الفساد ٦ – نمط إنتاج سلعته الفساد
أنت فاسد. يصنعك النظام كذلك. أنت طائفي يجعلك النظام كذلك. أنا وأنت أبناء الحياة، أبناء النظام. النظام هو الحياة. لا بدّ من العيش تحت مظلة النظام بشروطه. وهذا مهم. كي نبقى على قيد الحياة. ليس منا من لا يعمل، حباً بالعمل أو تحت وطأة الضرورة. قليلون منا من يحب عمله. لكن الحصول على عمل ضرورة. حتى وان أعانك كبش الطائفة أو زعيم المحلة على ايجاد فرصة عمل، حتى ولو كنت خريجاً جامعياً، فأنت تعيش في خوف دائم وعدم استقرار نتيجة الخوف من إمكانية فقدان الوظيفة التي تدر كسباً دورياً، مهما قل أو كثر. هناك جيش من العاطلين عن العمل جاهزون للحلول مكانك براتب أدنى. أنت مهدد دائماً. لا يدور في خلدك إلا “دبر راسك”. الاستزلام لصاحب العمل أحد الوسائل لذلك. الطريق الأسلم على المدى الطويل هو أن تكتنز بعض المال. لا تستطيع أن تدخر من راتبك المتدني. تلجأ الى السرقة، المشروعة أو غير المشروعة: سرقة زبائن رب العمل أو سرقة رب العمل نفسه. أنت لم تولد سارقاً مرتشياً. يدفعك النظام الاجتماعي-السياسي الى ذلك. تقبل بفضل ظروفك الاقتصادية. اذا لم تفعل ذلك، اذا لم تستجب للنظام، تعتبر غشيماً. عليك أن تتحرك داخل النظام، بشروطه هو كي تبقى على قيد الحياة.
ليس المرتشون الصغار هم المشكلة الأساسية. هي في الراشين الكبار، المقاولين وأولياء الدولة الذين يتعاملون معهم من تحت الطاولة ومن فوق رؤوس الناس. على أساس أن رؤوس الناس الغلابى مدفونة في الأسفل. صفقات كبيرة لتبادل المنافع بين المسيطرين على الدولة وبين من يستفيد من أشغال الدولة. الفريقان يتقاسمان السمسرة. هو نظام السمسرة. لا يكتفي السماسرة الكبار من السياسيين مما يجنوه في الداخل. يهربون الى الخارج معظم أموالهم. يحرمون البلد من موارد هائلة. نهب البلد مع إفقاره بسلب موارده وتهريبها الى النصب والاحتيال في مرافق الحدود (جمرك، مطار، معابر برية)، الطبقة السياسية تسرق وتحكم وتحتمي بطوائفها. كم مرة سمعنا الرئيس الديني لطائفة يدافع عن قداسة أحدهم وهو يعرف أنه سارق نهاب. خطوط حمر يضعها رجال الدين الكبار لمنع محاكمة. بعض السماسرة الكبار من بعض الطوائف لا يمكن الوصول إليهم. العناية الإلهية تحميهم. الطوائف تحميهم. السماسرة العاديون أبناء الطوائف المدللين. وهم على تنسيق مع الطوائف وأكباشها. الرأسمالية الليبرالية متورطة في ذلك، بما فيها مصارفها وجمعياتهم للتجارة والصناعة والزراعة. نظام كامل من النهب. القضاء عاجز عن الوصول إليه. لا ننسى أن القضاة أنفسهم أبناء النظام. يحميهم النظام فرداً فرداً. ليس منهم من لا يتسكّع على أبواب من عينوه من أبناء الطوائف. الأجهزة الأمنية شبيهة بالقضاء. كل قادتها مرهونون لأكباش الطوائف. النظام كله، حاميها حراميها.
يظن البعض أن نظام الطوائف موجود لتأمين حصة كل طائفة. ما يتجاهله الجميع أن حصة الطائفة يأخذها كبش الطائفة. عموم الناس لا يبقى لهم الكثير. ليس لهم إلا الفقر. السياسة الحقيقية هي الإفقار المتعمّد للجمهور في كل طائفة. تقسيم عمل بين الطوائف من جهة، وداخل الطوائف من جهة أخرى. يجتهد أهل النظام لتجهيل الناس بما يحدث. أو وضع غلالهم أمام أعينهم كي لا يرون. نظام معني بإنتاج المال لأكباشه والجهل لأتباعه. كان لا بدّ من إنتاج الجهل حتى للخريجين الجامعين. لذلك الهجوم على الجامعات التي تتمتّع بأكبر نسبة من الاحترام. لأن حرصها على التعليم عالي المستوى يجعلها خارج النظام، بالأحرى خارج أهدافه المعلنة وغير المعلنة.
