المثقف والزعيم والمجتمع
السياسة واجب كل مواطن في كل بلد، ما عدا البلدان التي يحكمها طغاة ديكتاتوريون فهي ممنوعة. أما المواطن المثقف فواجبه مضاعف الأهمية نظراً لاتساع معرفته وقدرته على التحليل. المثقف بالتعريف صاحب موقف في السياسة. أما أن ينخرط فيها، فهذا شيء آخر؛ لكن هذا ما يميزه عن الباحث. فهذا الأخير متخصص، همه المعرفة في سبيل المعرفة، أو ما يسمى الفن في سبيل الفن؛ في بلادنا يعتبرون ذلك نوعاً من التنظير أو التفلسف، دون الشعور بأننا بحاجة إليهما. الممارسة العملية لا يعلو شأنها على النظرية. والنظرية هي دائماً مرجعية المثقف في تفكيره: مجتمعاتنا العربية مدموغة بالاستبداد، فكأن سيطرة الاستبداد هي الأمر الطبيعي. هذا لا يرى في التعلّم والثقافة أو البحث ضرورة. الضرورات العملية كما يعتقد أصحاب الشأن. معظمهم من الأجهزة الأمنية، أو أجهزة السلطة بعامة، يعتبرون الثقافة، بمعنى سعة المعرفة، والجمع بينها وبين السياسة أمراً غير مرغوب فيه لأن السلطة في بلد الاستبداد يهمها أساساً الابتعاد عن السياسة؛ ابتعاد الناس عن السياسة. يكون الأمر مضاعفاً في الموقف من المثقفين. هؤلاء ينظر إليهم بحذر دائم. تعتبر الأجهزة الأمنية انهم يتدخلون فيما لا يعنيهم. لا يحتاجهم النظام الأمني إلا للتطبيل والتزمير ومدح السلطان وأفكاره “العظيمة” التي تكون تافهة في معظم الأحيان.
يحيط الزعيم نفسه عادة بمجموعة من المثقفين، وأحياناً يطلق عليهم تعبير الإعلاميين (لتثقيف الشعب) ولإيصال أفكار الزعيم للعامة. هؤلاء بحاجة دائمة للتثقيف و”التوعية”. لا يكتسبون ذلك إلا عن طريق الزعيم ومريديه. ويلتزمون بالقضية بمقدار ما يلتزمون بالزعيم أو يلتصقون به. كلما قربوا منه زادت أهميتهم. لا يعرفون أن وجودهم لديه هو للزينة فقط. على الزينة كما على ثياب الموضة أن تناسب هالة الزعيم وأفكاره. ويلٌ لمن يخالف هذه الأفكار. يتهم بالخيانة فوراً.
يعتبر الزعيم نفسه قائداً ملهماً، أو شخصية كارزمية، كما يُسمى أخيراً. أفكاره مبادئ. على المثقفين وضع التفصيلات. هو يفصّل وهم يخيطون.
ينمو عند مثقفي السلطة “الانتفاخ الذاتي” نتيجة قربهم من السلطان. يعتقدون أن قربهم منه سببه قدراتهم الذاتية أو تزايد الروح العملية عندهم. يعتقدون أن أفكارهم تنتقل الى تطبيقات ولا يدرون أن أفكارهم ليست لهم، وليسوا هم مصدرها، بل يستمدونها من الزعيم. يصير هذا يظن نفسه مثقفاً لأن المثقفين يهللون له ولأفكاره، وهؤلاء يظنون أنفسهم اقتربوا من العبقرية، وهم لا يدرون، أو ربما يدرون، أو يدري بعضهم، أنهم ليسوا أكثر من مفسرين لأفكار السلطان؛ وكل ما يفعلونه هو التبرير لأقاويله. السلطان بدوره يغيب عنه تفاهة تفكيره لأن جماعة المثقفين هللت لها. يظن أن التهليل نابع من اقتناعهم بأصالة هذه الأفكار وأهميتها وتاريخها. لا يدرون جميعاً أن بضاعتهم هي من سقط المتاع، وأن المدح والمدح المتبادل لا يعدو كونه نوعاً من الانتهازية الفجة الساقطة أصلا في مزبلة التاريخ.
