المؤتمر الخامس للمنظمة الشيوعية سابقاً اليسارية حالياً نقد وتقييم –
جددت منظمة العمل الشيوعي نفسها بهوية جديدة تحت مسمى”منظمة العمل الديمقراطي العلماني”. كانت منظمة العمل الشيوعي نفسها قد تشكلت في العام 1976 من منظمات تمتد جذورها الى حركة القوميين العرب التي تحولت الى الماركسية-الليننية عقب هزيمة العام 1967. وانضمت إليها فرق منشقة عن حزب البعث العربي الإشتراكي والحزب الشيوعي. ظهرت المنظمة الجديدة بعد مؤتمرها الخامس، الذي تبنى الاسم الجديد، في عام 2022 (لا في عام 2202 كما هو مذكور خطأً مطبعياً على الغلاف).
الهوية المعبر عنها بالاسم الجديد ليست ماركسية ولا ليبرالية بل ديمقراطية. فيها إشارة الى أنها تعتبر الاشتراكية أعلى مراحل الديمقراطية. المنظمة الجديدة “تنظيم ناشط ضمن الخيار الاشتراكي اليساري…. على أنها خيار يحدد غاية التطوّر للتطوّر البشري…. وهو في العودة الى رصد وقائع التطوّر الاقتصادي الثقافي والايديولوجي كما يظهره الوضع العالمي بمختلف مكوناته خلال الربع الأول من القرن الواحد والعشرين”. الخيار الاشتراكي “رداً على إشكالية تطوّر الديمقراطية المعاكسة لليبرالية، وليس انبعاثاً لفلسفة مثالية” (ص 23). “تطوّر المجتمعات المسماة متقدمة استغرق قرونا وصراعات دامية ولا يمكن اختزاله وفق ترسيمة اقتصادية لا نرى منها إلا الانتقال من نمط انتاج الى نمط آخر…. إن بنى العالم الثالث بمقدار ما هي محجوزة بفعل علاقات التبعية مع المراكز الرأسمالية المتقدمة، هي بالمقابل تحشد عناصر من التخلف، لا بدّ من مقاربتها، لأن الطريق الوحيد للتقدم والحداثة يكمن في إضطرار تلك المجتمعات لدفع الكلفة المطلوبة لتجاوز البنى الموروثة والتي تشكّل الوجه الآخر للسيطرة الخارجية…” (ص 25). وقد راجع الرفيق الماركسية-الليننية مراجعة نقدية “واعتبرها نهاية الاجتهاد البشري في صياغة رؤية للوجود…. وأن النص الماركسي التأسيسي ظل محكوماً بالمرحلة التي جرى انتاجها فيها، ما يجعلها الأقرب الى الايديولوجيا منه الى العلم المحض”. وخلصت تلك “المراجعة الى النص الماركسي ضمن تراث الاشتراكية العام، رافضة إعدام الماركسية أو التنكر لها….” (ص 26). “وخلصت الى أن الماركسية وحتمياتها من الفكرة الى الحركة الى الثورة الى الدولة لم يحكم لها التاريخ بالنجاح، بل حكم بالفشل…. وأن الهوية الشيوعية لم تعد تصلح وجهاً للاشتراكية المتجددة التي نسعى الى اشتقاق مفاهيمها وصوغ برنامجها”.
لا بدّ من التوقف عند هذا الكلام. هل هو يعبر عن انتهازية عميقة ناجمة عن أخلاقية ظاهرة، يموهها الحديث عن ممارسة نقدية؟ هل الانتهازية وليدة تجريبية تتعلّق بالأفكار والايديولوجيات، تنتقي منها ما نجح عن الآخرين فتطبقه عندنا؟ فنتحوّل ونحوّل معنا أتباعنا من قومية عربية مغالية الى ماركسية منشودة، والى ديمقراطية هلامية. أم هي بحث في عمق الذات، عمق مجتمعاتنا؟ فنستعين بالعلوم الاجتماعية وغيرها من أجل تشكيل وعي منبثق من حاجاتنا يكون مرشداً للعمل والممارسة. العمل النظري شاق وعسير. يتطلّب معرفة بالعالم والتزاماً بالإنسان وغوصاً في المجتمع وإبداع أفكار مناسبة. نغيّر الايديولوجيا التي نعتنق وكأنها دين لنا. وننتقل من دين الى دين حسب العلاقة مع السلطة السياسية أو المعرفية، دون أن تكون الايديولوجيا القديمة أو الجديدة منغرزة في مجتمعنا وحاجاته. كنا مع القومية العربية على الطريقة الناصرية، وانتهى بنا الأمر الى هزيمة 1976. صرنا مع “ماركسية تعتمد التحليل الملموس لواقع ملموس”. ولم ننتج تحليلاً نظرياً واحداً واقعياً. إذ حملتنا الايديولوجيا المحيطة بتلك الماركسية الى قيادة وخوض حرب أهلية لبنانية لم نشف من نتائجها بعد. كنا في قيادة الجزء من لبنان الذي خاض من موقعه الماركسي تحالفاً مع “المقاومة الفلسطينية”، ولم نبحث في علاقة هذا بذاك. ولا في مؤديات “التحرر الوطني” الذي اعتبرناه مقاومة فلسطينية. وحمّلنا الماركسية التي لم نفهم تبعات الفشل في ممارسة الحرب الأهلية. ليس في عدم النصر في الحرب الأهلية بل في حدوث الحرب الأهلية. خضنا حرباً أهلية ما كانت النتائج فيها، كما الممارسات، لتختلف عما كان عند الطرف المضاد. بنية نظرية واحدة تتوزّع على الطرفين. عقيدة واحدة ذات وجهين.