فلسفة النظام، إذا صحّ التعبير، هي حول الاستهلاك لا الإنتاج. الاستهلاك من أي نوع وبأي مستوى. الإنتاج ممنوع فكأنه مكتوب على هذا الشعب أن لا يعمل ليكسب رزقه، بل عليه أن يتسكع على أبواب أكباش الطوائف كي يتسوّل مالاً أو وظيفة. ليس أمام الفقير إلا الصلاة لحفظ الطائفة وأكباشها. وجوده مرهون بوجودها. وجوده تابع لأكباشها، وهم مصدر الرزق. كبش الطائفة هو أبوها وأمها. وقد سمعنا هذا التعبير يتردد كثيرا على لسان أكباش الطوائف. فكأنهم يعيلون عيالهم. يعتقد الفقراء أن فقرهم تقدير من السماء. ليسوا في وضع يسمح لهم بالاعتقاد أن وضعهم يفرضه أهل النظام. يعلمه الدين أن يستكين للطبقة العليا وأن يخضع ويستسلم. وعندما نزل الى الشارع وقال “كلن يعني كلن” كانت الهبة ثورة حقيقية على أكباش الطوائف، وعلى الطوائف ذاتها، وعلى أرباب الدين، وعلى الدين ذاته، وعلى أرباب المصارف والمصارف ذاتها. ثلاثي يشكّل النظام وينتج الفقر بكفاءة عالية. مع إنتاج الفقر، يدوسون الكرامة. هي ثورة الكرامة لأنها ثورة الفقراء.
*************
في لبنان نمط إنتاج خاص به هو ” نمط إنتاج الفساد”. ننتج الفساد والفاسدين ونحافظ عليهم. نظام الانتخابات يضمن توليدهم. نظام مغلق من يدخل إليه يحتاج الى أن تكون جيوبه مليئة وأن يكون على استعداد للعمل بكل جهد في ماكينات الفساد. لا ننتج الزراعة أو الصناعة أو الخدمات بل ننتج الفساد. هو نمط العيش ونمط الإنتاج. أسلوب العيش مبني على نمط إنتاج الفساد. الفساد سلعة ينتجها القطاع الخاص بكل كفاءة بما في ذلك قطاع المصارف. المنتجون لهذه السلعة موظفو القطاع الخاص وبعض القطاع العام. الشركات الاحتكارية التي تملكها الطوائف والكتل السياسية وغير ذلك من المناصب العليا. هؤلاء يصادرون سلعة الفساد بعد أن يتم تثمينها في سوق تبادل الحصص. ينال موظفو المؤسسات الشرعية حصة صغيرة من الفساد. المدراء لهم حصتهم. هم وسطاء بين عمال الفساد وأصحاب شركاتها الاحتكارية. هؤلاء ينالون الحصة الكبرى. يوزعون بعضها على الناس. أحيانا تنشئ السيدات زوجاتهم أو قريباتهم مؤسسات خيرية، معظمها هي لمساعدة العاطلين عن العمل في سوق الفساد. لم يعاقب أحد من كبار محتكري شركات الفساد. أحياناً يعاقب بعض الموظفين الصغار. الفساد يشمل الرشوة، وتبييض العملة، وتهريب البضائع، وبيع الأولاد والبنات والخدمات الجنسية. هي سوق كبيرة. ينص القانون على جريمة يرتكبها العاملون فيها، صغاراً كانوا أم كبارا. لكن هذه الجريمة أصبحت نمط عيش لا يستطيع القانون مقاضاتها أو معاقبتها. أصحاب الضمير مضطرون الى الانزواء أو الانعزال أو الهرب. لا يهرب الفاسدون. يهرب أصحاب الضمير. الهجرة ليست للفقراء وحدهم بل لأصحاب الضمير أيضاً. سلعة الفساد لا يتم إنتاجها في الخفاء خوفاً من العقاب. هي تنتج في العلن لأن لا أحد يخشى العقاب.
عندما يتحدثون عن نظام ريعي، فإن الريع الأساسي فيه هو مردود الفساد. كان سوق ريع الفساد تنافسياً فيما مضى. صار احتكارياً. لا نعرف بالضبط كيف تم الانتقال من التنافسية الى الاحتكار. نعرف شيئاً واحداً أن الفساد صار علنياً. لا يعتبر جريمة؛ خالياً من الحياء. قلة الحياء غير مسبوقة في تاريخنا.