حتى الانتفاخ الذاتي ينقلب الى نوع من الانقماع الذاتي. الأجهزة الرقابية تضع حدوداً للجميع. يتشاور الزعيم معهم. هم الذين يحددون له منابع الخطر على سلطته وهم الذين يضعون حداً لشطحاته، فيصير أسيراً لديهم. أسيراً لمن يفترض أنه هو يوجههم. أما مثقفو السلطان، فهم يعرفون جيداً أن هناك حدودا موضوعة لحرية التفكير، وعلى كل مثقف أو مواطن أن يعرف حدود ما يمكن أن يذهب إليه. يصير الجميع في نظام يقتل الإبداع ويغتال الضمير. على الكل أن يقبعون ضمن حدود مرسومة. الحقيقة أن الإبداع لا يمكن أن يوجد دون التجاوز، تجاوز لما هو مألوف، الخروج عما هو معروف، التمرد على ما هو اعتيادي. النفس المتمردة هي التي تبدع. التقدم والتطوّر لا يحدثان دون إبداع.
يحلو للطغاة تقريب المثقفين ثم نبذهم بعد أن يحسب هؤلاء انهم في وضع آمن. يستبدلونهم بغيرهم. يظن البدلاء أن ما لديهم من أفكار عبقرية يفوق ما سبقهم. ولا يدركون أنهم جاؤوا الى جانب الطاغية للزينة لا لأفكارهم العبقرية. حتى اللجام على أبواز المثقفين، مثقفي السلطان، هو للزينة.
لكل عهد أو سلطان راسبوتين أو أكثر. يكون من حواضر البيت وعلى الأغلب جاهل في شؤون الثقافة والعلم. لكنه يعرف المناورات حول السلطة والصراعات التي تدور من أجلها. يتقربون من عائلة السلطان. ويكونون في العادة أقرب للشطارة أو الذكاء؛ لكن حذقهم في التعامل مع أهل البلاط والذين يزورونه، ويتعاملون معه، يجعلهم أكثر قيمة لدى السلطان. غالباً ما يكون هؤلاء أساسيين في إخراج المثقفين من دائرة السلطان حتى ولو مارس هؤلاء الانضباط وبذلوا الجهد لإرضائه. قل أن يوجد أحد من السلاطين الذين لا يحبون النميمة، وهم ذوو حرص شديد لسماع ما يحكى عن المقربين منهم. غالبا ما يثيرون هم الحديث ويتعقبون مفاعيله. يكره الزعيم أن يرى أتباعه في الحلقة الضيقة حوله متفقين. يبث التباينات بينهم كي لا يتحدوا ضده. علاقة كل منهم هي مع الرئيس مباشرة. يستحسن أن تكون العلاقات فيما بينهم ضعيفة. الزعيم وحده هو من يشد الخيوط أو يرخيها. فتعلو منزلة الأتباع أو تنخفض. كلما أحسن الزعيم هذه اللعبة كلما طال عمره في السلطة.
التعامل مع الشعب يكون بالمراقبة والقمع، أما التعامل مع الأتباع في الحلقة الضيقة حول الزعيم، فهو ينم عن روح عملية. هذه الروح العملية لا تتعلّق بخدمة الشعب بقدر ما تتعلّق بمناورات البلاط؛ لا تتعلّق بالسياسة بمعناها الرفيع؛ الشعب يخضع وحسب، وهو يعرف هذا الواجب؛ بل تتعلّق بالوشوشات ومختلف أنواع التآمر والتواطؤ. مثقفو السلطان يختلفون فيما بينهم؛ هذا واجب. لكنهم يتحدون حول الزعيم، ولو على زغل، وهذا واجب أيضاً. الذي منهم يخطئ المعادلة، يتم إخراجه من اللعبة. المثقفون هم الأسهل إخراجاً من اللعبة لأنهم يفوحون بالأفكار ولا يقودون السرايا. الأقوياء هم قادة السرايا والقطع العسكرية. والأهم منهم جماعات المخابرات.
