الرأسمالية في طورها الأخير وتداعياتها عندنا
تنشأ الثروات الكبرى أو الصغرى من اقتطاع فائض القيمة التي ينتجها العمال في مصانع الرأسماليين. لا يملك العامل وسيلة عمله. يقدم له صاحب العمل ذلك. يعطي العامل أجراً يكاد يكفيه للعيش ولإعادة التناسل. نشأت الثروات الكبرى من اقتطاع فائض القيمة الذي ينتجه العامل والذي هو نتيجة عمله. فالرأسمالية قائمة على اقتطاع ما لا تنتجه (في المعامل) وما لا تملكه في الريف حيث تتم السيطرة على المشاعات. يبقى القانون الأساسي لتنامي الثروات الكبرى هو التشليح وسلخ ما عند الفقراء. سبب ثروة الرأسمالية هو التملك لوسائل الإنتاج. سبب فقر العمال هو أنهم لا يملكون شيئاً من وسائل الإنتاج. يعملون لقاء الحد الأدنى من الأجور، وهناك جيوش من العاطلين عن العمل المقتلعين من الريف الذين تكتظ بهم المدن. وهم جاهزون لأخذ محل الذين يعملون. البطالة جزء من بنية الرأسمالية. يجب أن يبقى العامل مهدداً في حفاظه على عمله وفي لقمة عيشه واستمراره وإعادة تناسله من أجل بقاء النظام.
هذا ما كان الأمر عليه حتى النصف الثاني من القرن العشرين. كان الصراع ضد الاتحاد السوفياتي يحتّم إعطاء تنازلات للعمال، فقويت النقابات وأحزابها الاشتراكية والشيوعية وهذه كلها نجحت في التفاوض مع الرأسمالية، ونيل مكتسبات اجتماعية وزيادة أجور وضمانات للعمال. كانت الرأسمالية خائفة من المد السوفياتي وكان ضرورياً إرضاء الطبقات الدنيا مهما كانت التنازلات.
مع سقوط الاتحاد السوفياتي تصاعدت الرأسمالية النيوليبرالية في الغرب. توقفت الأجور عن التصاعد. واعتبرت الرأسمالية بشكلها النيوليبرالي أن الجو مناسب لفكفكة مكتسبات الطبقات الدنيا، وضرب النقابات التي فقدت الأسس التي تمنحها القوة التفاوضية. زادت النيوليبرالية طباعة المال، وكان طبيعياً أن تنخفض الأجور لأن الأوراق التي كانوا يتلقونها كأجور تزايدت كمياتها وانخفضت قيمتها الشرائية فيما الثروات الكبرى تتكدس لدى الرأسمالية الكبرى التي تقل عن 1% من السكان.
تزامن ذلك مع تخلص الغرب من كثير من الصناعات التي تتطلّب عملاً يدوياً مكثفاً. أزيحت هذه الصناعات الى العالم الذي كان يُسمى ثالثاً. عالم محكوم بدول الاستبداد حيث لا مجال للنقابات ولا للتنازلات لها. احتفظ الغرب بالإنتاج المعرفي (المعلوماتي، الديجتالي). تضخمت هذه الشركات الديجتالية وصارت قيمة بعضها (غوغل، مايكروسوفت، ياهو، فايسبوك، الخ…) تزيد على قيمة أكبر الشركات الصناعية، أكسون موبيل مثلاً، في وال ستريت. كيف حدث ذلك؟ راجع كتاب ” عصر رأسمالية الرقابة: الصراع ضد السلطة من أجل مستقبل انساني” لمؤلفته شوشانا زوبوف الأميركية.