المؤسسات الدينية شريكة في هذا النظام؛ على الأقل تدافع عنه باسم الطائفية والمذهبية وأخوانهما. منذ أن تحوّل المال من وسيلة دفع الى غاية قائمة في ذاتها ولذاتها وبذاتها، صار إلهاً يعبد. تحولت العبادة من الله المتسامي الى المال الذي رفع الى مستوى التسامي. احتل المصرف مبنى موازيا للمعبد. الصلاة فيه لا تقل صدقاً في ابتهالاتها عن الصدق في المعابد، إن بقي هناك صدق. لا بدّ لكل مرحلة اقتصادية-اجتماعية-سياسية من دين يبررها ويجعل منها جزءاً من العبادة الإلهية. يصير الريع الفسادي كأنه تكليف شرعي. مبارك إلهياً. المال هو الهدف والمبتغى والله هو الوسيلة، في هذا النظام. ما يمتلك الانسان من المال والعقار يقرر قيمة الإنسان: نبالته، شرفه، وجاهته. ربما يكون ذلك ليرشحه كبش الطائفة الى النيابة لقاء بدل. المهم أن من لا يملك المال لا يُعتد به. من يملك المال لا يهم إذا كان المصدر نظيفاً أو لا. ينعكس ذلك على شخصية الرجل. عليه أن يبذل جميع الوسائل لحيازة المال. يصير نصاباً سارقاً حرامياً للوصول الى الهدف الأبعد.
يلتحق الفاسدون الكبار بالكتل النيابية الكبرى، أو هي تجندهم، أو يفضلون البقاء خلف الأستار. لكنهم في كل حال يؤمنون بصلاتهم السياسية حماية من القانون والأمن، وتستفيد الأحزاب (أو الكتل منهم) ببعض المال (والبعض يمكن أن يكون كثيراً) لتمويل الانتخابات النيابية ودعم حسابات مصرفية في لبنان والخارج. في الأزمات التي تُفتعل غالباً، تنتقل الأموال الى الخارج. ينتقل الشرف معها الى الخارج. العالم هو مجالسهم، والملاذات الضريبة هي مأواهم، مأوى شركاتهم وحساباتهم. وهي في معظمها مشفّرة بحيث يستحيل تحقيق مطلب استعادة الأموال المنهوبة، التي يحوزون عليها بالتهريب وتمويل العمليات السياسية والإرهابية والرشوة ومصادرة الأملاك العامة، وأحيانا مصادرة الأملاك الخاصة لمن لم يتح له بيعها في أوقات الازدهار. هدف هذه الطبقة الاستيلاء على كل الأملاك اللبنانية سواء كانت مملوكة لأوقاف المؤسسات الدينية المسيحية أو الإسلامية. يعرفون أن ملكية العقارات المبنية وغير المبنية خير ملاذ لدفن، بالأحرى لاكتناز الأموال المنهوبة. المصارف وسيط بارع في كل هذه العمليات. يتنافسون مع الرساميل الأجنبية لتملّك الأرض والشواطىء والمنتجعات الجبلية السياحية. غياب الدولار من السوق ليس مشكلة بالنسبة لهم. يستخدمون ما لديهم من إيداعات لتمويل عمليات الشراء. والمطلوب الحفاظ على العقارات المبنية في وسط بيروت التجاري، بحيث لا تمس مهما حدث من تظاهرات واحتجاجات. هي بقجة مال لهؤلاء. الثوار يفهمون ذلك. لا يريدون أن يُتهموا بالتخريب. إبعاد التهمة عنهم أمر مهم لبقاء الاحترام لهم كثوار. يتحولون الى حماية الملكية من حيث لا يدرون. أو ربما يدرون؟ بعض المناطق السكنية على شواطىء يمكن أن تصير منتجعات. سكانها يجب أن يقتلعوا. فياضانات تطوف على الطرقات وتهاجم بيوتهم. لا يبدو الأمر بريئاً. أمر يذكر باقتلاع الفلاحين من أراضيهم في الغرب ليشكلوا احتياطي القوى العاملة في القرن التاسع عشر. الفرق هو أن الهجوم على العقارات في لبنان ينتج ريعاً وفساداً، وسلعاً فسادية، ولا يوفر فرص عمل للعاطلين المطرودين. اختفاء الدولار من السوق كان مبرمجا ساهمت فيه المصارف. أما من يملكون العقارات من الطبقة الوسطى لسبب أو لآخر فيضطرون لبيعها بأسعار بخسة. كلاب البحر الماليون (وهم يشبهون قروش البحر والحيوانات المفترسة) جاهزون لشراء العقارات بأدنى الأسعار. عملية استيلاء على العقارات. الطبقة الوسطى تنحدر. مهما باع أعضاؤها من العقارات سوف تبقى