الندرة وافتعالها والحرب القادمة
تفترض الرأسمالية الندرة. إن لم تكن موجودة تخلقها. هدفها المنافسة والحرب. الحرب تعني القوة. القوة تمنح أصحابها وضعا أفضل في التبادل. خرافة هي العدالة في التبادل. لا كمية من مادة أو فكر تساوي كمية أخرى. العدالة في التوزيع خرافة. أكثر الخرافات زيفا هي أن الأجور تساوي قيمة العمل. لو كان الأمر كذلك لما كان هناك ضرورة للعمل. يعمل الناس عند الرأسمالي، صاحب الرأسمال، أي صاحب القوة والسلطة. يقبضون أقل مما يفترض أن يساويه عملهم. ما يُسمى فائض القيمة حقيقي. هو الربح الذي يسعى إليه صاحب العمل. ترتفع الأجور عندما يقل العمال ويزداد الطلب على الأيدي العاملة. يجب أن يكون هناك فائض من البشر (والعمال) من أجل تدني الأجور. يحب الرأسماليون الفائض لا الندرة في الأيدي العاملة، كما يحبون وفرة المواد عندهم لا عند غيرهم، فذلك يرفع الأسعار ويزيد من ربحهم. يسعى الرأسماليون من أجل الوفرة عندهم والندرة عند غيرهم. لذلك يتقاتلون ويتنافسون ويتحاربون في سبيل حيازة المواد الأولية وما تعطيه الأرض من زراعات. خلق الندرة لا يكون إلا بالسيطرة على المواد الأولية، وعلى الدول التي تحوي عليها. يكون ذلك غالبا بالعنف وأحيانا بالتبادل التجاري لكن دائما بأسعار متدنية! سواء كان بالعنف أو بالتبادل يكون سعر الشراء متدنياً. معظم البلدان التي تستخرج منها المواد الأولية هي بلدان عالم ثالث تخضع فيها القوى العاملة للقمع وأنظمتها ديكتاتورية، وإذا حصلت فيها انتخابات ديمقراطية، تكون شكلية مفرغة من مضمونها الديمقراطي. حيث لا مساهمة لأصحاب الحق في القرار بشأنها.
تندر الأرض لأن المالكين يريدون ايجارات أكبر. تندر المواد الغذائية لأن الشركات الزراعية الكبرى تريد أسعارا أعلى. يندر المال لأن الرأسمالية تريد فوائدا أعلى على الديون التي تقرضها. تندر المياه لأن الطبيعة عشوائية في الجود بها، ولأن الأقوى يحتكرون مصادر المياه. يندر النفط لأن كارتيل النفط يأخذ قرارات بخفض الإنتاج لرفع الأسعار… وهكذا دواليك. ولكل مادة من المواد الأولية كارتيل من الشركات، كالحديد والنحاس، أو القمح، أو غيرها. يتلاعب كل كارتيل بالأسعار كي يخلق الندرة ويحقق أرباحا أعلى. لا يتكوّن الكارتيل من ضعفاء بل من أقوياء من شركات احتكارية، وإذا افتقدت للقوة فإنها تجد في دولها سنداً لها. جيوش الدول الكبرى مهمتها الأولى حماية الشركات الاحتكارية، وإذا كان الكارتيل في بلدان ضعيفة فإن الدول الكبرى تحميها، إلا إذا خرج حكامها على سياسات الدول الكبرى. الفرق بين فنزويلا والسعودية هو أن هذه الأخيرة تتلقى الدعم العسكري الخارجي المطلوب بعكس فنزويلا. حرب اليمن مفتعلة. هي حرب بالوكالة بين دولتين (ايران والسعودية) لضمان انضوائهما تحت لواء الدول النفطية الكبرى. ايران والسعودية، كل منهما واجهة لصراع أعمق في منطقة عربية هي الأهم في إنتاج خام النفط.
إذا كان الماء أهم السوائل على الكرة الأرضية، فإن التمكن من مجاري الأنهار في بلدان المنبع أمر مهم ليتم التمكّن من سياسة دول المصب. في حالة النيل والفرات ودجلة وبلدان المصب العربية، ليس غريبا افتعال الندرة في المياه لتطويع هذه البلدان وتدجينها. احتكار القمح لدى الولايات المتحدة والحليب الأوروبي واوستراليا يعني أن بلدان المنطقة العربية ستعاني المجاعة في حال امتناع كارتيلات الحبوب عن التصدير لها. في بلدان تزرع البطاطا، لا تستطيع بلاد مثل بلدنا أن تزرع هذه المادة دون استيراد البذار، إذا هو مصنّع كي لا يفيد إلا لسنة واحدة. حتى لو كان لبلدنا أراضي واسعة، لا يستطيع زراعتها إلا إذا استورد البذار.