تتوجه الوثيقة بالملامة الى حزب الله فيما يتعلق بما آل إليه الأمر بلبنان. ذلك حتى الآن حزب الله هو الفريق الأقوى والأقدر على التحكّم بالدولة ومفاصلها. ألم نكن نحن بحركتنا الوطنية في وضعية مشابهة خلال الحرب الأهلية؟ على الأقل في هذا الجزء من لبنان. ألم تحاول الحركة الوطنية فرض “إدارة مدنية” بما يشكّل دولة موازية كالتي يقيمها حزب الله الآن؟ ألا تتسابقون أنتم وحزب الله على فكرة “المقاومة”، وعلى تكرار التجربة بأسماء أخرى، لكن مع الحفاظ على تعبير المقاومة لتأكيد الصلة الذهنية بأحمد الشقيري؟ وهو كان تخلى عنها لو عرف مؤداها.
يُعزى الى كارل ماركس قوله في أواخر حياته “أنا لست ماركسياً”. وفي حديث للنبي محمد أنه قال “أنتم أعلم بشؤون دنياكم”. ويقول مظفر النواب مخاطباً الإمام علي، أمير المؤمنين، لو جئت اليوم لأنكرك الداعون إليك وسموك شيوعياً؛ وهذا عندما كان للشيوعية شأن كبير في سبعينات القرن الماضي. أما شكّل أهل الحديث والفقه والأخبار أكواماً من الحديث (من البخاري عند السنة والكليني عند الشيعة، وما بعدهما، وما قبلهما) لإغراق النص القرآني في شؤونهم وزمانهم؟ ألم ينزع بعض الفقهاء الى القول بالحديث ينسخ القرآن، كما نُسِخ بعض من القرآن بآيات أخرى؟ والآيات شيطانية ليس بما أنزلت بل ما درج عليه المفسرون. والكثرة منهم ادعوا للنبي عصمة أعلنها بعض آخر للإمام علي وللأئمة من بعده. وإذا بالعصمة تنتقل لولاية الفقيه تبعاً لمقتضيات الدولة الصفوية وصولا الى الإمام الخميني والخامنئي. ألم تتسلل العصمة لبعض الأئمة الصغار في لبنان كما تسللت “علمية” الماركسية إليكم في زمانكم الماركسي، وادعى كل “غورو” في الحركة الوطنية العصمة كما يدعيها الآن من خلفهم؟ وهل البنية الفكرية لحزب الله الآن سوى استمرار لبنية فكرية وضعها أئمة الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية؟ ألا تتسابقون الآن إلى ادعاء شرف ممارسة “المقاومة” قبل غيركم؟ دون نقد وتعديل الفكرة ذاتها؟ ودون البحث في أشكال المقاومة غير التي عرفناها. المقاومة ليست حصرية لا في لبنان ولا غيره. المقاومة الحقيقية هي شعوبنا العربية في إخضاعها للثورة المضادة والرجعية العربية التي أرعبها شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”.
لقد أدرجت المنظمة “النص الماركسي ضمن تراث الحركة الاشتراكية العام، رافضة إعدام المارسكية أو التنكر لها….” (ص 26)، وذلك على ضوء أن الماركسية وحتمياتها من الفكرة الى الثورة الى الدولة وحتمياتها لم يحكم لها التاريخ بالنجاح بل حكم عليها بالفشل” (ص 27). “الخيار الاشتراكي ليس لدينا عبارة عن ترسيمة وبديهيات تقوم على قوانين جامدة. الخيار الاشتراكي-اليساري لدينا يتأسس على موقع اجتماعي-طبقي معيّن يلحظها المتغيرات التي يشهدها عالم الاقتصاد ومقولاته….” (ص 28). نستنتج هنا أن التحليل يقوم على ملاحظة اقتصاد العالم وتطوراته. ونرى النص يذهب الى أن الخيار الاشتراكي ليس مجرد مبادىء أخلاقية من الماضي معلقة بهواء عهد ذهبي غابر، بل إعادة الاعتبار الأساسي لهذا الخيار بالمعنى العلمي والسياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي. تغيرت زينة الرداء الجديد، فربط التحليل الاقتصادي بعدة جوانب في المجتمع… وذلك “نحو اشتراكية حمالة أوجه….” (ص 28). مرة أخرى ينفذ النقد الى قلب المنظمة والعاملين فيها، ولا الى عقول العاملين بهم لنقد أفكارهم وطريقة عملهم، بل يبقى النقد على السطح ينتقد الأفكار عند غيرهم، سواء ماركسية أو غير ماركسية، التي تبناها. ليس الأمر نضال كوادر يحلمون بتغيير المستقبل، بالأحرى صناعة المستقبل، وحمل هموم شعوبهم والتغيير عنها في النضال، بل هي ممارسة يختار أصحابها هذا الرداء من الخزانة القومية العربية، أو الماركسية اللينينية بعدها، أو الديمقراطية (الليبرالية) التي تقود الى الاشتراكية بعدها. ليس التفكير هنا نابع من تفاعلات داخلية ومعانات نفسية وعلاقات تعلّم وتعليم من جمهور الناس، بل هي تتابع أزياء فكرية واختيار منها ما يناسب كل مرحلة، لا ما يعبّر عن أعماق الذات.
