى واحد. الهدف واحد. مزيد من الإفقار في شتى أنحاء العالم.
تفيدهم الأصولية الدينية في أن هذا النظام أراده الله؛ كل في موقعه. في الموقع الذي يستحقه. ليس الفقير كذلك إذا لم تكن إرادة الله تريده على هذه الحال. ليس عند الأصوليات الدينية والسلفية برنامجاً سوى إقامة العلاقة الضرورية مع السماء لدى الفقراء، علّ هؤلاء يقبلون بما هم عليه على أن يكون جزاؤهم المغري في السماء عند الخلاص. عليهم تبرير الرأسمالية بظلمها واستغلالها وتوحشها. وهذا ما يفعلون.
تتكامل عدة الشغل مع الجمعيات الخيرية، ومنظمات الأمم المتحدة الإغاثية، ومنظمات المجتمع المدني، والمنظمات غير الحكومية، والقروض الصغيرة الميسرة للفقراء، وغيرها. لا يجب أن يغيّر كل ذلك صورة النظام العالمي والمحلي أو حصيلة هذا النظام.
تحويل معظم الناس الى عمال بأجر في مختلف قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات يؤدي عملياً الى سلخهم عن وسائل العمل، والى جعل حياتهم تعتمد كلياً في مصيرها على رب العمل. هو خلق ما لا بد منه من أجل العامل كي يبقى: خلق الضرورة التي تفرض نفسها على كل الناس. صحيح أن العامل المأجور يدخل في علاقة تعاقدية مع رب العمل لكن الضرورة هي التي تؤدي بأحد طرفي العقد، العامل، الى الموافقة. له الحرية أن يوافق أو لا يوافق، كما له حرية الموت جوعاً أو عدم الموت. الأكثر من ذلك، يتحول العمل الى سلعة، والعامل الى ما يشبه العبد. رق من نوع جديد. لكل نظام اجتماعي عبيده، وهم الكثرة الغالبة من الناس.
إنتاج الفقر ضرورة للرأسماليين. خلق جيش من العاطلين عن العمل من أجل خلق التنافس بين العاملين المرتقبين لإبقاء الأجور متدنية. خلق ضرورات جديدة لدى الطبقات العليا. تذوي الحرية عندهم. عبودية المال مقابل عبودية العمل. عبودية الرأسمال للمال لأن هدفهم الوحيد، والقيمة الأخلاقية، أو غير الأخلاقية، الوحيدة عندهم هي المال. يفقدون ملكة الأخلاق لقاء الربح من أجل التراكم المالي. عبودية الفقراء وهم أكثرية للضرورة. يعيشون على حافة الهاوية، وأحياناً كثيرة في قعر هاوية الفقر المدقع، أو الفقر المطلق، فيصير البحث عن المال القليل ليقتاتون به وحسب أمنيتهم الوحيدة. السعي وراء المال هو العبادة الأساسية لإله هو المال بطرق مختلفة عند الفقراء وعند الأغنياء. الجائع لا يلام إذا فقد عقله وسويته عندما يتألم وهو يخضع لضرورات الفقر المدقع، ومعظم البشرية يعيشون في أكواخ وأحوال رديئة دون الحد الأدنى لما تتطلبه الإنسانية أو ما يسمى الحد الأدنى من الحاجات.
يؤدي انتاج الفقر الى إضعاف القدرة على التفكير، بما في ذلك إدراك المصلحة المادية. يستغل ذلك النظام الرأسمالي ببث الرعب من الآخر الأصولي الإرهابي؛ تنتشر الفاشية بين الشعوب المتقدمة. ينشدّ الناس فيها الى قادتهم الفاشيين. تنجح النيوليبرالية في تقديم شعوبها على مذبح الرأسمال الكبير عن طريق التخويف والإرهاب. يختار الإعلام من بين الجرائم ما يسميه إرهاباً. لا بد من وجوده لدى الذين يختلف لون بشرته أو أصلهم الإثني. إرهاب تصطنعه السلطة يصير مقابله عند الفقراء خوف يدفعهم الى الاصطفاف وراء زعمائهم. يفقدون سويتهم العقلية. تتراجع أدمغتهم. تصير الحرية بعيدة المنال. إلغاء التفكير هو إلغاء للحرية في آن معا.