افتعال الندرة هو دائما تهديد للبلد المستورد بالمجاعة. التهديد بالمجاعة يؤدي الى حركات شعبية لدى الدول المستوردة، فعليها الانضواء. إذا حصلت المجاعة في بلد من البلدان فهي تؤدي للموت. تؤدي المجاعة الى فقدان المناعة وانتشار الأوبئة. أحيانا يبدأون بنشر الوباء مخبريا! الأمر بكل اختصار هو تهديد دائم بحرب إبادة. ليست حروب الإبادة عشوائية بل نتيجة لاختلال البيئة، تفرضه الطبيعة. ما يحدث في الطبيعة هو من فعل الإنسان، فعل الأقوى؛ الرأسمالية. وهذا الأمر هو في أصل حروب الإبادة. ليس بالضرورة أن تحدث حروب الإبادة بالسلاح والنزاعات أو ما يسمى الحروب الأهلية؛ إنتاج الفقر واحد من أسلحة الدمار الشامل الذي يهدد دائما شعوب العالم العاشر الذي كان ثالثاً. الفقر مجاعة مستترة، لكنها يمكن أن تنفجر في أية لحظة سياسية مؤاتية.
المنطقة العربية تتوسّع فيها الصحراء، وتتراجه مساحة الأرض الزراعية. يحدث الأمر نتيجة عجز حكومات هذه البلدان عن معالجة الأمر. كل واحدة من هذه الحكومات ممسوكة من رقبتها. العجز مفتعل. تنفّذ الحكومات المحلية السياسات المطلوبة منها. إذا أرادت معالجة مشكلة ما كالتصحّر فإنها سوف تعاني حصاراً أو حصارات في قطاعات اخرى بضغوط أجنبية امبريالية. لا تملك هذه الحكومات رسنها ولا تستطيع تقرير اتجاهات التنمية لديها. تعالج قضية الماء، فتبرز قضية استيراد الحبوب. تعالج قضية إسرائيل، فتبرز قضية الماء والحبوب. يكفي التحدث عن إصلاح زراعي وبرنامج تصنيع حتى تقوم الدنيا ولا تقعد. تهرّب رؤوس الأموال، ويتوقف الاستثمار، كما حصل في أسيا الشرقية عام 1997، مما أدى الى أزمة خانقة، فاضطرت هذه البلدان الى الخضوع لصندوق النقد الدولي وإعادة الهيكلة. الاستقلال يستدعي وجود حكومات قوية بمعنى وجود الرؤية وفهم الاقتصاد العالمي والقوى السياسية والمالية، وهي الأهم، التي تديره.
الفقر ليس أمرا تلقائيا، كي لا نقول طبيعيا. لا يصير المرء فقيرا لأن الطبيعة أرادت له ذلك. الإنسان يصير فقيرا، ولا يولد كذلك؛ يصير فقيرا بسبب النظام الاجتماعي الاقتصادي. وإذا لم يكن ماهرا في جمع الثروة فهو لن يتخطى حالة الفقر أو الاكتفاء. والنظام الرأسمالي العالمي لديه تخمة بالدراسات حول الفقر وكيفية محوه، وليس لديه إلا القليل حول الثروة وآثارها وأسبابها أيضا. يمدح بعض الشعراء الفقر والعفة. البعض يندر نفسه للفقر. لكن أي اعتبار للفقر على أنه ليس وباء هو إجحاف وظلم. الفقر صناعة بشرية يفرضها النظام الرأسمالي كما كل الأنظمة الاجتماعية التي سبقته. هو ينقلب الى مجاعة عند أي خلل في البيئة ينتج فيضانات وأعاصير. مع الخلل الدائم الذي يصيب البيئة الآن في كل العالم يصير الفقر حالة مجاعة أو ما يشبه ذلك. تفقد الأبدان مناعتها وتتفشى الأوبئة. يعم الموت ويتهدد مستقبل البشرية كما هو الآن. الأوبئة نتائج لا أسباب. الإيحاء الآن أن الكورونا صنع مختبرات يطمس حقيقة أن الأوبئة كانت تتردد كثيراً وتتوالى في المجتمعات البشرية برتابة. وكانت تعيق تكاثر البشرية.
