الحرية ١٢ – العمل والضرورة والتحرر
ضرورة العمل تؤدي الى متناقضتين. هو من ناحية ضروري لتأمين المنتجات الضرورية لبقاء الانسان. وهو من ناحية أخرى الوسيلة الضرورية لاستغلال قوة عمل الانسان واستعباده. فقراء القوم في العالم الذين يعملون بشكل منتظم لا يكادون يسدون الرمق في تلبية حاجاتهم بسبب تدني الأجور. العمل ضروري لهم كي ينالوا أجورهم الأسبوعية أو الشهرية أو اليومية. يظنون بأنهم غير الأقنان والعبيد عندما يوقعون عقود العمل بحرية لدى الطبقة العليا، صاحبة رأس المال. لكنهم هم في الحقيقة يوقعون عقود إذعان إذ لا خيار لهم دون القول بالشروط التي يفرضها رأس المال. أقصى ما فعلته الرأسمالية من تنازل للطبقة العاملة هو أنها زودتها بالأوهام، مزيد من الأوهام حول حريتها، وحول عقود العمل التي تبدو وكأنها متساوية الشروط بين الطرفين. الرأسمال والعاملين؛ وفي الحقيقة، يقبض الرأسمال على كل السلطة. فالعقود تعكس ميزان القوى بين الرأسمال الذي يحرّك البشرية، والطبقة العاملة المشتتة والمدمرة تنظيماتها حول العالم؛ الرأسمال يحقق الانتصارات، والطبقة العاملة تنوء تحت أثقال الهزيمة والتراجع. في مرحلة ما قبل النيوليبرالية، أي مرحلة الليبرالية التي تلت الحرب العالمية الثانية، حتى أواخر السبعينات، فقدت الطبقة العاملة قوة نقاباتها وقدرتها على التفاوض وتحقيق مزيد من المكاسب. وجدت الرأسمالية الغربية خزاناً بشرياً هائلاً في أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، فصدرت صناعاتها إليها. تمارس دول هذه المناطق سياسة ضبط الأجور بالقمع والقسر والإكراه. تحقق بعض التقدم، وأحياناً تقدماً كبيراً. لكنه يكون دائماً على حساب الأكثرية من شعوبها التي تعيش على حافة الفقر.
لا تعرف البورجوازية، بل لا تريد التحليل على أساس طبقي بل على أساس كوربوراتي (كل مجتمع كامل متحد موحد خاضع لحكامه). هي ليست فقط تتعاون مع حكام بلدان العالم الطغاة لإحالة الصناعة إليهم وتحقيق أرباح أعلى، هي أيضاً توهم الإنسان (كل البشرية) أنها بالعمل تسيطر على الطبيعة. مهمة العمل تحويل خام الطبيعة الى أشكال يمكن الانتفاع منها، من أجل بيعها في سوق التبادل وجني الأرباح. ما يوهم بأنه سيطرة على الطبيعة هو سيطرة الرأسمال على الطبيعة (إن حصل) وهذه السيطرة بما تؤدي إليه من انبعاثات حرارية وتغيّرات مناخية ربما أدت الى نهاية الطبيعة والإنسان كما تعرفهما؛ بعض العلماء يقولون أن البشرية اقتربت من نهايتها. ربما كانوا على حق. الطبقة العاملة وبقية العاملين من البشرية يحفرون قبورهم بيدهم. هذه هي النهاية القصوى لليبرالية التي أورثتنا الشكل الجديد الذي يندرج تحت عنوان النيوليبرالية، التي ليس مهما في نظرها، إلا ما تسعى إليه، وهو تحقيق قانون الربح ولو أدى ذلك الى تدمير البيئة والإنسان الذي يعيش فيها. ضعف الطبقة العاملة أدى بالرأسمالية الكبرى الى رعونة غير مسبوقة، يعلو تصفيق المهرجين الذين تنتدبهم بورصة نيويورك، في الساعة الخامسة مساء بتوقيت نيويورك، والفرح على وجوههم، بينما غابات البرازيل وأندونيسيا تحترق. سيكون هناك بعد الحريق المزيد من الأراضي للتطوير العقاري والزراعة وتربية الماشية. تسير الرأسمالية الكبرى من انتصار الى آخر مع تدمير الطبيعة، ولا يوجد من يردعها. رأسمالية تنتفخ ذاتها كلما زاد ما تراكمه من ثروات على حساب الطبيعة والنوع البشري. هل هي عاصفة ما قبل الفناء؟