أداة تحليل النظام العالمي، بفاشيته وأصوليته وطغيانهما، والنيوليبرالية، هي ما زالت التحليل الطبقي. إنتاج فائض القيمة، اقتطاع الفائض عالمياً بالقهر والقسر والإكراه، إنتاج الفقر، إنتاج الإرهاب، والتطرف الديني، والمذاهب المسيحية والإسلامية والبوذية والكونفوشيوسية والهندوسية (وبقية الأديان). عالم مدمج أكثر مما نظن. العالم في أقاصي أسيا يعلم، أو ربما لا يعلم، ان صاحب المؤسسة التي يعمل فيها هي على الجانب الثاني من الكرة الأرضية، وأن فائض الإنتاج والأرباح الناتجة عنه سوف تنتقل الى هناك، أو الى أي مكان آخر على الكرة الأرضية وسكانها. النفط مازال مفيداً. سكان مناطقه يجب أن يعيشوا ايديولوجيا البداوة. وما نشأ في المنطقة العربية من دول يجب أن تنهار، من الداخل والخارج، ان لم نقل يجب أن يباد سكانها. أما بقية سكان المعمورة، التي لن تبقى معمورة، فقد خضعوا للنظام العالمي. العرب لم يخضعوا لذلك يتعرضون لما يتعرضون له. ويحاربون بعضهم البعض. بأيديهم يزيلون الدين الذي نعرفه ومعالم بلدانهم. ويشيدون دينا جديداً. بلاد بأكملها تدان. مياه أنهارها الكبرى تسرق وتنهب. إنتاجها يتراجع. ايديولوجية شعوبها قائمة على الربح السريع، أو ما تبقى لهم من نفايات المال المنهوب. دينهم مذهب نفايات المال المنهوب. عروبتهم في مهب الريح. النخب الثقافية باعت نفسها. الأحرار من النخبة معزولون، كالأيتام على مائدة اللئام. تتعرّض الأمة للإبادة بينما تناقش النخب ثورية هذا النظام الاستبدادي أو ذاك. يبحثون في السياسة الدولية: مخططات الدول الكبرى، أميركا روسيا، والدول الإقليمية، ولا يبحثون النقطة الوحيدة التي تستحق أن تكون على جدول الأعمال، وهي حرب الإبادة التي تشن ضد الأمة العربية. ثورات جديدة (السودان، الجزائر) ولا يرف جفن النخب العربية. عيونهم لا ترى إلا نفطاً تعيش على فتاته الكتّاب الأحرار. جميعهم مهجرون أو مهاجرون، منفيون أو سجناء. ما تبقى من النخب لا تنصت لمطالب الجماهير. لا تعتبر تحركاتها ثورات مهما بلغت الملايين في الشارع. الناس بنظرهم جهلة تحركهم وسائل الاتصال الاجتماعي التي يسيطر عليها الغرب.
هناك جهل بالحرية. وعداء لها. لكن هناك توقاً للحرية وسعي لها. هذا التوق هو جوهر الثورات العربية. الدين والأصولية يرفضان الحرية، لكن لا أحد يستطيع البرهان على غياب التوق للحرية. قلة من المعنيين بالأمر والمثقفين يهتم لأمر الجماهير. الدهماء طبيعتها أن تكون بلا عقل؛ لا تستحق إلا الدين والإيمان. الرأسمالية المالية هي العقل الوحيد. العقل الذي يستحق التأييد. هو طبيعة البشرية. من ينكر الطبيعة ينكر الرأسمالية. الطغيان العربي جزء من الحداثة لأننا نظن أنه مع الحداثة وعلى النقيض من الدين. لا يعتبرون أن الحداثة موجودة وهي هذا الطغيان ونتائجه وهذه الأصولية ومفاعيلها. الحداثة الظاهرة هي ما يزعمون أو يتوهمون أنهم يريدون. لا يدركون أن الفقر الذي تعانيه هذه الجماهير هو جزء ضروري من الحداثة. لولاها لا حداثة ولا رأسمالية. لا حداثة بدون رأسمالية. معظمهم مع الحداثة وضد الرأسمالية. كله كذب على النفس وعلى الناس.
