الفساد ٨ – اقتصاد طفيليات
عاش لبنان مدة طويلة على اقتصاد طفيلي. لا يعمل في الإنتاج بل يعتمد على عمل الآخرين، فلسطينيين ثم سوريين ثم خدم منزليين من مختلف بلدان العالم، وحتى على عمل لبنانيين في الخارج (من أجل تحويلاتهم). درج اللبنانيون على أن يكونوا أفندية في بلادهم (يعملون فقط إذا هاجروا/طردوا)، وأن يتسولوا المساعدات، على أن ينفقوا كل ما يأتيهم من الخارج والداخل على استهلاك بذيء في إفراطه خاصة أنهم لم يساهموا في إنتاجه أو إنتاج ما يقابله. في كل بيت وعند كل عائلة خادمة أو اثنتان لا يدعونها باسمها الحقيقي بل باسم بلدها (سيريلانكية، حبشية، بنغالية، عمال سوريون، عمال فلسطينيون، الخ…). كل أزمة طائفية أو غير طائفية، حرب أهلية أو ما يكاد أن يكون كذلك، ينهونه في مؤتمر في الخارج بإشراف بلد عربي شقيق أو غيره. ما عليهم، أي اللبنانيون، إلا أن يقتتلوا وهناك من يصلح ذات البين بينهم. ما عليهم إلا أن ينفقوا (موازنات مبالغة في الإنفاق الاستهلاكي)، وهناك أشقاء ومؤتمرات دولية لدعم لبنان. حروبهم فيما بينهم اعتبروها حروب الآخرين على أرض لبنان. المساعدات من الخارج، العربي أو غير عربي، اعتبروها حقاً لهم. لبنان اعتبروه منذ البداية رسالة للعالمين، وعلى البشرية أن تكون ممتنة. استثنائية لبنانية؛ حافظوا على الايديولوجيا المبررة لها وجعلوها تنمو فتستحوذ عقولهم ووعيهم. أليس لبنان بلد الحريات (وان كانت مفتعلة طائفيا) في منطقة تحكمها ديكتاتوريات؟ أليس اللبناني كيفما رميته يأتي واقفاً؟ اليس لبنان بلد المعجزات؟ يزدهر منذ الخمسينات ويعجز خبراء الاقتصاد العالميين عن فهم الأسباب إلا على أنه معجزة فليستمر كذلك. الاعتزاز بالنفس والتعالي على الغير، فكأننا شعب الله المختار. صهيونية، استثنائية، أميركية، من نوع آخر.
بعد الاستقلال، انتهت الثلاثون سنة المجيدة بما يشبه الحرب الأهلية ورئيس من أصل عسكري رفض التجديد قرفاً من الطبقة السياسية. السنوات الخمسة عشر من الحرب الأهلية انتهت باتفاق مدينة الطائف. فترة الاعمار التي تلتها اعتبرناها بذخاً، ودمرنا كل ما شُيّد خلالها. جاءت الثورة في 17 تشرين الأول للخلاص من أنفسنا أولاً، وللخلاص من نظام طائفي مركّب معقّد يصعب تفكيكه. كلما ضرب في مكان (رئاسة الوزراء مثلاً) اشتعلت المشاعر الطائفية في أمكنة أخرى بعد أن كادت تنطفئ. “كلن يعني كلن” لا تشمل الروؤساء الآخرين. واحد منهم تحرسه العزة الطائفية، والثاني يحرسه بلطجية لا يرحمون ثواراً سلميين.
سيتهمني البعض بالسذاجة للقول أن اللبنانيين “ثاروا على أنفسهم”. هم ثاروا على ما هم فيه. ما عادوا يريدون أن يكون بلدهم طفيلياً، ولا أن يكون هم طفيليين. يريدون “حقوقهم”، أولاً في العمل؛ ثانياً في التحرر من الفقر؛ ثالثاً في التحرر من التبعية لأكباش الطوائف وهياكلها المنصوبة في كل مكان؛ مراكز للنصب والاحتيال. أرادوا أن يكونوا بشراً وأن تعاملهم دولتهم كذلك. أرادوا الدولة على أن يكونوا مواطنين (مستقلين) فيها. أرادوا الاستقلال الحقيقي، استقلال الفرد عن الإملاءات عليه. استقلال الفرد عن الجماعة التي يفترض أن ينتمي إليها. أرادوا مجتمعاً على تنوّعه لا فيدرالية طوائف لا يستطيع أكباشها الحكم إلا بالتوافق حيث يكثر النهب وتضييع المسؤولية.
