السياسة تعلو على الثقافة
تأسست الدولة اللبنانية عام 1920. كان للاحتلال الفرنسي وللموارنة يد كبرى في ذلك. لكن المخيلة اللبنانية تمتد لآلاف السنين حول كيان لبناني، حقيقي أو موهوم، أنتج ما يسمى الثقافة اللبنانية التي شاءت الظروف أن تكون لغتها العربية ، الفصحى والعامية، لكنها كعادات وتقاليد تختلف بين منطقة وأخرى، وأحيانا بين قرية وأخرى.
لم يكن في لبنان طائفة مهمشة، بل في كل طائفة طبقة مهمشة. عندما اختار اللبنانيون النظام الطائفي، أو فرضه عليهم الاحتلال الفرنسي، أو كان استمراراً لنظام الملل العثماني، كانت حصص الطوائف تذهب عموماً للطبقة العليا من كل طائفة، بينما كانت الطبقات الدنيا، وحتى الوسطى، من كل طائفة ترزح تحت فقر مدقع. علينا أن نتذكر أن التزام جمع الضرائب، خاصة خراج الأرض، كان بيد عائلتين شيعيتين لمدة قرنين من الزمن العثماني، علماً بأن التزام الأرض هو اقطاعيتها. تهميش طائفة ما بدعة من بدع القرن العشرين، وخاصة عصر الدولة اللبنانية واستقلالها.
أرباب النظام الطائفي من رجال الدين، وأكباش الطوائف يصيبهم الرعب عندما يرون الناس يفعلون شيئاً لإزالة هذا النظام الطائفي. في ثورة 2019، أحسوا كأن الأرض تهتز من تحت أرجلهم، فأوكلوا الى احدى الطوائف مهمة عرض عضلاتها في وجه الثوار. فكان ما كان مما أذكره.
الطبقات العليا لكل الطوائف تشكّل طبقة واحدة منتفعة فيما بينها حيال طوائفها، بينما هي مشتركة مع المصارف في سرقة مدخرات اللبنانيين التي تسمى إيداعات. المصارف، وبالتالي أكباش الطوائف، لم يخسروا بعد الثورة، بل حققوا أرباحاً عالية من نهب أموال اللبنانيين من الطبقة (الطبقات) الوسطى، ومن الذين أدنى في السلم الاجتماعي. لا خسارة لدى المصارف. والطبقة العليا عموماً تستمتع بغياب الدولة، بالأحرى غياب من يحاسب (طبعاً انفجار المرفأ، وجرائم الطيونة، واغتيال لقمان سليم، ناهيك بالاغتيالات المتتالية منذ 2005، كأنها جرائم لم ترتكب). حتى القضاء لم يعد له لزوم ألا لمحاكمة الفقراء من مرتكبي الجرائم الصغيرة. حتى الجرائم الكبرى التي يرتكبها من ليس “محمياً ظهره” تعتبر صغيرة.
لم يخترع الفرنسيون النظام الطائفي، ولم يكن هذا امتدادا لنظام الملل العثماني، بل هو بدعة الطبقة الحاكمة في لبنان. رأت فيه أفضل وأسهل سبيل لنهب واستغلال اللبنانيين بجميع طوائفهم. بعد إفقار اللبنانيين، تهلل البورجوازية اللبنانية “لمعجزة” عودة المغتربين في الصيف، وما يتاح من السواح العرب والأجانب، فكأن نهاية الصيف ستكون نهاية ما نحن فيه. سيستميت من يشبه قروش البحر من أكباش الطوائف، وأصحاب ومدراء المصارف، وسدنة الهيكل، من رجال الدين، للاستيلاء على ما خبأه اللبنانيون من دولارات في خزناتهم أو حفرات مخفية تحت الأرض. يلاحقون جيوب اللبنانيين أينما كانت. انتقلوا من مرحلة تسوّل المساعدات، الى مرحلة التشليح (ما في المصارف) الى مرحلة النشل (ما تبقى في جيوب اللبنانيين).