ثم تعلن المنظمة (ص 29) أنه “انطلاقا من الاعتقاد أن الاشتراكية هي أعلى درجات الديمقراطية” وعليه (ص31) فالديمقراطية كما تراها المنظمة كهوية تستطيع دون سواها أن ترسم الخط البياني الفاصل بين إنصاف التراث، بما يملكه من مخزون تاريخي للشعوب وثقافاتها وحضاراتها وتجاربها، أو التنكّر لهذا التراث والسعي لإلغائه كما ينادي البعض. لا ندري أي تراث هو المعني هنا: أهو تراث المنظمة أو الجماعات الماركسية أو هو تراث المجتمعات بشكل عام؟ وعليه (ص32) “فإن المنظمة على صعيد فكرها التنظيمي الذي سارت عليه ردحاً من الزمن تحت سمة المركزية الديمقراطية تحقيقاً لما كرسته الماركسية-اللينينية….” لا بدّ وأن هذه الديمقراطية المركزية أدت الى مشاكل داخل المنظمة وبينها وبين جمهورها. هذا لم يرد ذكره كي يجري انتقاد التجربة. دائما نعرف الرداء الايديولوجي للمنظمة ولا نعرف آليات عملها، ولا نعرف التعامل مع الرداء الايديولوجي. الأرجح أن “قواعد” هذا الرداء لم تستخدم في حينه لأن أصحابه لم يكن لديهم الوقت لاستخدامه بسبب انشغالاتهم النضالية؛ بل بسبب تقديم أولوية النضال والممارسة على البحث النظري. لم تكن الماركسية يوماً أداة نضال بمقدار ما كانت أداة تفكير لتبيان تناقضات الرأسمالية. اعتبروا أن الوصفة كانت جاهزة، وهي لم تكن كذلك؛ ولم يكن المقصود منها أن تكون كذلك، واعتبروا أساليب النضال مع ما اعتبروه وصفة جاهزة للعمل منقولة من هنا وهناك.
تبنت المنظمة المنظور العلماني في علاج “النظام السياسي” بوصفها علة العلل بعد أن يعتبرونها، أي الطائفية، أمراً ثانوياً. يقولون بعد ذلك لا بدّ من “قرن العلمانية بالديمقراطية” بتأكيد مطلب فصل الدين عن الدولة. لا يعالجون الدين في المجتمع كيف استشرى وصار يشمل جميع جوانب الحياة، بما في ذلك المقدس والحلال الذي ضيّق على المجتمع، بعد أن توسّع واحتل جميع قطاعاته، وضيّق على المظاهر والممارسات العلمانية. لم يعد مفيداً فصل الدين عن الدولة، بل حصر الدين في زاوية من المجتمع، وفي زوايا لا تؤثر على السير العام للمجتمع. المطلوب ليس الفصل بينهما وحسب، بل إخضاع الدين للدولة. لم يعد أحد في المجتمع يكترث لما هو في غير الدين وصارت المهمة التقدمية قلب الموازين وحصر الدين في قطاع من المجتمع، وإخضاعه للدولة، بما في ذلك الجماعات الدينية والطائفية التي تطالب الجميع بالخضوع لاعتبارات الدين، بالأحرى اعتبارات رجال الدين، وإخضاع مجمل الحياة لهم. نحن في مواجهة مع هذا الدين الأصولي ولم يعد شعار فصل الدين عن الدولة فعالاً. ما هو أكثر فعالية هو إخضاع الدين للسياسة بعد تقليص مجاله. وهذا النضال لن يكون سهلاً لا بالممارسة ولا بالمحاججة الفكرية. يطالب هؤلاء العلمانيون “بفتح البلد لأنوار التحديث”. نحن هنا إذ نناضل من أجل الحداثة نناضل ضد السلطة الدينية والمجتمع الذي يخضع عن رضى. لا بد من خوض نقاشات دينية. فالدين الصحيح هو صحيح فقط بالنسبة للذين يمارسونه، وتعدد الفرق والمذاهب الإسلامية دليل أن الدين الصحيح ليس له مقياس أو معيار يجري الحكم عليه بموجبنا. لكن الذي لا شك فيه هو أن المعيار ليس في يد أحد؛ والجماعات الدينية كلها صحيحة لأصحابها أو غير صحيحة لغيرهم. الدين أولا إيمان. وهذه علاقة مباشرة بين الفرد وخالقه. كل الطقوس هي للبرهان على صحة الإيمان، وهذا الأمر لا برهان عليه. حرية ممارسة الطقوس يجب أن تترك لكل فرد يمارسها كما يريد في أوقات وأمكنة محددة لها. وهي البيوت والمساجد، لا في الجامعات والأماكن العامة. ومحاولة فرض مصليات على الجامعات يدخل في باب الاستفزاز والتحدي. فكأن هؤلاء المطالبين بالمصليات في الجامعات يمتلكون الدين الصحيح، وأن مذهبهم هو الحق دون غيرهم من الفرق الإسلامية الأخرى. العلمانية والتواضع الديني تتطلبان منع المصليات من الأماكن العامة وحصرها في المساجد والبيوت فقط.