في البنوك بموجب الكابيتال كونترول. سوق موازية من أصحاب الأموال في الملاذات الضريبية في الخارج أو عند الصرافين في الخارج. جاهزون لشراء العقارات. تجارة الدولار تحسم 25 الى 30 بالمئة من قيمة الشيك أمر عادي. تنحدر الطبقة الوسطى الى بورجوازية صغيرة، وتنحدر البورجوازية الصغيرة الى بروليتاريا والبروليتاريا تصير دون عمل. تُطرد من عملها، تضطر الى الهجرة. تُطرد من بلادها. تنضم الى الشتات في بلدان الاغتراب. يعبّر الكثير منهم عن رغبتهم في العودة. لا يستطيعون ايجاد فرص عمل، يعودون الى المغترب أو ما أصبح يسمى “الانتشار”. تتشكّل حكومة من “الاختصاصيين” الذين يمكن أن يكونوا مستقلين. لكنهم لن يكونوا مستقلين عن صندوق النقد الدولي. توقع حكومة “الاختصاصيين” مع صندوق النقد الدولي وتحت إشرافه. يأتي هذا الى لبنان. يفرض اجراءات تقشفية. تصيب الطبقات الدنيا بالطبع. ينظم هذا الصندوق عمليات البيع والشراء للعقارات. ربما يعود ازدهار لبنان، لكن على حساب الفقراء. هؤلاء وحدهم من بقايا الطبقة الوسطى والطبقات الأدنى. هم من سوف يدفعون الضرائب (بعد أن خسروا ممتلكاتهم) التي يفرضها صندوق النقد الدولي. سوف يتغيّر التركيب الاقتصادي-الاجتماعي للبلد. سيكتفي أبناء الطبقات الوسطى ببيت واحد في “الجبل” أو في بيروت. أن يملك الواحد منهم بيتين سوف يصير أمراً مستحيلاً. الأرض والعقارات المبنية ستصبح أملاكا، في معظمها، لقروش المال. عصابات الدولارتحقق ما يجري في بقية أنحاء العالم، أي “التملك عن طريق المصادرة”.
ثار الناس لكرامتهم. بعضهم لأسباب تتعلّق بالفقر. بعضهم لشعورهم بفقر داهم سوف يأتي وسوف يؤدي الى الإجهاز على ما تبقى من ممتلكاتهم وإمكان دفعهم نحو أن يصيروا بروليتاريا هائمة في مختلف بقاع الأرض.
هي أزمات أصحاب الرساميل التي ضاقت عليها سبل الخارج فلجأت الى استخدام المصارف المحلية وأزمتها “المفتعلة” لجعل العقارات المبنية وغير المبنية (قجتها) لاكتناز الثروات المالية. كم من عقار بيع في الأيام الأخيرة بأسعار بخسة؟ وكم من شيكات مصرفية (على مصرف لبنان) استخدمت بعد حسم 20% من قيمتها لدى الصرافين، لإرسالها بعد ذلك الى الأبناء والبنات الذين يدرسون في الخارج، أو لأداء التزامات أخرى؟
هل يعرف هؤلاء الذين يُرسلون لضرب المتظاهرين صارخين: “شيعة، شيعة”، أو الذين يصرخون: “بالروح بالدم نفديك يا سعد”، أن ما يجري في المصارف وسوق العقارات هو لتهجيرهم وطردهم من بيوتهم. يعرفون أو لا يعرفون؛ الأمر ليس مهماً. هم صرخة الثورة المضادة التي يشنها النظام/السلطة بجميع أطرافه ضد الناس/الثوار. كاد تجاوز الطائفية، ولو لفترة، أن يزعزع القواعد الشعبية لأحزاب السلطة. هذه لا تعرف كيف تستعيد سلطتها إلا بإثارة النعرات الطائفية والمذهبية كي تعود الطائفية (بأشكالها البشعة) وكي يعود الناس قطعاناً طائفية موالين لأكباش الطوائف. الثورة المضادة هي رد فعل السلطة بأحزابها ضد الناس المتظاهرين، والمحتجين، والمنتفضين، والثوار، الذين احتفلوا بأنفسهم، بل خاضوا تجربة جديدة وغير مسبوقة في لبنان. هؤلاء إلتقوا في الساحات في أجمل حفلة تعارف بينهم (ولو لم يكن هناك مكسباً غير هذا لكان كافياً). وهؤلاء رفعوا علم الكرامة وطالبوا بحقوقهم ومن جملتها الأموال المنهوبة. وهؤلاء، ربما يعرفون أو لا يعرفون، أو يشعرون بالمصير الذي ينتظرهم على يد أغنياء الحرب القدماء والجدد، وعلى يد النظام الأمني الذي يمارس شتى أنواع القمع، ومنها الاتهامات التي تؤدي الى اغتيال الشخصيات معنويا لقادة الثوار، أو ما يشبه محاكم التفتيش في القرون الوسطى.