النظام له جيش رسمي. وهناك جيش موازٍ. الكهرباء لها معاملها الرسمية التي كانت لفترة تخدم كل ساعات النهار وكل أيام الأسبوع، على مدار سنة 1997. دمروها وأنشأوا نظاماً من المولدات الخاصة، لكل لبناني فيها اشتراك أو أكثر. نظام مواز للكهرباء. الماء: تشتري كل بناية مياه الاستخدام المنزلي ومياه الشرب بالقناني. للماء نظام مواز للنظام الرسمي. الهاتف أيضاً له نظام مواز لا نستطيع الكلام عنه، لأننا لا نعرف أربابه والمستفيدين منه. ومن بين هؤلاء المؤسسات الدينية. البيئة ندمرها بكميات عشوائية وندعي أننا لا نعرف كيف يصير الأمر منظماً كما في بقية بلدان العالم. العجز عن تنظيم الأمر مفتعل. يقوم النظام السياسي بافتعاله. أما فيما يخص المسالخ، لم يعد لدينا مسلخ مركزي طبي. المسالخ العشوائية في أماكن الذبح وبطرق عشوائية وبدائية، وهكذا دواليك. حتى في النظام المالي، صار هناك سوق موازية تديرها عصابة مافيوزية.
لكل فعل رد فعل كما في علم الفيزياء. لكل ثورة ثورة مضادة كما في علم الاجتماع. النظام السياسي الاجتماعي اللبناني هو الثورة المضادة. يرفض النظام اللبناني أن يعتبر نفسه إلا مضاداً لثورة. نظام لا يعترف بشعبه. انتجته الطائفية فاعتبر أن الطوائف التي تشكّل منها ذات رسالة سماوية لكل منها. في الحقيقة هي رسالة نصب ونهب وابتذال واحتقار للانسانية وإعلاء شأن الزعرنة والبلطجية، والأهم من كل ذلك إعلاء شأن المال المنقول وغير المنقول، المنهوب وغير المنهوب. مطالب الناس وحقوقهم هي في أدنى سلم اهتماماتهم إذا كان لهم اهتمام غير المال. إدمانهم على هذا الموقف ناتج عن قوة إيمانهم بالنظام وهيكليته وبعدم قابلية الهيكل للترميم. لم يفكروا يوماً بإمكانية انهدام الهيكل على رؤوس الجميع، وعلى رؤوسهم خاصة. لا يميزون كثيراً بين القوى الخارجية التي تدعم كلاً منهم، وتمارس الوصاية تبعاً لذلك، والقوى الخارجية التي يمكن أن تساعد وتمد يد العون. ولم يفكروا يوماً، أو هم يفكرون ولا يصدقون أنفسهم. أن هذه القوى يمكن أن تختلف وأن تتصارع حول لبنان. بنظرهم لبنان المعجزة، الكيان الطفيلي، رسالة انسانية مهمة لبقية البشر، وليس فقط رسالة إلهية. لم يفكروا يوماً أن هناك تناقض يمكن أن ينشأ بين ما هو رسالة إلهية مزعومة ورسالة بشرية موهومة.
تتصلّب الطبقة السياسية في مواقفها. تتابع تصرفها وكأن شيئاً لم يحدث؛ وكأن الثورة ما حدثت. يصرون على اعتبار المجتمع طائفياً بطبيعته. هو في نظرهم طائفي جينياً. الفوارق عندهم بين الطوائف فرضتها الطبيعة لا النظام السياسي من خلال سجلات القيد. وبالتالي فإن وضعهم كأباش في طوائفهم، ورجال دين في طوائفهم، أمر طبيعي مسلّم به وليس ديكتاتورية قمعية تمارس على المجتمع من خلالهم. هم ليسوا جزءاً من تشكيلة اجتماعية طفيلية على حساب الغير. وضعهم في السلم الاجتماعي والسياسي حق لهم موروث. الموروث مسألة بيولوجية جينية لا اجتماعية سياسية. يرثون وضعياتهم السياسية-الاجتماعية، ويرثون معها “قطعان” البشر. البشر بالنسبة لهم قطعان وحسب. لم يفهموا من الثورة أنها تريد أن يتحوّل الرعايا الى مواطنين، ومن تابعين الى مشاركين. هم لا يريدون أن يفهموا ذلك وإن كان عقلهم يقول غير ذلك. مصلحتهم تقتضي أن لا يفهمون ذلك. زعماء الطوائف يدربون أولادهم النجباء على مهنة الزعامة. نرى كثيراً منهم في مجلس النواب “منتخبين” أو وزراء معينين لكفاءة لا تظهر