يشير التقرير الى ثورة 2011 مسميا اياها الربيع العربي “أن شعارات التقدم والديمقراطية والكرامة والعدالة الإنسانية والحريات التي رفعتها انتفاضات الربيع العربي الناجمة عن حالة اختناق جراء انعدام الحياة السياسية وتراكم أزماتها، افتقدت لوجود قوى يسارية فاعلة” (ص 24). يتحدث التقرير عن الربيع العربي وكأنه مظاهرة ترفع شعارات وما رآها ثورة تواجه الأنظمة العربية في وقت واحد من المحيط الى المحيط”طالبة إسقاط النظام”. هذا المطلب وضع الثورة في مواجهة المنظومة العربية الحاكمة، وهي تعبير عن اتجاه مخالف لما عداه. هذا المطلب تعبير عن الاتجاه نحو الداخل، وليس استدراج معارك مع الخارج للإيهام أن الخارج مؤامرة وأن التحرر الوطني مهدد دائماً بالمؤامرات الخارجية مما انتهى الى ديكتاتوريات حيث نجح التحرر الوطني في تحقيق الاستقلال ثم تحويل الاستقلال الى استبداد يحكمه قادة ادعوا زعامة حروب التحرر الوطني. فالتحرر الوطني نقيض الحريات في الداخل حيث تنعدم السياسة. يتحوّل رعايا الاستبداد الى مواطني الدولة مع سقوط الأنظمة.
يقود هذا الى أن الشعوب العربية تريد التركيز على القضايا الداخلية في كل قطر عربي وبناء الدولة المناسبة في كل مكان وممارسة السياسة بحرية فتصير الدولة وعاء لمواطنين لا لرعايا، ويكون للمواطنين حق بل واجب المشاركة في قرارات الدولة. التركيز على الداخل لبناء مجتمعات متماسكة بالعمل والإنتاج لا الاعتماد على الاستيراد لتأمين الاحتياجات الغذائية والعسكرية من الخارج. البلد الذي يعتمد على استيراد المواد أو تقنياتها يبقى فقيرا ومحكوماً للتبعية لمن يصدر إليه. هذه هي المقاومة الحقيقية التي تُزَجُّ بها كل قوى المجتمع. لا المقاومة المحصورة في هذا القطر أو ذاك، والمحتكرة من هذا الفريق أو ذاك. لقد استبدل النظام الإيراني العروبة بالمقاومة، كي يكون هناك وفاء للمقاومة وإبتعاد عن العروبة أو نسيان لها. يعرفون أهمية فلسطين بالنسبة للعرب ويريدون لهم أن ينسونها أو ينسون أهميتها. ايران وجماعتها في المنطقة هم بنظرهم من يتولون قضية فلسطين مع التركيز على أولوية القدس. “يتطلّب الأمر زج جميع قوى المجتمع في المقاومة وسحبها لفتح كهوف البلد لأنوار التحديث” (ص 38).
فيما يتعلّق بالوضع العربي، يتحدث التقرير عن “مصر وغياب الدور” نتيجة “التحديات المتداخلة” من القوى المحيطة بها خاصة ما يتعلّق بسد النهضة الأثيوبي الذي يصيبها هي والسودان التي ما زالت تخضع للعقوبات، وتعقيدات الوضع الليبي، ومواجهة الامبراطورية الأميركية.
وفي العراق لا يزال مشروع إعادة بناء الدولة يخضع لتجاذبات الصراع بين كل من إيران والولايات المتحدة، كما بين مكوناته “التي أعادة إدارة الاحتلال الأميركية تشكيلها وتحديد انقساماتها على نحو طائفي” (ص 53(. التقدم الذي أحرز ما زال يتعرّض “لممارسات الحرس الثوري الإيراني”… بقوة الاغتيالات والتفجيرات والفوضى الأهلية في حال إقصاء قوى الحشد الشعبي المهزومة عن الحكومة ومؤسسات الدولة والإدارة. “وذلك لاستمرار انضواء العراق تحت العباءة الإيرانية…. إن خسارة الموقع والدور المصري والعراقي أصاب المنطقة العربية بالصميم” (ص 55).