لا يقل عن ذلك بلاهة أو تواطؤ فضائيات انتحلت الولاء للثورة. وصارت تخضع لتعليمات الأجهزة بعدم بث مشاهد المظاهرات، كما كانت تفعل، وأن تركّز على حوادث فردية لأناس مصابين أو مرضى يحتاجون الى المساعدة؛ فكأن الثورة تتحوّل من المطالبة بالحقوق الى نوع من الإحسان الفردي الذي يُشكر عليه أصحابه. الإحسان هو في معظم الأحيان نشاط يمارسه أصحاب الثروات وأغنياء الحرب. هو نوع من تطهير لأموالهم المكتسبة بطرق ملتوية.
الأكثر خطراً هو مجموعة المعلقين والباحثين
والخبراء المنتدبين من أحزاب السلطة للظهور على محطات التلفزيون والمساهمة في دس
نظريات وأراء ومعلومات تساهم في انحراف الثورة عن مطالبها الأساسية وأساليبها
المعتمدة أصلاً. يساهم هؤلاء في إنتاج فساد من نوع آخر هو الجهل والجهالة. يتقصدون
الغباء، همهم الأول هو التجهيل، وسيلتهم أحيانا كيل الاتهامات للأبرياء. محاكم
تفتيش من نوع آخر. يضطر المشاهدون الذين كانوا في الثورة، الى إلتزام القعود في
بيوتهم، والنظر الى الشاشات، وسماع سيل من الأقوال والنقاشات غير المفيدة والتي
هدفها التيئيس، أو على الأقل انخفاض القدرة على الفهم. يزداد ذكاء ومعرفة الناس
أثناء الثورة أضعافا، ويتراجع كل ذلك تحت وطأة إعلام الثورة المضادة. الضجيج عالي
الوتيرة. الأصوات تصم الأذان. التجهيل يغلق العقل. هل كتب على اللبنانيين أن
يكونوا الضحية مرة أخرى.
نجحت الثورة المضادة، أحزاب السلطة، في تحويل الثورة الى أزمة. أنتجت أزمة مالية
خانقة. الذين سحبوا الدولار من السوق، وأغلقوا المصارف لأسابيع، وفرضوا ما يُسمى
“كابيتال كونترول”، ومنعوا الناس من الحصول على ايداعاتها، بل ورواتبها،
والذين تواطؤا لإنتاج سعر موازٍ للدولار، وسوق موازية له، هم أنفسهم الذين أرادوا
سرقة الحقوق من الناس قبل أن تتحقق، إذا كان مقدراً لها أن تتحقق. موجة جديدة من
الأموال المنهوبة علنياً هذه المرة.
إنتاج الفساد أصبح نمط الإنتاج الرئيسي في البلاد. الذي فهمه اللبنانيون، ولم يفهمه أهل السلطة، هو أنهم قاموا بثورة على أنفسهم؛ بالأحرى قامت الثورة بهم. حدثت بالرغم عنهم، ضد سلطة في داخلهم، ضد نمط يعيشونه، ضد سلطة خارجية تمثل هذا الذي يعيشونه. ثورة تطهّر النفوس (نفوس الناس العاديين) من النظام وفساده ونمط إنتاجه. صار اللبنانيون شعباً واحداً. صاروا شعباً آخر تطهّر من فساد النظام القديم. هم يثورون وما زالوا يثورون ضد نمط إنتاج لا ينتج شيئاً آخر سوى الفساد. ينتج أيضاً نظام الاستهلاك والدين. يتبع…