الربح والفائدة والريع، كلها ريوع، وكلها اقتطاع من عمل الطبقات الدنيا، وكلها تعرّض البشرية للفقر والجوع والموت، وذلك بتوليدها الفقر، وباستغلالها الطبيعة (البيئة) دون التزام بأي مبادىء مناسبة غير مبدأ الربح، وبتلاعبها بالحكومات لمنع إقرار وتطبيق قوانين الحفاظ على البيئة وخفض انبعاثات الكربون وإلغاء الاحتباس الحراري، وبالإجمال القضاء على الطبيعة. تعتقد الرأسمالية أنها طبيعية لدرجة الاعتقاد أنها هي وحدها الطبيعية، وأن البشرية يعتمد وجودها عليها فهي صانعة المجتمع وبشره. تعتقد أنها هي الطبيعة التي يجب أن يلجأ إليها الإنسان. تحتكر الحرية وتغتصب الديمقراطية، فلا قيم إنسانية إلا القيم المؤسسة عليها وعلى المنافسة وشبق الربح.
لكن الرأسمالية لن تفلت من تناقضاتها الداخلية؛ وهي على العكس سكرى بانتصاراتها وقيادتها للبشرية. فهي إذ تنتصر على البشرية تنتج إنسانية وعالما مهزوما. والمنافسة حول موارد الأرض تخلق فوضى كفيلة بالقضاء على الحضارة والبشر الذين بنت مجتمعاتهم الحضارة. لن ترحل الراسمالية قبل رحيل البشرية. فهي إذ تصادر عمل الإنسان ونتاجه، تصادر وجوده. هي لا تأبه للندرة والفجوة بين الموارد والاستهلاك واتساع هذه الفجوة بما يؤجج الصراع على الموارد “ويبشّر” بفوضى تؤسس لها المنافسة على الموارد. ما نسميه الآن منافسة سيكون فوضى. وهذه لن تكون خلاقة بل مدمرة؛ خلاقة للدمار وحسب. وقد بدأنا نشهد تفكك المجتمع البشري واحتضار حضارته بالفردية التي دفعت الى أقصاها، فلم تعد الصلات البشرية تعني شيئا. ويسمونه تواصلاً. وهو تواصل بين بشر أفراد تعيد الميديا تشكيلهم ليتواصلوا مع الآلة الذكية لا ليتواصلوا فيما بينهم.
تضع التكنولوجيا نفسها وسيطا بين البشر. يصير الوسيط حاجة لا بدّ منها. يفقد كونه وسيلة ليصير غاية تسيطر على الإنسان وطموحاته وآماله. الفرد الذي تعيد التكنولوجيا تشكيله واستعباده حزين ذو شخصية مفككة مضطربة، لا تنفع المعالجة السيكولوجية في إنقاذه. تحوّل الرأسمالية الندرة الى فقر، والفقر الى جوع، والجوع الى حقد، والحقد الى منافسة، والمنافسة الى حرب، والحرب الى إبادة.
الندرة ليست معطى من معطيات الطبيعة بل هي من خلق الحضارة الرأسمالية. الندرة علاقة نسبية بين الموارد والاستهلاك. ازدياد الاستهلاك الى حدود لا نهاية لها هو الذي يؤدي الى الندرة. لولا الاستهلاك اللامتناهي واللامحدود لكانت الندرة وفرة. الاستهلاك لا يعبر عن الحاجات بقدر ما يعبّر عن رغبات تولدها تكنولوجيا الرأسمالية في الإنسان، وتقف سدا منيعا في وجه تلبيتها إلا عن طريق الفقر والإفقار وتشليح الإنسان مما يمكن أن يكون مصدر غناه المادي والروحي. مصدر بؤس الإنسان ليس الندرة أو الوفرة في الموارد بل الوفرة في الرغبات المخلوقة والمفتعلة مما يلغي الأخلاق. لم يعد ممكنا استرجاع الأخلاق، إذ تحل الرغبات مكان الحاجات. اقتران الرغبات بالتكنولوجيا جعل من الإثنين بداية لسقوط الحضارة بعد تدمير الأخلاق.