وفي المسألة السورية احتلالات أميركية وإيرانية وروسية وتركية، “آلة الحرب المتعددة الهويات والجنسيات الذي دفع ثمنه المواطنون السوريون ألوفاً مؤلفة من الشهداء والسجناء والمفقودين والجرحى والمعوقين، بالإضافة الى نزوح وتهجير نصف سكان البلد…. لكن كارثة الدمار التي ترزح تحت أثقالها البلاد تظل أهون من ما أصاب بنية المجتمع السوري من نتيجة التلاعب والتغيير الديمغرافي، وجراء التهجير القسري للمواطنين مما سمى “سوريا المفيدة”، وتجنيس وإحلال أقليات طائفية متنوعة الجنسيات في المدن والبلدان السورية القديمة التقليدية” (ص 57). مع الإشارة الى الدور الإسرائيلي في قائمة البلدان المتدخلة… مما يعني أن العدو الصهيوني بات لاعباً رئيسيا في تطوّر الأحداث (ص 59). “مما يعني أن النظام المسترهن لتغطية حماته بينما يتوهّم الانتصار على شعبه” (ص 59)… الطابع الأقلوي… للنظام لم يتبدل مع استمرار غلبة المنحى الميليشيوي المخابراتي (ص 60). والأخطر من ذلك استغلال النظام بقواه وأجهزته المتفرعة قضية إعادة اللاجئين والنازحين السوريين للاستثمار فيها وفق ما يخدم مصالحه وسيطرته من دون السماح بعودتهم الى بلادهم (ص 60).
في “القضية الفلسطينية” يعبّر برنامج المنظمة عن “موقع يعي أهمية الصمود والصراع الوجودي الذي يخوضه الشعب الفلسطيني على أرضه في سبيل تقرير مصيره واستعادة حقوقه وبناء دولته الوطنية المستقلة. كما يدرك أن نضال هذا الشعب وقواه الحية يشكل خط الدفاع الأول عن الدواخل العربية، وأنه يستحق كل أشكال الدعم والتأييد الدائم لصموده ولقراره الوطني المستقل”. يوحي الأمر أنه يعترف بفلسطين كما هو منصوص في حل الدولتين. وهو لا يقترح دولة واحدة عربية-يهودية ديمقراطية، وما عاد يطرح تحرير فلسطين كاملة. غير أن حل الدولتين الذي يقرع به أطراف النزاع ما زال ناقص التطبيق بسبب سياسة اسرائيل. فتر حديث اليسار العربي عن تحرير فلسطين أو اختفى، لكن “بقاء الفصائل والتنظيمات الفلسطينية على موروثها وعدم مراجعته، ووضع تصورات جديدة للمواجهة التي تخوض يجعل قواها على استعداد للتفريط باستقلاليتها، ويحيلها مجرد أدوات طيعة في حسابات القوى الإقليمية….” (ص 69). فالشعب الفلسطيني وقياداته مسؤولون أولاً عن مصير ومسارات قضيتهم، ومن حق شعبهم عليهم ووفاء لشهدائهم وأسراهم ومشرديهم القيام بمثل هذه المراجعة.
في الشأن اللبناني يشير التقرير الى عجز “الدولة اللبنانية ومؤسساتها وأجهزتها من تفكك وضعف جعلاها عاجزة عن القيام بالحد الأدنى المطلوب من مهامها” (ص 70). “إذ أن نهاية حقبة الوصاية السورية في العام 2005 لم تؤد الى تحرر لبنان… بل الصراع الذي انتهى راهناً الى غلبة الدور والنفوذ الإيراني على قراراته…” (ص 71). “وإلحاقه بما يسمى محور الممانعة… فإن التعطيل… عند كل منعطف… ربما يشمل إعداد خطة التعافي المالي والتفاوض مع صندوق النقد الدولي، أو التصدي للخلل السياسي العميق المفتوح على انفجارات كبرى… تحت راية الميثاقية وعبر ادعاء الحرص على الوحدة الوطنية باسم الديمقراطية التوافقية… لفرض سياسات الطرف الأقوى بقوة الأمر الواقع…” (ص 72)…”علما بأن الفساد قد بلغ مع العهد الحالي ذرى غير مسبوقة عالمياً (ص 78)…
ما حدث “هو تجريد الدولة من عناصر هيبتها وقوتها…” (ص 76). “ومصادرة لمقدرات الدولة…” (ص 76)، بما في ذلك “قرار الحرب والسلم ” (ص 78)، ” في ظل الارتهان للخارج وربط مصير البلد بأزمات المنطقة…” (ص 79). ” ورغم تراجع رصيد العهد وتياره ونفوذهما… لكن… العلاقة مع حزب الله التي شكلت وما زال مصدر الدعم شبه الوحيد…” (ص 81). إضافة الى “التلاعب بالدستور بحجة وهم استعادة ما كان من الهيمنة والصلاحيات المفقودة” (ص 80). “إلا أن وجوده ودوره أصبح مرهوناً ببقائه في السلطة. ولذلك تبرز حاجتهما المستمرة للعلاقة مع حزب الله التي شكلت ولا تزال مصدر الدعم شبه الوحيد في إطار تبادل الخدمات المؤقت فيما بينهما وسط تعارضات المشاريع الفئوية لسائر القوى المشاركة في السلطة، والتي يعززها اختلال التوازنات الخارجية ذات الصلة سواء كانت عربية وإقليمية أو دولية” (ص 81).