يعتبر الزعيم أنه هو مشبع بالروح العملية. يعتبر أن المثقفين يفتقرون إليها، فهو يتفوّق عليهم في هذه الناحية. يحتاج الى ما يتفوّق به على المثقفين. قدراته العقلية والثقافية لا تتيح غير ذلك. يضطر المثقف العارف أحيانا لاصطناع الجهل كي لا ينافس الزعيم أو الأتباع الأخرين في المعرفة. يتباهى أتباع الرئيس بالروح العملية أيضاً. “فلان بك لا تهتم عندك زلم بتشرب دم”. يسحبون هذه الوضعية على المجتمع ليصير كله على مستوى مقبول من الجهل (والمعرفة المتدنية). يزدهر التعليم التقني. طبعاً كل مجتمع يحتاج الى تقنيين، وهناك الكثيرون من لم تتح لهم فرص التعلم النظري. لكن أنظمة الاستبداد تؤدلج التعليم التقني وترفع شأنه أكثر مما يستحق. وتحتقر العلوم النظرية والانسانية. تتفسخ لحمة المجتمع نتيجة الفقر في العلوم النظرية، والانسانية خاصة، ذلك أن الأفق الفكرية تضيق، وتضمر معها فرص النقاش، حتى ولو لم يكن مسموحاً به. فتتقلّص المساحة العامة، وتتلاشى السياسة. تلاشي السياسة بدوره يفكفك قدرة المجتمع على التماسك. يتجه الناس الى الهويات الدينية والإثنية. ويتمسكون بها. يمضي وقت قبل أن تتبلوّر هذه في حركات دينية متطرفة متشددة متوحشة. تستلم هي قيادة النضال ضد القمع، ويصير النضال طائفياً. وتكون الحركات الطائفية على المدى الطويل من صنع نظام الاستبداد. لا يستطيع المثقفون فعل شيء ضد هذا أو ذاك. إذا وقفوا مع الاستبداد يخسرون دينهم، وإذا وقفوا مع الفرق المتطرفة يصيرون إرهابيين. ربما اغتيلوا. بشكل عام تتشلع الثقافة. تنمو أنواع من التدين من ناحية والعلمنة من ناحية أخرى، وكلاهما لا يشبه في شيء تاريخ المجتمع. يصبح المثقف الذي لا يريد التبعية للاستبداد ولا الانخراط في حركات دينية خارج المجتمع والسلطة. في الحالتين يضطر المثقف الى التسطيح ومخالفة ضميره.
الأحزاب التي تبقى، تُدمج في جبهة وطنية يتحكم بها حزب السلطان. هي أحزاب لكنها ممنوعة من السياسة. تضطر الى الروح النضالية والابتعاد عن القضايا النظرية. لدى كل الأحزاب فئات من المثقفين الذين هم أيضاً يعزفون عن الثقافة.، بمعنى النظرية والتفلسف والتساؤل والشك. يضطرون الى الاكتفاء بالروح النضالية وتسليم العقل لما لا يزعج أجهزة المخابرات. النتيجة هي تسطّح الوعي في المجتمع. يتساوى الجميع في الفقر الفكري. وعاظ السلاطين كما سماهم على الوردي مناضلون أكثر مما هم مثقفين. تذوب النخبة الثقافية في المجتمع. يخلو الأمر لانتماءات الهوية التي غالباً ما تكون دينية أو إثنية. يستوي على العرش العقل المستريح. مناضلون دون قضية. وممانعون دون هدف. لا يبقى للمجتمع قضية. أفكار الزعيم تحتل مكان ثقافة المجتمع، الذي يلجأ الى قراءة الكتب القديمة أو ما يسمى تراثاً. تتشبع العامة بأفكار دينية موسوسة حول التاريخ. تمتلئ نفوسهم وتفوح مشاعرهم “بالهويات القاتلة” كما سماها أمين معلوف. وعندما تنشب ثورة ضد النظام وتكون شعاراتها مطلبية بحتة، يسهل على النظام أن يحولها الى صراع مذهبي طائفي، أو إثني. هنا يأتي دور التدخل الخارجي ضد الثورة. ينهزم قادة الثورة من المثقفين ويتفرقون في بلدان الأرض. تبقى الثورة مقتصرة على العامة المشبعة بالهوية. ينتصر الزعيم وهو يتباهى بأن الثورة ليس لديها برنامج؛ فكأنه ترك أي مجال للمثقفين كي يصوغوا مطالب الثورة في برنامج. عملية طويلة قوامها تدجين المثقفين، لكن العملية ذاتها هي التي زرعت ونشرت التطرف الديني المسمى أحيانا تكفيريا أو إرهابياً. طبيعي أن يطرب الغرب لذلك. فهو يشن حرباً عالمية ضد التكفير والإرهاب. تنتقل الثورة والثورة المضادة الى التوحّش. بعضهم سمى ذلك “إدارة التوحّش”. سبب كل ذلك القمع وتدمير أو تخريب السياسة. لا يبقى أمام العامة سوى التطرف الهوياتي وما يسمى التوحّش. قوى النظام تعتمد التوحش وإدارة التوحش دفاعاً عن النظام. يتجاهل أهل النظام أن إدماج المثقفين في النظام، وإلغاء السياسة هو في أساس ذلك.