تضخمت شركات الديجتال بفضل اعتمادها على سيل المعلومات. فهي تجمع كل المعلومات على الأرض، وعن الأرض وسكانها، وتخزنها وتطبّق عليها خوارزميات algorisms سرية وتجعلها مستساغة لدى المعلنين. هي تجمع المعلومات عن كل شخص يستخدم الآلات الذكية، من الهاتف الى الكومبيوتر. وتبيع منتجاتها في سوق الإعلانات. الأخطر من ذلك أن المعلومات التي تجمعها تحوي كل شيء عن كل انسان بحيث أن ما يُسمى “الخصوصية الشخصية” (privacy) أصبحت في خبر كان. تجمع هذه الشركات المعلومات عن كل شخص يستخدم الآلة الذكية، وذكاؤها هو في أنها لا تكتفي بما يُسمى “البحث” (search) وحسب، بل كل المعلومات الشخصية. فجأة، ومنذ صعود النيوليبرالية راكمت هذه الشركات من الثروة بحيث أنها تواجه الدول الكبرى. هي لا تخضع لرقابة الدولة. لم تنشأ مؤسسات حكومية رقابية بسبب سرعة صعود هذه الشركات الديجيتالية ومراكمتها الثروة والقوة السياسية، بحيث أن اللوبيات التي تستخدمها في عواصم الغرب تحبط كل محاولات الدول لوضع ضوابط لها. لا يبالغ من يصفها “بالأخ الأكبر” في قصة جورج أورويل. حيث تراقب السلطة (في هذه الآلة سلطة الشركات) كل شاردة وواردة، وما يجري في الشارع (المجال العام) وفي البيوت وخارجها. وهي تعتمد على السرية الكاملة في حفظ المعلومات. ولا تفرج عن معلوماتها، إلا بعضها عندما يدخل الزبون المشتري. تبيع معلوماتها لجهات سياسية أيضا.!!! إذ يقال أن المعلومات التي ضختها في السوق ساهمت في تقرير من فاز في الانتخابات الرئاسية الأميركية. تجمع هذه الشركات المعلومات لكن عندما تعيد بثها (أو بيعها) تفعل ذلك بكثافة تقرر اتجاهات الأفراد الذين يخضعون لها، وهم معظم المجتمع. تعتمد هذه الشركات على ابتلاع كل المعلومات وعلى ضخها في الاتجاه الذي تريد عندما تدعو الحاجة، وخاصة الربح المادي. لا تهتم كثيراً إذا كانت المعلومات صحيحة أو غير صحيحة، حتى صار دارجاً الحديث عن معلومات كاذبة تبثها وكأنها شيء طبيعي أو معتاد. هي تخلق الواقع الافتراضي الموجود لديها، أو الذي تقرره هي، ثم تبثه الى الأفراد المستعملين للآلات الذكية، وهم معظم المجتمع، ليصير هو الحقيقة الواقعية لأن الناس سوف يتصرفون (يسلكون) حسب ما يدخل الى أدمغتهم. تصير الشركات الديجتالية هي التي تقرر الواقع. وما كان وسيلة استعمال صار هو وسيلة أصحاب الأمر والنهي. هؤلاء صار لديهم من أسباب القوة والسلطة والهيمنة، بحيث أن الحكومة الأميركية تضطر للعمل معهم ولصالحهم، في حين أنهم يعملون مع الحكومة الصينية التي تضع الضغوط عليهم.
ليس مبالغة القول أن هذه الشركات الديجتالية (وسائل التواصل الاجتماعي) دمرت الحياة السياسية. احتلت المجال العام، استطاعت إدارة الحوار والنقاش في المجال العام؛ بل دخلت الى حميمية الأفراد الذين انتهكت خصوصيتهم الشخصية، ليصيروا وكأنهم عراة مفرغين من الأدمغة أمام هذه الشركات التي تعرف عنهم كل شيء من أماكن السكن، الى الطعام المفضّل لديهم، الى البارات التي يرتادونها، الى التفضيلات السياسية لديهم. هي تلبي حاجاتهم في البداية، لكنها بعد حين تفرض عليهم إراداتها، أو على الأقل تفرض عليهم واقعاً جديداً في نهاية الأمر. ما كان يفترض أن يكون حقيقة افتراضية، أو حتى واقعاً بديلاً أو شائعات كاذبة، صار هو الأمر الواقعي. الواقع الجديد الذي يعتقده الناس الحقيقة الواقعية. المعلومات التي يختزنونها والخوارزميات التي يستخدمونها تمنحهم القدرة على توقع سلوك الأفراد. من التوقع يتوصلون الى فرض سلوك معيّن مطلوب. قوة التوقّع لديهم تمنحهم القدرة على التوقّع مع نتائج مؤكدة، كما توقعوها لسلوك الأفراد. المعلومات الشاملة لديهم تتيح لهم التوقع المؤكد.