رغم أن أية مقاربة لحزب الله “تبدأ اولاً من مساهمته في استكمال تحرير الجنوب اللبناني… لكنها لا تتوقف عنده” (ص 82). “إن عملية التحرير كانت تتويجاً لفعل تراكمي أطلقته تنظيمات اليسار اللبناني، وتحديداً الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي وساهمت فيه قوى متنوعة عديدة” (ص 84)، إلا أن ” ما هو راهن على صعيد التحرير عديم الصلة بالمقدمات والأهداف. فالإنجاز المتحقق قد انتهى أسير المكوّن الطائفي والفئوي الشيعي دون سواه. كما أن المناطق المحررة وتحديداً الشريط الحدودي لا تزال مرتهنة للسلاح بذريعة تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. وتحت راية قواعد الاشتباك لحماية لبنان، وكأنها مهمة خاصة بالحزب دون سائر اللبنانيين. وخارج إطار الدولة ومؤسساتها. منذ التحرير حتى الآن…” (ص 84). “إن بقاء خطر العدوان الإسرائيلي… لا يبرر إطلاقاً استمرار سلاح حزب الله الذي تحوّل عامل تزخيم لإضعاف مؤسسات الدولة وتفكيكها وللانقسام الأهلي” (ص 85). “ومما لا شك فيه أن دور وأداء حزب الله في الداخل يأتي في سياق مشروعه السياسي للدولة، الذي يقع في امتداد التوجهات الاستراتجية للنظام الإيراني على صعيد المنطقة، ما يدفعه الى تجاهل جملة مصالح وعلاقات اللبنانيين ضمن محيطهم العربي والطبيعي. ولذا يصر الحزب على استرهان لبنان لمحور الممانعة. وجعله مركز انطلاق للتدخل في أوضاع وأزمات العديد من البلدان العربية على رافعة إشكالية طائفية ومذهبية” (ص 85). وهذا كما يقول التقرير له “انعكاسات ومضاعفات بالغة السلبية على مختلف المستويات” (ص 86)… “إن انقسام اللبنانيين بين مؤيد ورافض لسلاح حزب الله يقع في امتداد الانقسام اللبناني-اللبناني الموروث حول الهوية الوطنية وموقع ودور وعلاقات لبنان في المنطقة وقضاياها” (ص 87).
يعتبر التقرير “أن المدخل الطبيعي والوحيد لمعالجة معضلة سلاح الحزب باعتباره سلاحاً أهلياً يكمن في أولوية إعادة الاعتبار لمشروع بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، التي لها وحدها حق احتكار حمل السلاح، وحق قرار السلم والحرب…” (ص 87). ويكمل، ” وفي هذا السياق تكمن أهمية بحث وإقرار الاستراتيجية الدفاعية الوطنية، بديلاً عن ادعاء احتكار حق الدفاع عن لبنان وحماية حدوده وموارده الطبيعية من قبل حزب الله بمعزل عن إرادة أكثرية اللبنانيين” (ص88). يطالب التقرير بالمصارحة بين اللبنانيين مع التأكيد أن ” الرهانات الخاطئة والمدمرة على الخارج دولاً وأنظمة ربط لبنان بمجريات الصراعات الإقليمية أو المفاوضات الأميركية والأوروبية-الإيرانية… مما وضع لبنان على فوهة توترات لا قبل له بالتحكم بها…” (ص88).
يتابع التقرير “ومن المؤكد أن حزب الله لا يتحمّل وحده مسؤولية الوقوف أمام الهاوية التي تساق إليها البلاد، ولا المحصّلة الراهنة لأوضاعها، لكنه في مقدمة القوى الأهلية المسؤولة عن الغرق الفئوي في مشكلات الإقليم من جهة، ومن جهة ثانية بالنظر الى قدراته في التأثير على القرار السياسي، إضافة الى مشاركته وحراسته لمنظومة فساد الحكم بأدائها الراهن…” (ص 89).
يرتبك النص عندما يصل الى القسم الذي عنوانه “أزمة السنية السياسية ومأزق تيارها الرئيسي”. ما معنى السنية السياسية غير أنها الطائفية السياسية. هي أزمة نظام لا تقتصر على السنة، وإن وجد هؤلاء دون غيرهم أنهم لا يستطيعون الانتظام تحت أمرة حزب الله وحلفائه. طبعاً سوف يجد النظام خدمة غير الحريريين لكن النتائج المتوقعة لقرار الاعتزال الطوعي ليست مرضية لأحد، ولا حتى لأصحابه. لا يستطيع حزب الله أن يتحمّل أقرانه كشركاء في النظام. فهؤلاء إما أن يخضعون أو يرحلون. وقد قال زعماؤه: من لا يرضى بما لا نفعل فليدق رأسه بالحيط.