إن أنظمة التحرر الوطني، أي أنظمة الطغيان التي نشأت منذ الاستقلال، اعتبرت المثقفين لزوم ما لا يلزم. زينة يحيط الطاغية نفسه بها؛ أشبه بالزائدة الدودية التي يمكن أن تستأصل بدون أثر على جسم الانسان. هذا الاعتبار حرم المجتمع من فئة أو طبقة كان يمكن أن يكون لها أثر كبير في تطوره. يولّد المثقفون حركة في المجتمع تؤدي تلقائيا للتغيير والتجديد. تساؤلاتها وشكوكها تحرّك مستنقع السلطة والتقليد. أثرها المباشر لا يبني على المدى القريب. هي خميرة الفكر. المجتمع الخال من المثقفين لا يكتب له النمو. المثقفون إضافة حقيقية للمجتمع، ونعتذر عن كلمة إضافة. إذا لم يكن المثقفون في صلب المجتمع وإذا لم يكونوا نواته ومحرك تطوره، سيتحوّل المجتمع الى مستنقع راكد آسن. مهمة المثقفين إحداث خضات متتالية في المجتمع. خضات لا تؤثر فقط على السطح بل تدخل في أعماق المجتمع وتهزه من أساسه، وتضعه قبالة نفسه، وتجعله يشك في نفسه وفي تاريخه. المثقفون يجعلون المجتمع يعيد النظر في تاريخه ويعتبر كل ما حدث كأنه لم يحدث. يعيدون ترتيب التاريخ، ليعيد الجيل التالي ترتيبه على نحو آخر بناء على البحوث والأركيولوجيا. لا أمل في مجتمع يردد تاريخه كأنه حدث بالتكرار. يجتر تاريخه، ويعتبر أن ما يتجاوز الاجترار لم يوجد. نكتشف التاريخ من جديد ونكتشف أن ما حدث لم يحدث كما يفترض أن يحدث وأن ما يجب أن يكون قد حدث نصنعه نحن بالاعتماد على وقائع التاريخ. وقائع التاريخ تندرج في سردية جديدة. سرديات جديدة تعيد إنتاج التاريخ. ليس الأمر سلفية واحدة تعتمد على ماض وحيد. إذا لم ينتج الماضي الوحيد إرادات متعددة واحتمالات متعددة للمستقبل فإن فكر المجتمع سيبقى آسناً، وسيبقى المجتمع مستنقعاً، وستكون العقول ضفادع تنقنق في مستنقع.
استنقاع الفكر جوهره أن كل بدعة ضلالة، والبدعة الى النار. الخروج من المستنقع يستدعي إحداث بدعة في كل لحظة، واستحداث بدعة في التفكير كلما شحذ التفكير زناده. لا يتطوّر مجتمع يقف مكانه. تحريم البدع يعني أن المجتمع يقف مكانه. الذين يحدثون البدع هم المثقفون الجديون. الاستبداد يمنع البدع. يريد التاريخ والفكر أن يجريا على خط مقرر سلفاً، كذك السلفية الدينية. يناضل المثقفون ضد الاستبداد والطغيان الديني بالإبداع وابتداع البدع؛ ما يعني التجديد، وما يعني الخروج من مستنقع آسن. لم يفعل الاستبداد سوى تكرار السلفية الدينية بتعابير غير دينية؛ ربما كانت علمانية أحياناً. يتحرر المجتمع من الاستعمار. التحرر هو جماعي الطابع. إذا لم يقد الى الحرية الفردية يبقى التحرر الوطني (الجماعي) طريقاً للاستبداد. يشعر الاستبداد بخطر المثقفين الحقيقيين على سلفيته، لذلك يحاول القضاء عليهم وفي ذلك خطر على المجتمع.