مستعمل الآلة الذكية لا يعمل عند الشبكة أو أصحاب شركة التواصل. هو مستعمل لها وحسب. لا يتقاضى أجراً بل يدفع (وأحيانا لا يدفع) ثمن الاستعمال. لكن المعلومات المكتنزة عن مستعملي وسائل التواصل تجعلهم أسرى لديهم. فائض القيمة في هذه الحالة تقررها المعلومات عن فائض السلوك لدى المستعملين. هؤلاء يعلمون أو لا يعلمون أنهم يعملون لدى هذه الشركات دون أجر. فائض السلوك الذي ينتج عن استخدام هذه الماكينات هو ما تقتطعه الشركات وتبني ثرواتها الضخمة على كيفية التصرّف به. لم يخطئ المؤلفون الذين اعتبروا الثقافة مادية وأنها ستصير في النهاية سلعة. هذه السلعة ستصير مصدر ثروات كبرى، أكبر من ثروات شركات النفط. القوة الناعمة تتقدم وتسيطر على hard power. إنتاج الثقافة (المعرفة) يسيطر على إنتاج الماديات، خاصة بعد أن استبعدت الصناعات المادية التي تحتاج الى قوى عاملة رخيصة الأجر الى بلدان الاستبداد في أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث لا نقابات ولا أحزاب. معنى ذلك أيضاً أن الأحزاب والنقابات اليسارية أفل نجمها في الدول المتقدمة. هذه أزيح عن كاهلها التفاوض ومحاول إرضاء الطبقات العاملة والفقيرة عموماً.
هذا هو الأمر الجوهري في النظام العالمي الجديد. عالم الرأسمالية المتأخرة المعاصرة، كما سماها فريدريك جايمسون، أو كما يُطلق عليها عادة اسم النيوليبرالية. عالم الرأسمالية كما هي اليوم وكما تطورت الى مرحلتها الراهنة. لقد دأب اليسار الماركسي، وغير الماركسي، على اعتبار الرأسمالية في أزمة دائمة، فكأنها تتجه نحو الانحلال من الداخل. وقد تم تثقيف الكوادر اليسارية، خاصة الأحزاب الشيوعية، على اعتبار الرأسمالية في أزمة دائمة، وكأنها سوف تنهار تحت وطأة انحلالها الداخلي. حقيقة الأمر أن مفكري الماركسية واليسار عموما، والأرجح أن هذا ينطبق على الناشطين منهم أكثر من المثقفين المفكرين المشككين لا يأخذون بالاعتبار تطوّر الرأسمالية. انهار الاتحاد السوفياتي وبقيت الأحزاب الشيوعية تتحدّث عن تناقضات الرأسمالية الداخلية التي سوف تقودها الى الانهيار بعد الاهتراء. لم ينتبه هؤلاء الى أن الرأسمالية تطورت وغيرت أشكالها وأساليب تطبيقها. وسارت من نجاح الى آخر في حين كان اليسار خلال العقود الأخيرة يتقهقهر الى درجة تشبه الزوال. تقرأ بياناً أو برنامجاً لحزب شيوعي اليوم فكأنك تقرأ شيئاً مر عليك منذ عقود وما زال يتكرر.
أساس الرأسمالية هو الاستغلال. وكلما كان باعها طويلاً كلما كان الاستغلال الذي تمارسه أبشع وأشد هولاً. لكن الرأسمالية عرفت كيف تطوّر أساليب الاستغلال، فيما لم يعرف اليسار، ونحن منه، كيف يطوّر أساليب التحرر. ما زلنا نتكل عن رأسمالية الطور الأول في مطلع القرن التاسع عشر. نسترجع نضالات البروليتاريا ضد الاستغلال، وهو كان استغلالا لا تناقض في بشاعته. ونسترجع نضالات أحزاب البروليتاريا وتضحيات المناضلين وعلاقاتهم بالناس التي وصلت الى أعلى درجات الانسانية. ولا نفهم كيف تخضع البروليتاريا الآن لجلاديها. وكيف تقف الشعوب مع من يستغل انتماءاتها وشغفها بالحرية.
