المساعدات الإنسانية لغزة تكمل المهمة الكولونيالية
في زمن الاستعمار (كولونيالية، امبريالية، إلخ..) الذي ما زالت له اليد الكبرى في بلادنا، لا يحكم المركز مباشرة بل عن طريق حكومات محلية، إحداها في منطقتنا “دولة” إسرائيل.
ليس بالضرورة أن يحكم المركز المستعمرات مباشرة، بل يمكنه أن يؤدي الغرض نفسه عن طريق حكومات. لإسرائيل مركز الامتياز، إذ هي تتلقى الأوامر مباشرة، وتكاد تشارك سادتها في صياغة القرارات وتنفيذها، وما أخطأ من سماها الولاية الأميركية الواحدة والخمسين.
يدفع شعب فلسطين، خاصة أهل غزة، الثمن غالياً. هُم الأكثر رفضاً للتركيبة الكولونيالية، خاصة وأنها تريد طردهم من أرضهم، ولا تخيّر إلا بين الطرد (التهجير) والإبادة. ما يحدث في غزة الآن حرب إبادة عن طريق القتل والتدمير والتجويع والتطهير العرقي، وصولاً إلى المساعدات الإنسانية. على الضحية أن تبقى على قيد الحياة كي يُمكن قتلها أو تهجيرها. تُمارَس كل أنواع الاذلال والتدنيس الجسدي والديني، كي تفقد الضحية كرامتها، والويل لمن يظهر عليه أنه لم يفقدها بعد.
دعونا نتوقف لحظة، قبل الاسترسال عند اختصاصيي الكلامولوجيا في بلادنا، وهم من يظهرون على الشاشات، ويُوقودون “الجيوش” الالكترونية، ويُدبّجون المقالات الصحفية، ويُذيعون أخبار الراديو، ويتولون برامج الترفيه للتثقيف “الحضاري” والديني. هؤلاء يتكلمون عن الجيوستراتيجيا أكثر من السياسة المحلية، لأن في قعر دماغهم ما يشير إلى ما لا يُظهّرون، وهو أن الحكم الامبريالي يُدار من الخارج، وأن الأمر والنهي بيد الدول الإمبريالية.
الاستعلاء سمة المستعمر، وكل من يمت بصلة إلى المركز. فالعنصرية ملازمة له، ومن الضروري أن يفرض على المستعمَرين وجميع المحكومين، حتى الذين منهم في بلاده، أنهم أدنى إنسانية، وأقل قيمة، وإلا لما كانوا يستحقوا أن يُحكموا. فيصير خضوعهم منة للحكام عليهم، وذلك يستدعي أن يدخل في ثقافة المحكومين، ويدخل في وعيهم وتشكيل مواقفهم. والإرهاب سمة تلصق بكل من خرج على هذا السياق. لذلك عقاب أصحابه يكون مباشرة، وخارج القضاء. فلا المرء يرى قبل أن يُدان، ولا يُدان قبل أن يُقتل؛ هو يُقتل وحسب.
الحرب دائمة على وجه الكرة الأرضية (وتحتها من أجل ثروات النفط والمعادن). وهذه الحرب تحتاج الى أسلحة، التي بدورها تحتاج إلى تطوير، كي يبقى صاحب التفوق على تفوقه. التطوير تلزمه أدوات التجريب. وما من سلاح جديد إلا ويكون له ضحايا بشرية هي أهداف التدريب. نظامٌ يحتاج إلى توسّع دائم. فالحرب مستمرة. وكل ذلك يلزمه الضبط بالعنف في معظم الأحيان، ونشر الأوبئة في بعضها. وما زال الجمهور يتحدث عن الكورونا، وهل حدثت مفتعلة أو جاء انتشارها “طبيعياً”؟
السلاح الأيديولوجي أمضاها وأشدها فتكاً. استدعى الأمر استدعاء الله، عزّ جلاله، كي يُسجل لليهود أرض فلسطين. فتم الإستشهاد بالكتاب المقدس، الذي جعل منه سجلاً عقارياً. وكانت الحرب على أقوام العرب الذين لا تحق هذه الأرض لغيرهم، إلا عن طريق قداسة ما. فسيّرت جحافل الصهيونية المسيحية التي ولّدت الصهيونية اليهودية، ووضعت معامل السلاح في خدمتها. وبالطبع تكون الأرباح لأصحاب المعامل وأرباب تطوير السلاح ومراكز التفكير والبحوث، التي توضع في خدمة الإمبريالية، ويظنها أصحابها للعلم، والتي من أهم أعلامها رؤساء الجامعات الكبرى. على هؤلاء أن ينصاعوا ويسبحوا مع التيار وإلا كان مصيرهم العزل، كما حدث مؤخراً في ثلاث من أهم الجامعات الأميركية. الحرية تنبع من الضمير، ومن لم يُدجّن ضميره يترتب عليه الخروج من بيت الطاعة.