إلا في أعين من عينهم. في هذه التشكيلة الاجتماعية الكثير من أمراء الحرب، والأسوأ أثرياء الحرب الذين لا وازع أخلاقي عندهم يمنعهم من أي شيء مثل القتل، والابتزاز، والرشوة، الخ… أصحاب الثروات الكبرى يفوق عددهم المحامين في مجلس النواب. معلوم بأي اتجاه يميل التشريع بين أيديهم. الأخلاق السوية ممنوعة عندهم، أداب السلوك ممجوجة، الاستعلاء على الناس أمر مستحب لديهم، سوق التهم الكاذبة وتدبير المكائد عملهم اليومي، السمسرة بغير حق عمل يومي، واحتقار بيروقراطية الدولة معشعش في أدمغتهم. يريدون تملّك قطاعات الدولة فيدينون ويتهمون البيروقراطية ويعتبرونها تجهل أصول الإدارة كما يفعل القطاع العام، الذي يعني شيئاً واحداً، انتقال ملكية القطاع العام وأملاك الدولة الى حوزتهم. يجهلون فن الخطابة. يستأجرون عدداً من مرتزقة الثقافة من أجل ذلك ومن أجل كتابة خطاباتهم. صفتهم الأساسية الجلافة والصلافة والجهل وعدم إدعاء المعرفة. يحرصون على إرسال أولادهم الى المدارس الخاصة ذات المستوى الرفيع كي يتعلموا عند أصحاب المعرفة. وعندما يطالب هؤلاء بحقوقهم فإنهم يُحرمون منها. أصحاب المعرفة طبقة دنيا لا تستحق إلا ما قُدِمَ لها من النزر اليسير.
عندما ثار اللبنانيون في 17 تشرين الأول 2019، أرادوا الخروج من نظام الطفيليات. أرادوا نظاما يصنعونه هم. يحوزون فيه كرامتهم ولقمة عيشهم. رفضوا النظام الاجتماعي لا السياسي وحسب. رفضوا أن تُباع ديمقراطيتهم، كما حصل في الانتخابات الأخيرة، للأغنياء الجدد. رفضوا أن يبيعها لهم أكباش الطوائف. شعروا بالمهانة عندما سيقوا لأقلام الاقتراع للإدلاء بأصواتهم حسب قانون انتخابات لا يفهمونه. ولا يفهمه أحد إلا واضعيه. طفيليات تتراكم فوق طفيليات. طفيليات المال فوق طفيليات الطائفية ليتشكّل منها النظام السياسي.
أغنياء الحرب الأهلية اللبنانية وأمراء الحرب فيها أضيف إليهم عبر الثلاثين سنة التي تلت أغنياء الحروب العربية، التي تلت الثورات العربية عام 2011، والذين وجدوا خير ملاذ لأموالهم، وأكثر ربحية، في الدين العام اللبناني. نشأت ثروات كبرى من فوائد هذا الدين، الذي لم يكن منذ البداية ضروريا إلا بكميات صغرى من اجل الإعمار بعد الحرب الأهلية. مع مرور الأيام صار الدين العام وسيلة لاستمرار الدولة اللبنانية وحرفة مربحة عند دائنيها. معظم الدين العام هو للاستهلاك اليومي لا للاشتثمار في البنى التحتية ولا في تجارة أو صناعة أو زراعة. نظام لا يتطلّب الكثير من العاملين خاصة وأن الدولة أعطت الكثير من تراخيص إنشاء الجامعات دون مستوى تعليمي مقبول. كثر الخريجون فكان أمامهم حل وحيد للعيش وهو الهجرة. هجرة أشبه بالطرد من البلاد. من بقي منهم وُظّف في جمعيات خيرية يملكها أغنياء الحروب المتتابعة. تجار الحروب يكفّرون عن أعمالهم، أو يظنون ذلك، بإنشاء جمعيات خيرية، ويحسبون أنها تطهّر أفعالهم. التمسّك بأهداب الدين ضرورة لهؤلاء الأغنياء الجدد. تطهير أموالهم والاستجابة الحسنة عند جمهور الفقراء المواطنين. طفيليات الدين من مشايخ وخوارنة جاهزون لتلقي “المساعدات” والتبرير لأسيادهم. النعمة السماوية هناك فليغرفوا منها. كرّسوا الطائفية لخدمة أكباشها وأغنياء الحروب وظنوا أنهم يغرفون. حصتهم كانت أشبه بالعظام ترمى للكلاب والقطط من على الموائد الفاخرة. هذا جوهرثقافة التوزيع في لبنان. توزيع الفتات والاحتفاظ بالثروات الكبرى.