العمل ينتج ما يحتاجه الإنسان، لكنه لا يحدث إلا بعلاقات اجتماعية. علاقة السادة بالطبقة العاملة، وعلاقة الطبقة العاملة فيما بينها. بينما تفقد الطبقة العاملة حول العالم القدرة بسبب التدمير المبرمج لمنظماتها النقابية وأحزابها، وتزداد سيطرة الرأسمالية الكبرى على العمال حول العالم. العمل في النظام الرأسمالي هو حملة علاقات اجتماعية. تقسيم العمل هو تقسيم العبودية. عبودية من نوعية جديدة. يحق لك أن تعمل. حسب القانون حق العمل مكفول. لكن حق البطالة مكفول أيضاً. أنت تعمل وتتقاضى أجراً، لكنك تعيش على حافة الهاوية. في أي يوم يمكن الاستغناء عنك، وجحافل العاطلين عن العمل تنتظر لتأخذ مكانك. انتصار الرأسمال الكبير انتصاراً مدوياً يعني حرباً أهلية داخل الطبقة العاملة. لم تعد المسألة تناقضاً بين العمال والبورجوازية الكبرى، وهذا تناقض فعلي وأساسي، بل تناقض بين العمال أنفسهم. وهذا مفتعل ومبرمج. طغاة العالم الثالث الذين يقمعون عمالهم موجودون في أماكنهم لتأمين ديمومة هذا التناقض.
“البركة في السعي والحركة” عنوان كتاب أحد فقهاء المسلمين من القرون الماضية السحيقة. العمل ضروري حقاً ومبارك. ما يحدث لدى الطبقات البورجوازية في العالم هو أنهم موحدون. ينم عن ذلك مؤتمر دافوس السنوي لكبار الرأسماليين. منظمة التجارة الدولية التي كانت راية العولمة على مدى سنين طويلة منذ الحرب العالمية الثانية، والتي اعتبرت انجازا رأسماليا كبيرا لتحقيق حرية التجارة العالمية، لم تعد تعجب ترامب ومن يدعمه من كبار الرأسماليين. صارت الرأسمالية المالية تدير العالم من دافوس وعن طريق استخدام الشعوب بتطلعاتها القومية والإثنية والأصولية والانفصالية والعنصرية ومكافحة الإرهاب ومكافحة الفساد. الرأسمالية الكبرى حول العالم تتحد، والشعوب الفقيرة تزداد فقراً بينما تطلعاتها وآمالها ورؤاها للمستقبل لا تتعدى المصالح المباشرة، مادية أو أصولية دينية، أو أصولية قومية. تتناحر فيما بينها. تخوض حروباً أهلية. تضعف الدول التي لديها. الدولة في الغرب المتقدم تزداد تماسكاً وقوة مع تفكك مجتمعاتها ومجتمعات العالم. عيد البورجوازية الكبرى دائم. بورصة نيويورك تزداد الأرباح فيها بأرقام غير مسبوقة، والرساميل الكبرى تهرب الى جنات الضرائب في العالم. الطبقة المتوسطة، التي تتلاشى، وفقراء العالم، هم وحدهم الذين يدفعون الضرائب لتأخذها دولهم ودول العالم المتقدم لتمويل الإرهاب ضد المجتمعات. تحفر الشعوب قبورها بيدها.
بالعمل تكون التجربة. من التجربة تصعد المعرفة. بالمعرفة يصير المرء حراً. الحرية التي تنبع من الداخل. مركزها الضمير. لا يستطيع طاغية أو مستبد نزعها من الفرد ولا من الجماعة. المعرفة التي تتكوّن بالتجربة والخطأ وتراكم المعرفة بإزالة الخطأ. تتراكم المعرفة بالشك والتساؤل والقبول والإنكار والتمرد على أشكالها الموروثة. التمرد المعرفي هو الأساس في التمرد على أنظمة الاستبداد. هذا في أساس العلم الحديث، والعلم المادي الإنساني. معرفة لا تنطلق من مسلمات وبديهيات. بل تحاول تدميرها، بعد أن أقامها وأنشأها العلم السابق. العلم يحدث بتطوّر البنى والنماذج. البحث العلمي يدفع الى هذا التطوّر. البحث لا يقتصر على التلقين في المدارس والجامعات. عندنا مدارس وجامعات كثيرة. تدهوّر التعليم لأننا نفتقر الى مراكز البحث. أنظمة الطغيان عندنا تكره مراكز البحوث وتمنعها، وخاصة في العلوم الإنسانية. تريد من الطالب أن يكون مجرّد متلقّن. يتلقون العلم وكأنه نظريات مقدسة. يصير التعليم المعرفي مثل التعليم الديني. يُستقى من مبادىء محدودة. المبادىء تقررها السلطة. السلطة المعرفية والسلطة السياسية واحدة. الثانية تملي على الأولى.