الحسنة الوحيدة عند الرأسمالية أنها تولد نقيضها. تحرر الناس من الأرض. يهجّرون الى المدينة من الريف. يتكدسون في مدن كبرى كالماشية. يفقدون تراثهم الذي جرى تدميره على يد الحداثة. لا يبقى لديهم شيئ يرتكزون إليه. يخترعون أصولية. ديناً من نوع جديد. تدان الأصولية. معنى ذلك إدانة الناس. دورة جهنمية غلافها الفقر. محتواها الحرية أو التوق نحو الحرية. إن هواء المدينة يجعل المرء حراً. جماهير فقيرة معدمة المال والعلم تستحق الاحتقار بنظرهم. مناضلو الأمة والعالم يريدون الجحافل نقابات يسهل السيطرة عليها. لم يتعلموا النضال إلا بكفوف بيضاء. لم يتعلموا التفكير إلا بمعادلات منظّمة. عالم لا يفهمونه، إذن لا يستحق الاعتبار. جماهير هذا العالم لا تستحق إلا الاحتقار لجهلها وقذارتها، بل لفقرها المدقع. كما الرأسمالية طبيعة الكون، الفقر والجهل طبيعة الناس العاديين، العامة الدهماء. ينتهي التحليل بأن تدين هؤلاء. عنواين الإدانة التكفير والهجرة. أصوليات يجب الخوف منها. محللون عندنا هم الصدى لفاشية الغرب، كما الحداثة عندنا صدى لحداثة الغرب. الرأسمالية المالية الكبرى تروّض البشرية كما تريد. تلعب بالبشر كما تلعب بالطبيعة. هي تلعب بالنار. نهاية البشرية تقترب: أموال كثيرة لدى القلة، أصولية شرسة وفاشية لدى الكثرة الغالبة. تحاصر الرأسمالية نفسها بالصراعات فيما بينها . أميركا والصين في حرب تجارية أو ما يشبهها، أوروبا تحاول الوساطة، روسيا ذيل لأوروبا، دول المنطقة الكبرى ذيل لكل هؤلاء. يتجمع حول الذيل ما يشبه قراد الخيل.
إن لم تفجر العالم الرأسمالية الكبرى، سيفجّر هذه الرأسمالية توق الحرية لدى الجماهير. لا يبدو شيء من ذلك ظاهراً. الظاهر الوحيد الأساسي هو انتصار الرأسمالية بأبشع أشكالها.
الثقافة العالمية التي غزت العالم هي ثقافة الغرب. ثقافتنا الراهنة غربية، شئنا أم أبينا. الاستقطاب في العالم هو بين الرأسمالية الكبرى وجماهير الفقراء. هؤلاء حالة من الحرية، الحرية الداخلية، التي لا تستطيع القبول بهذا العالم. لذلك يجب تعديل ثنائية الرأسمالية وإنتاج الفقر، الى ثنائية الرأسمالية وعدوها الحرية، وهي العدو الأساسي لها.
يصدّر إلينا الغرب نوعاً من الحرية الفردية المتعلقة بالتحرر من البدلة الى لبس الجينز والتي شيرت، الى جانب الحرية الجنسية. مع أخذ ذلك بالاعتبار والإجلال، الحرية الحقيقية هي في قلب نظام العالم الرأسمالي. لا ندري كيف يأتينا الجواب. في الأساس لا ندري كيف تطوّر هذا النظام ولا نعرف نتائجه لذلك فاليسار، يسارنا على الهامش. هامش الفهم. ما قيل عن فهم ملموس لدافع ملموس لم يعد وارداً. فهم النخب المالية يلامس الواقع الملموس. الواقع الملموس عندهم هو وحده بعض أنظمة الطغيان وتأييدهم لها باسم الحداثة. أما الحرية الكامنة والظاهرة لدى جحافل الفقراء فهي مما ليس يستحق الاعتبار. هؤلاء بنظرهم متدينون ومهاجرون. صار اليسار صدى للغرب الرأسمالي.
يكرهون الإرهاب، ولا يقرون، أو لا يعرفون، أن الإرهاب في الأساس، وما زال، هو إرهاب الدولة. الإرهاب الذي تمارسه الدولة. داعش حصيلة هذه الأنظمة لكن كل نظام مخابرات هو الإرهاب بعينه. إرهاب جماهير الفقراء، ان حصل، وهو لا يحصل إلا في ظروف نادرة هو التوق الى الحرية.
ليست الحريات السياسية، حتى ولو نعم بها الجميع، هي ما سوف يحرر العالم. هي الحرية الدفينة في قلوب الفقراء الجهلة الأجلاف. تتكاثر المدن ويكثر سكانها. صاروا نسبة عالية من البشرية. هم نكرات في المدينة. بالتعريف ما يجعل المرء ابن المدينة هو أن يصير نكرة فرداً مقطوعاً من كل العلاقات الاجتماعية الأولية (العشيرة، القبيلة، الإثنية الطائفة، المذهب، وحتى الدين، الخ…). ناضلت البشرية طويلاً من أجل الحريات السياسية، وعن حق. الحريات داخل النفس، والحريات الاجتماعية والروحية بقيت دون متناول الناس رغم الثورة الروسية، وربما بسببها. الانفجار الكبير ليس عندما تعي الطبقات الدنيا مصالحها. هناك شك في أنها لا تعي ذلك. الانفجار الكبير هو عند بلوغ هذه الطبقات الجماهير مرحلة لا تطيق فيها النظام ولا تطيق نفسها. ربما كانت الحريات السياسية إطاراً لذلك. لكن الانفجار الكبير، انفجار الروح، سوف يحدث. عندها يتأكد الجميع أن النظام من ورق سوف يتهاوي.