الانتفاضة التي “أربكت النظام” ص (96) قوبلت بالقمع. لم تتوحد وأخترقتها أجهزة النظام. هزت الانتفاضة، والأجدر تسميتها ثورة، ثقة النظام بنفسه فواجهها بالبلطجية الطائفية. لم تنتج الثورة برنامجاً، لكن الثورة المضادة المتمثلة بأحزاب السلطة كان لديها برنامجها الذي محوره القمع ومزيد من النهب وتسيير الأمور نحو الهاوية طبعاً. وكأن وجودها في السلطة بقي أمراً طبيعياً بعد أن ثبت أن وعي الناس ووممارساتهم قد تجاوزاها. عفوية الثورة فاجأت الجميع بما في ذلك أصحابها، وأصحاب السلطة، فكان لدى هؤلاء الأخيرين قدرة منظمة للقمع المادي والايديولوجي. وهل كان مفاجئاً أن يخرج أصحاب السلطة لقمع الثورة بشعارات طائفية فجة، بما يتنافى عادة مع الاتيكيت الطائفي؟ ليست نقيصة أن تكون الثورة عفوية. هي حدث لا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا كان عفوياً ومن دون برنامج. لكن الثورة حققت انجازها الأهم وهو خلق هوية وطنية جامعة فوق الهويات الطائفية مما أرعب النظام، فكان القمع قراراً واعياً اتخذته أحزاب السلطة بالفعل وعن سابق تصوّر وتصميم. ولج اللبنانيون طريقاً غير معتادين عليها. لكنها غرست بذور تطوّر لن يستطيع النظام أن يفلت منه حتى ولو نجح نجاحاً باهراً في الانتخابات النيابية؛ وهو يجريها قسراً وبالرغم عنه. اختار النظام التوافقية والميثاقية والوحدة الوطنية الكاذبة، ومارسها العهد مدعوماً من حزب الله، وهو الأقوى بين الأطراف، لكن قوى المعارضة الحقيقية برزت من الطبقات الوسطى؛ من حيث لا يتوقعون، كما من الطبقات الدنيا. النظام في مأزق. الانهيار المالي والاقتصادي مؤدى هذا الانهيار. ما فشلت الثورة بل فعلت ما يمكن أو ما هو مطلوب منها كثورة. هي حدثت، والنظام هو المأزوم؛ وقد برهن على عدم قدرته على إنقاذ نفسه. الثورة جعلته يرى حقيقة ذلك. بناء على ذلك يتبع النظام بمصارفه وايديولوجييه التبريريين المحافظين سياسة الأرض المحروقة: عليّ وعلى أعدائي يا رب. سوف تحدث ثورات أخرى ويخرج أهل النظام بلا كرامة حرموا منها شعب لبنان ومجتمعه. يشير التقرير بالتفصيل الى “الانهيار الاقتصادي والمالي وقضية الفقر” (صفحة 97 وما بعدها)، لكنه لا يذكر أن النظام قوّض أسسه الدستورية والقانونية بأدائه في قضية المرفأ، جريمة العصر، وبمصارفه التي صادرت أموال المودعين (صغارهم إذ هرب كبارهم أموالهم). وصار يتكل على لملمة تفرضها قوى خارجية. ولا يُقرّ إجراء مفيد إلا بضغط خارجي. أركان السلطة وأحزابها هم الذين لجأوا للخارج (السفارات) بما فيهم حزب الله، وغزله الجاري مع الامبراطورية الأميركية الى انتظامه مع إيران.
يرى التقرير أن الدولة شرط ما عداها وقد دمّر النظام أسسها. والعروبة قد حاول النظام إلغائها ببديل هو “المقاومة”، والقطاع العام قد فعل النظام كل ما استطاعته كي يفرّط البنى التحتية لصالح خصخصة عشوائية لكل القطاعات (خاصة الكهرباء والماء). وكل ذلك بدون أي شرعية وفي محاولة واضحة بكل فجاجة لتقويض الدستور وإلغاء القانون وقضاته. ما القول بفشل الثورة وعدم قدرة أطرافها على التوحّد وطرح برنامج عمل إلا تبريراً للنظام؛ تبرير ربما كان غير مقصود.
انتقال المنظمة الى موقع ليبرالي تنكره وتقول بالديمقراطية هي أعلى مراحل الاشتراكية، يتيح لها الانسياق في تيار القول بفشل الثورة. ميثولوجيا الديمقراطية أعلى مراحلها الاشتراكية. لا نعرف الكثير عن هذا الانتقال، دوافعه ونتائجه، سوى أن الماركسية لم تعد تناسبها كأداة تحليل. أما كان يمكن الإبقاء على الماركسية مع التحوّل الى الديمقراطية والاشتراكية، على مراحلها. لا ندري ما هو التناقض بين الماركسية والإشتراكية، وهل إدعت الماركسية لنفسها علما دقيقا أو أداةً في التحليل، بل هل إدعت أي من العلوم الاجتماعية علما دقيقاً. هي منظمة لم تمارس النقد الذاتي عندما انتقلت من حركة القوميين العرب. سقطت “الفكرة” القومية في عام 1967، وبقي العرب وهم يستخدمون هذا التعبير. ولم يشرحوا معناه. هل تركت حركة القوميين العرب لما رأوه من خطأ في الفكرة، أو من شطط في الممارسة، أم في عدم المناسبة لنماذج التفكير السائدة؟ وهل التفكير يكون حسب الموضة السائدة؟ وهل كان الوضع أفضل بالنسبة للماركسية؟ في الواقع هم لم يمارسوا النقد الذاتي، لا الفكري ولا في الممارسة. ربما مارسوا النقد تجاه الآخرين، أو بالأحرى تجاه التيار الايديولوجي السائد في لحظة سقوطه. أما علاقتهم بواقع مجتمعهم فهذا غائب عن النقد. إذا كانوا يحملون قضية، وهم كذلك، فإننا لا نعرف عن علاقة بين القضية والوجود، بين الأفكار والتصورات التي لديهم والواقع الذي يعيشه مجتمعهم. عدم البحث في الأفكار والايديولوجيات ومناسبتها للظرف لا يُبحثان، بل القفز من السفينة حين تغرق. نقد لأفكار الآخرين لا نقد لأنفسهم وممارساتهم. هكذا تبقى الأفكار لديهم سطحية والمعاناة هامشية. قيادة الجماهير تتطلّب معاناة معهم وفيهم. الغوص في المجتمع وبالمجتمع وانعكاس آلامهم في أفكار وايديولوجيا الحزب أو المنظمة التي تدعي قيادتهم أو تمثيلهم.