النظام الطائفي في لبنان هو نظام طفيليات. كائنات صغرى تتسلّق على جسم المجتمع وتأكل منه. تتآكل الدولة والمجتمع تحت وطأة الطفيليات. الإنتاج محدود، والتبادل يعتمد على مال يأتي من الخارج. ويعتمد النظام على توزيع ما يتاح منه لأبنائه من الصغار والكبار، من الأتباع والأكباش الطائفية. لذلك لا غرابة إن كان نظاماً مفتوحاً سياسياً على الخارج، وتقرر سياسته الخارجية قوى غير لبنانية، لا بل ان استقراره لا يتحقق إلا بإشراف ورعاية دول خارجية، محلية واقليمية. الاستقلال والسيادة تعبيران افتراضيان. تعوّد نظامنا المصرفي على التحويلات من الخارج من أجل توازن ميزان المدفوعات. الميزان التجاري ليس لصالحنا بفجوة كبيرة لأن الطفيليات لا تنتج الكثير. تعودنا على المساعدات. في الحقيقة تعودنا على التسوّل الرسمي من بلدان الخارج لبناء أي شيء في لبنان. نظام الطفيليات مريض دائماً. وهو بحاجة الى عناية دائمة من أشقاء عرب أو غير عرب. ويجد بعضنا الفرصة في كل وقت لشتم وإساءة التصرّف تجاه الأنظمة العربية. وهي أنظمة على كل حال تشبه لبنان في تركيبته الاجتماعية. يقاطعوننا ولو الى حين. في زمن الاختلافات الايديولوجية والسياسية العميقة بين البلدان العربية، لا يجد لبنان صديقا دائما بسبب السياسات الداخلية والخارجية المتبعة. الأزمة المالية تتبع ذلك. وتكون السياسة الخارجية والمواقف حيالها قد تضعضعت. نظام على مستوى من الطفولة السياسية (عفوا الطفيلية السياسية) حتى أنه يحتاج الى من يمسك بيده دائما. يبدو الأمر واضحاً عندما يأتينا وزير خارجية يمتاز بالحمق والجهل. نظام طفيليات لا بد من تسوّل دائم كي تستقيم الأمور. عندما كانت الأمور تبدو وكأنها على خير، وعندما كانت الأوهام حول لبنان المعجزة تملأ أذهاننا، كنا ننفق إنفاقاً استهلاكيا دون حدود. لم نعرف كيف ندّخر. الإنفاق الاستهلاكي أدى الى المزيد من الديون. وهو في صلب الانهيار الآن بفضل ما يسمى موازنة ليس فيها صدق أو استقامة ولا حتى قطع حساب إلا مرحليا.
ثار اللبنانيون لا من أجل نظام توزيعي جديد بل من أجل استقلال حقيقي ينطبق من دولة شرعية. يعتمد على الإنتاج، يوازن بين النفقات والايرادات، يوازن بين الإنتاج والاستهلاك، يعتمد على عمل أبنائه واستثمارات أغنيائه في الإنتاج، لا على تسوّل حكومته للديون والهبات. ثار اللبنانيون لأنهم يعرفون أن بلدا صغير، مهما صغر حجمه، لا يمكن أن تنتصر عليه قوة أكبر، حتى لو كانت عالمية ليس فقط اقليمية، تركية أو ايرانية، اذا كان المجتمع متماسكاً؛ ولا يتماسك المجتمع ويتجاوز طائفيته وانقساماتها إلا بالعمل والإنتاج. يريدون بلداً تكون فيه السياسة إدارة للاقتصاد لا مجرد صراعات على السلطة. يعرف اللبنانيون الثائرون ان استقلال بلدهم مرهون ببناء مجتمع متماسك لا تلغى فيه الأديان بل تلغى الطائفية ويستبدل فيه الدين المفروض على الأفراد بدين يختاره الأفراد. دين يكون مدنياً. بلد ليست الطائفية هي الأولية الأولى بل العمل والإنتاج هو الأولوية الأولى، والدين شأن متروك للأفراد ويتعلّق بالايمان في هذا الاتجاه أو ذاك. بلد ليست الأديان فيه المشكلة. بل الأديان المغلقة والطوائف هي المشكلة. بلد يعطي الأولية للإنتاج وتوازن الإنتاج والاستهلاك على الإنفاق الاستهلاكي المعتمد على مبدأ ” أنفق ما في الجيب يأتيك مال الغيب”. أطراف الطبقة السياسية لا يفهمون ذلك. ولا يبدو أنهم سوف يفهمون ذلك في المستقبل. الدولة ميؤوس منها بوجود هؤلاء. التمني هو أنه بعد إسقاط الحكومة، ستكون هناك انتخابات مبكرة (قانون الانتخابات مهما كان ليس مهما، المهم أن يكون مفهوما لدى الجميع) وتقصير ولاية رئاسة الجمهورية. فقد النظام شرعيته منذ 17-11-2019. وجب إقامة سلطة جديدة منتخبة حسب الدستور.