هو نظام الكون. سمه رأسمالياً أو ما شئت. فأحد كبار الرأسماليين، وربما كان أوسعهم ثراء، وهو أحد دعاة استعمار الفضاء (إيلون ماسك)، جاء على فلسطين على عجل ليعتذر من إسرائيل لشيء قاله، ولم نفهم منه أن فيه عداء لها أو للسامية أو ما شابه ذلك. اللاسامية جريمة تستحق العقاب مباشرة كالإرهاب، فسبحان رب العباد. صنفنا أهل النظام في أواخر القرن الثامن عشر ساميين، نحن العرب، ونحن الآن بنظرهم أشد اللاساميين.
خرجت إيران على النظام، ومنذ ذلك الحين لا تعرف سبيلاً للرجوع إليه. فتحت لهم أبواب “مختبراتها”، لكنهم عادوا ومزّقوا الاتفاقية. وإيران ليست سامية، بل آرية حسب تصنيفهم العرقي، والعداء لها ليس عرقياً، بل دينياً. والدين يُستخدم لمصلحة النظام الأعلى. ولا حتى دينياً، فالدين الإيراني أقل استفزازاً لهم من غيره مما يوجد عند أكثرية العرب. لكنه الخروج على النظام؛ والعودة إليه يلزم أن تكون غير مشروطة. فللنظام حرمته. على الكرة الأرضية خمس عشر دولة ذات سلاح نووي، إلا أنه محرّم على إيران. الخروج على النظام له عواقبه.
يستحق المحكومون القتل والتهجير، ويستحقون في نهاية المطاف المساعدات “الإنسانية”. وهي إنسانية بالنسبة لمن يُقدّمها، بينما المتلقي أقل إنسانية مما يشاع عنه. نعت الآخرين بالتوحش والبدائية لا يفارق ألسنة السادة الذين لا يمكن وصمهم بالعنصرية. لا لشيء إلا لأنهم سادة.
لن تأتي المساعدات إلا عبر ميناء يُشيّد لهذا الغرض. ولا ندري هل يتحوّل المؤقت الى دائم، والمساعدات إلى احتلال. فهل قصّرت إسرائيل ليتولى الأمر الأميركيون مباشرة؟ وهل في الأفق مشاريع استراتيجية لا نعلم عنها؟ هل نُفاجأ إذا إكتشفنا أن كل ما يقال لنا من الإمبريالية كذب؟ أو السؤال حقاً هو هل سيبقى أهل غزة على قيد الحياة لحين الانتهاء من بناء الميناء؟ ومن بقي منهم حينها يكون إما معطوباً جسدياً أو مصاباً نفسياً، علماً بأن الإسرائيليين لم يُقصّروا في تسبيب ذلك، وصولاً الى رفح التي يُقدّر لها المجزرة الكبرى.
يحسب حكام النظام العالمي أن اختتام “الهولوكوست” الغزاوي لا بدّ أن ينتهي بمساعدات “إنسانية” لتحسين الصورة . إذ أن للرأي العالمي وزن لا يستهان به بعد أن ارتكبوا كل ما يُمرّغ أنف الأخلاق الإنسانية بأوحال الحرب التي كان يمكن تحقيق الأهداف بدونها. لكن الصور المرئية على الشاشات كل يوم، وكل ساعة (نساء وأطفال ورجال يبكون ويتسولون)، قد فعلت فعلها في نفوس بقية العرب، الذين يُغلّف الذل وجوههم، بل أصبح جزءاً من حياتهم اليومية، وغذائهم الذي يقتاتوه.
بيد أن خطوطاً استراتيجية تُرسم لممرات تجارية من الصين إلى أوروبا، تمر عبر المحيط الهندي والحزيرة العربية، متحاشية قناة السويس والبحر الأحمر. وهذا نراه على الشاشات بين الحين والآخر؛ وهي طبعاً تنتهي في ميناء إسرائيلي. ملاحظتان لا بد من الإشارة إليهما، أولاهما أن القصف الحوثي للسفن في البحر الأحمر يخدم هذا الغرض، ثانيتهما أن ذلك لن يُضّر بمصر فقط، بل سيكون مكافأة لإسرائيل على ما ارتكبته من جرائم. فالمساعدات الإنسانية تُرطّب الأجواء لما هو آت.. والآتي أعظم.