برعت الرأسمالية في ابتداع أساليب السيطرة والاستغلال. بمقدار ذلك، برع اليسار، خاصة العربي منه، في علم الكلامولوجيا واجترار المفاهيم وتكرار الشعارات. لا يستطيع اليسار الإجابة على سؤال حول تجديد الرأسمالية نفسها قولاً وفعلا، فيما عجز اليسار عن ذلك قولاً وفعلاً. على العكس من ذلك، اتهم أصحاب الثورة من الذين استخدموا هاتف الموبايل والانترنت في نشاطاتهم، وألصقت بهم تهم الاتصال بالغرب، كأن هناك أحد على الكرة الأرضية ليس له اتصار بالغرب. وكأن الغرب يترك أحداً دون اتصال أو الدخول الي خصوصياته. لقد استخدمت فرق الثوار التكنولوجيا الحديثة الرقمية بنجاح في ثوراتها التي عمت العالم منذ 2011، وقبل ذلك. لكن الثورة المضادة، أي الأنظمة الحاكمة ومؤسساتها العميقة حققت نجاحات ليست أقل ما حققه الثوار. إن تعليل نشوب الثورة أو ما يعتبره البعض فشلها لا يرجع الى التكنولوجيا واستخداماتها. تبقى أجهزة الدولة، خاصة ما يشار إليها بالدولة العميقة، أكثر قدرة على جمع المعلومات، واستخدام الرقميات من الثورة وجماعاتها الناشئة. المشكلة ليست في التكنولوجيا الرقمية بذاتها بل بأنها وضعت بيد أجهزة الدولة المعادية للثورة، وهي الأكثر تدريباً، وبالتالي قابلية لاستخدامها من الثوار.
المشكلة الأساسية تبقى في فهم الثورة وأسبابها وما النتائج المتوقعة منها. الثورة لا تدوم الى الأبد. الثورة تحقق أهدافها في اللحظة التي تقع فيها، وربما امتدت هذه اللحظة أياماً أو شهوراً. الثورة انفجار أو زلزال. لا يلزمها قيادة أو برنامجاً وإلا كانت انقلاباً. والأهم من كل ذلك أن الثورة تهدف الى الإصلاح. حتى لو أطاحت بكل النظام، فإن عليها سن دساتير وقوانين جديدة، وسوف نرى أن هذه تراكم على ما سبق وليست إزاحة له بالكامل. الثورة تسقط النظام لا الدولة في حدها الأقصى. تهدف الى الإصلاح، إصلاح النظام في إطار الدولة. فشل الثورة أو نجاحها منوط بالطبقة الحاكمة وما إذا كانت تستجيب لمطالب الناس. أحد هذه المطالب أن تزول السلطة من الوجود. “كلن يعني كلن”. وثاني الخيارات أن تجري تعديلات على نظام الحكم.
تتطوّر الرأسمالية بسرعة ويتطوّر معها المجتمع. ولا تستطيع التربية تحقيق أهدافها بتخريج طلبة يتناسبون مع سوق العمل. الحقيقة أن هؤلاء دربوا في جامعات لم تعد موجودة، ودرسوا اجتماعيات وغيرها في علوم انسانية ومجتمعية لعالم تغيرت مجتمعاته. تطورت الرأسمالية ولم يتطوّر معها الفكر الثوري-الإصلاحي. النموذج المعادي للأنظمة الرأسمالية ما زال أحزاباً ترتكز على طبقة عاملة صناعية، وليست فئات اجتماعية واسعة وغير ملتزمة باتجاه دون أخر. ولا تفهم أو لا توجد في وعيها آليات فهم الرأسمالية الجديدة. وبالتالي تتراجع أسس النضال ضد الرأسمالية الجديدة بسبب الوعي القاصر. تستطيع جماعات الثورة استقطاب أعداد هائلة في بداية الثورة، ربما أجبرت الطبقة الحاكمة على تبني مواقفها وشعاراتها، لكنها تعجز عن صب مكتسباتها في نظام يكون هو نظام السلطة. تعرف السلطة، الدولة العميقة، الثوار واحداً واحداً أو واحدة واحدة، وتعرف عن خصوصياتهم أكثر مما يعرفون. ما أن تبرد همة الثوار، وهذا أمر طبيعي، حتى تبدأ الثورة المضادة بالقمع. قمع الثوار عن طريق أجهزة الدولة الأمنية والقضائية وحتى المالية (أليس شح الدولار عقوبة تفرض على اللبنانيين خاصة الطبقات الدنيا منهم؟). سوف تنشأ ثورات أخرى في بلادنا والعالم. وسوف تتعلّم الطبقات الثورية كيف تواجه النظام القائم. نعرف الآن أن استخدام الوسائل الرقمية وحتى الNGO يمكن أن يكون كل منهما وسيلة بيد الثورة المضادة.