النظرية ليست مصدراً للممارسة. ربما كان الأمر أن الممارسة هي الأولوية على النظرية. الممارسة حسب الفكر الرائج، واستعارة الفكر حسب الظروف من اليمين أو اليسار. المشكلة عند مثقفينا ومناضلينا، بل والمجتمع عامة، هي الفقر النظري. السذاجة المعرفية في وقت يكون التركيز على النضالية هو أساس ممارسات معظم أجيال المقاومة منذ أحمد الشقيري. وربما منذ ما قبل ذلك. وتتكرر مع تغيّر الايديولوجيات. أو ربما تتغيّر الأسماء وتبقى البنى الايديولوجية على حالها، فلا يكون الفرق كبيراً بين مثقف الحداثة وصاحب العمامة. انتقال المقاومة في جنوب لبنان من فصائل الحركة الوطنية الى حزب الله، ليس مجرد احتكار حزب الله لهذه المقاومة، بل غياب نقد الفكرة عند هؤلاء وأولئك. في مقال سابق أشرت الى تفوّق صاحب العمامة وايديولوجيته على صاحب الحداثة وايديولوجيته. السبب أن العمل النقدي المعرفي النظري عند الطرفين غائب. سيطرة النضالية (الممارسة أولاً) عند أحزابنا اليسارية، الشيوعيين وغيرهم، مشكلة. أولويتها على الاهتمام بالعمل النظري مشكلة أخرى مرتبطة بها. لذلك تتكرر التجارب عند أجيال متعاقبة برتابة مملة وبعد عن التنظير والتفلسف. لا تتراكم التجارب عند هذه الفرق المناضلة بل تتكرر بتكرر أفكارها. العلاقة مع الحدث أو الأحداث لا تنتج أفكاراً جديدة. لا تتكرر الأحداث فكيف تتكرر الأفكار عنها والنظريات. كما في السياسة، انقلابات تزيح فريقاً وتركب فريقاً آخر دون تغيير الفكر والمنهج. لا نراكم التجارب ودروسها، بل نعود دائماً الى نقطة الصفر، الى حيث بدأوا. وهل فعل حزب الله إلا العودة الى حيث بدأ الجيل الذي قبله في المقاومة. دون نقد الفكرة ومراكمة تجارب جديدة.
العقل المستريح يعتبر دائماً أن الفكر قضية ناجزة. وكأن الدين اكتمل مع خطبة الوداع، فما علينا إلا التطبيق. لا يقرأ ماركسيونا، وحتى كبارهم، سوى مختصرات عن الماركسية، كما لا يقرأ أصحاب العمامة سوى الأحاديث المكرورة، بما فيها المتحولة، دون إنتاج نظري عند جميع الأطراف.
المشكلة ذاتها عند عموم المجتمع. احتقار التنظير والتفلسف. يُعتبر كل منهما نقيصة. سؤال ما العمل يتقدم على سؤال كيف الفهم. ننتهي الى عمل دون فهم. “القضية” ذاتها والوجود يتغيّر. ينتهي أصحاب القضية في انفصام عن الواقع. وانفصام عن الذات. مشايخ الحداثة هم نسخة عن مشايخ العمامة. حتى الشعارات لا تتغيّر.
إن تراكم الأفكار أمر ضروري مثل تراكم التسويات في السياسة. على الحزب، وكل حزب، أن يعمل ويفكّر ويكوّن ذلك على أساس التراكم الفكري وفي الممارسة. لكي لا يأتي العمل الفكري ملحقاً للتنظيم. علينا أن نطمئن أن الثورة تحدث دوننا. جميعنا تفاجأنا بثورة 2011 العربية و2019 اللبنانية. يُقترح أن يكون لكل حزب مركز (وعاء) للتفكير المستمر فلا تأتي المؤتمرات التي تُعقد كل بضع سنوات وكأنها انقلاب على ما سبقها. لدى كل حزب عدد من المواضيع التي يمكن البحث فيها كي يكون البحث مستداماً من الطائفية وكيف هي شائعة عند أدنى الطبقات. هي ليست فقط أداة للتجزئة بيد البورجوازية وأرباب المال وأكباش الطوائف.
القومية في كل قطر هي قومية الدولة. القومية العربية هي قومية دول. الوحدة العربية هي وحدة دول. الشعوب العربية لا خوف على وحدتها. برهنت على وحدتها في ثورة 2011 من المحيط الى المحيط.