على اختلاف تواريخ المناطق اللبنانية، وعلى اختلاف العادات والتقاليد حسب المناطق والطوائف، وعلى اختلاف الأمزجة وفنون التبعية لمن هم في السلطة، يوحد اللبنانيين الآن جمع الدولارات وتخبئتها بعيداً عن عيون الرقابة وقروش البحر. ثورة تشرين وحدتهم بنشوء هوية لبنانية غير مسبوقة فوق الهويات الطائفية والانتسابات الأخرى التي تفرقهم، ويوحدهم الآن “اكتناز” القليل من الدولارات حيث لا تصل إليها أيدي أصحاب السلطة وممثليهم من الأتباع. تلاشت أحلام اللبنانيين وآمالهم، ولم يبق لهم مستقبل إلا أن يمر الصيف بخير، علّ القادمين للتمتّع بجمال الطبيعة يتركون لهم حفنة دولارات، والأفضل حفنات.
كانوا في عجلة من أمرهم لتأجيل الانتخابات البلدية، مع أنهم قبل أشهر أجروا انتخابات نيابية. ربما لأن البلديات أقرب الى الناس من النيابيات، وبالتالي فالنتائج غير مضمونة، أو ربما لأنهم كانوا يدركون أن البلديات ستكون نتائجها أقرب لثورة تشرين.
انتقل فائض القوة عبر العقود الماضية من طائفة الى طائفة أخرى، والأصح القول من أكباش طائفة الى أكباش طائفة أخرى. ربما كان هذا هو الشكل الوحيد لتداول السلطة المسموح به في هذا النظام الطائفي. إلا أنهم هذه المرة لا يستطيعون انتخاب رئيس الجمهورية لأن الانتخابات النيابية الأخيرة انتجت شرذمة في المجلس النيابي، بحيث لا يستطيع أي فريق تجميع عدد كاف من النواب. من يمتلك القوة العسكرية الفائضة لا يمتلك القوة لفرض أكثرية نيابية. هذا المأزق لا بدّ من حله بوسائل غير ديمقراطية وغير داخلية…
لا مخيلة فريق من اللبنانيين حول ماض سحيق أنتج ثقافة لبنانية، ولا فائض القوة عند فريق آخر يسمح بحل المفارقة-الأزمة التي يعاني منها لبنان. ليس في لبنان ثقافة واحدة بل هو بلد متعدد الثقافات. السياسة هي ما يؤدي الى الحل، وهذه تقضي بالتسويات التي ليس وارداً عند الأطراف التعامل بها. والتسوية في هذه الحال تقضي بقبول كل طرف مما لا يروقه. إن تضارب المواقف والشعارات لا يأخذ أصحابه بعين الاعتبار ضرورة التنازل عما يعتبرونه حقيقة في سبيل غاية أسمى وأكثر أهمية مما يعتقده كل فريق. الدولة، أو نصاب الدولة، هو الغاية المطلقة، ومما يبدو أن الأفرقاء المختلفين غير قادرين على بذل أي جهد في سبيل التسويات أو تسويات تؤدي الى حل الأزمة.
يبدو أن الخلافات ثقافية. بعضها يتعلّق بالمخيلة عن لبنان الذي مضى عبر التاريخ. ولا فضل لأي فريق في استخدام الموروث الثقافي لحل أزمة سياسية تتطلّب النظر الى المستقبل لا الماضي، وأخذ المصالح بالاعتبار، وأهمها ضرورة وجود الدولة، ليس فقط باجهزتها التي تشكّل النظام، بل بالرؤى حول ضرورة العيش سوية، ولو على حساب المعتقدات، وما يعتبر كل فريق هوية لبنان المطلوب وجوده.
ما بلغت الطبقة السياسية مرحلة تعتبر فيها السياسة متجاوزة الثقافة. السياسة أرفع فنون التعامل بين الناس. دونها يبدو الأمل مفقوداً. أن يعي الجميع أن السياسة فوق الثقافة وكل الاعتبارات الدينية والطائفية، وأن الدولة هي الناظم الوحيد للمجتمع، على تناقضاته الداخلية، وأنها شرط لما عداها ولا شرط عليها. تجبرنا الطبقة السياسية على العيش في نظام دون دولة. ومع عدم اكتمال نصاب الدولة بانتخاب رئيس، يبدو أن النظام نفسه بدأ يتجاوز مرحلة التهلهل الى الانفراط.