حتى الآن تواجه الفئات الثورية بسلاح محاربة الفساد، بما في ذلك استرداد الأموال المنهوبة. هل يظنون أن الدول التي هُرّبت إليها الأموال سوف تتعاون وان أبدت الاستعداد لذلك؟ هل ستتفق هذه الدول الرأسمالية إلا مع طبقات من بلادنا هي من جنسها الطبقي؟ علينا بذل المزيد من الجهد النظري لفهم العالم. الثورة لن تتوقف أو يمتنع حصولها عندما يفهم الثوار آليات النظام. الثورة تحصل نتيجة الألينة (الغربة في بلدنا) والهوة في المداخيل والثروة (وهي هوة هائلة بحيث أن أقل من واحد بالمئة من الناس يمتلكون أكثر من 99% من الثروة ). لكن الثورة تنجح إذا فهمت النظام الرأسمالي وتطوراته ونقاط ضعفه. تدعي الثورة المضادة أنها تتبنى مطالب الثوار لكن تتبيّت شيئاً آخر غير تلبيتها كما أصبح واضحا لنا ولغيرنا.
الحقيقة هي ما نعتبر؛ نوع من الايمان أو رؤية تنبعث من النفس. تقترب من الواقع بمقدار ما تتواضع الذات وتعترف بالظروف الموضوعية؛ تعترف بأن ما هو خارجها ليس وجهة نظر. ليس حقيقة افتراضية. اعتمد نظامنا لفترة طويلة على وقائع جزئية وحقائق كبرى اعتبرها هي الحقيقة الواقعية. سيطرت الايديولوجيا على الواقع، والرؤى المسبقة على الواقع. حتى كاد البعض منا يعتبر أن العالم، بل الكون، امتداد لأمة لبنانية تعيش في خيالنا. ما أعطينا الدولة الاهتمام الكافي؛ اعتبرناها غنيمة تتقاسمها الطوائف عن طريق أكباشها. هي حقيقة افتراضية تمليها الأوهام ولا تتصل بالواقع إلا عن طريق المخيلة وانتفاخ الذات.
جاءت الثورة منذ 17 تشرين الأول لتفتح عيوننا على الواقع. ربما استطعنا ذلك إذا لم تفرض علينا الآلات الذكية حقيقة افتراضية أخرى. حقيقة نحسها واقعاً. سوف يكون صعباً التكيف مع الواقع ما لم نتواضع ونتصارح كثيراً. وندرك أن لبنان ليس معجزة، وأهله ليسوا استثنائيين وأن ما يصيبنا أصاب ويصيب غيرنا. الانتقال من عالم الأوهام والحقيقة الافتراضية الى الواقع الذي يتوجّب علينا معالجة مآسيه بالدولة.
دخلنا منذ عقود مرحلة النيوليبرالية. كُرّست هي والأوهام حول حقيقة افتراضية (هي المعجزة اللبنانية). أوهام أدت الى كوارث. الطبقة الحاكمة بأكذايبها واحتيالاتها واعتيادها على النهب المنظم هي التعبير الأوضح عن الكارثة. نخلص من الكارثة بالخلاص من هذه الطبقة الحاكمة؛ لا بأوهام انقلابية. الثورة أيضاً افتراضية في كثير من جوانبها، تعتمد على الرغبات أكثر من الوقائع. ما يعقب الثورة هو الإصلاح. تأتي الدولة تراكما للإصلاح. ويأتي الإصلاح بعودة الحياة السياسية. سيكون أمرا مدمرا إذا دام انقطاع السياسة التي لا تكون إلا بالحوار والتسويات وتراكم التسويات والإصلاحات. الايديولوجيا السائدة عند الطبقة الحاكمة كارثية، إذ هي لا تعترف إلا بنفسها؛ لا تعتبر الشعب ومطالبه أمرا يستحق الاعتبار، أو حتى الوجود. أما الثورة، ومعظم الشعب يدين بها، فهي لن تقل كارثية إذا لم يكن هناك اعتراف بالواقع والانطلاق منه.