يتعلق العمل بالإنتاج، المادي والمعرفي. في هذا العصر يستحيل على مجتمع لا ينتج معرفة كيف ينتج حاجياته المادية. العمل سعي. السعي اجتهاد. الاجتهاد بذل الجهد في كل مجال. مجتمعاتنا متأخرة متخلفة ليس فقط لأن الاستعمار نهبها ودمر بناها الاقتصادية. نحن مسؤولون لأننا لا نبذل الجهد ولا نعمل بكد. هناك مجتمعات كانت مهزومة ومتأخرة مثلنا منذ عقود. تقدمت بفعل العمل والجهد والكسب. تكتسب البشرية حريتها بالعمل والجهد. بالعمل يصير الفرد منتجاً. يتشكّل المجتمع المنتج من أفراد منتجين، حتى ولو كان فيه رأسمالية متوحشة.
العمل أو السعي ليس إضافة للإنسان، هو جزء من كيانه، ومن ذاته، ومن حريته. لا يقعد عن العمل إلا من قُيدت حريته، أو فقد شعلة الحرية في نفسه. الحال الطبيعية للإنسان هي العمل: الشغل، والإنتاج، والسعي المادي والمعنوي. النظام الاجتماعي-السياسي هو ما يحوّل العمل الى عبء. قلة من البشر، ربما 5% أو أقل، هم السعداء بوظائف العمل لديهم. الأكثرية الساحقة من الناس يكرهون عملهم. ليس لأن الرجل (أو المرأة) المناسب في غير المكان المناسب، بل لأن النظام الاجتماعي الاقتصادي يبتعد بالناس عن السعادة ويزرع الحزن في قلوب الناس وأفئدتهم، ويجعل العمل عبئاً. لا يترك مجالاً للرفاه والتسلية. حقيقة الأمر، أننا في هذا النظام لا نحب الوظائف التي نحن فيها، لأنّ معظمنا يعمل بأجر، مهما علا، فهو غير كافٍ. وفي وقت الفراغ نقضي الوقت في أحضان القلق؛ القلق على المصير وعلى المستقبل. نعرف أن الأيام القادمة لا نقررها نحن. هناك من يقرر مصيرنا. إرادتنا مستلبة. ربما هذا هو سر عدم السعادة في مجتمع الرأسمالية.
بالعمل يتعرّف المرء الى الطبيعة. يتآلف مع من يعرفهم من الناس، ومع من لا يعرفهم. تقسيم العمل يُفترض أن يكون حبياً. لكن جعله النظام الرأسمالي عدائياً. الناس أعداء بعضهم البعض وأعداء الطبيعة. الحروب فيها تدمير للمجتمعات، وقتل للناس. القضاء على الطبيعة فيه حرب إبادة ضد البشرية. قتل الناس إفرادياً أو في حروب هنا وهناك فيه تدريب على القتل الجماعي وعلى تدمير الجماعة البشرية.
العمل هو أن نجعل الطبيعة أقرب إلينا، أو أن نجعل أنفسنا أقرب الى الطبيعة. هو أن نندمج في الطبيعة ونصبح جزءاً منها. الرأسمالية التي تفترض البشري عدوا للبشري، تفترض في آن معاً أن البشري عدو للطبيعة. بالعمل يتحرر الفرد من عبء الضرورة المعيشية. وبالعمل يتحرر المجتمع المنتج من التبعية. يحقق الفرد ذاته ويتجاوز حكم الضرورة. يساهم في بقاء المجتمع والجنس البشري عامة. بالعمل أيضاً ي