النيو – مثقفون
النيو-مثقف غير المثقف الجديد. هذا الأخير تطوّر حاصل لدى المثقفين المعتادين. أما النيو-مثقفون فهم نوع مختلف تماماً. النيو-مثقف ذكاؤه في جيبه لا في دماغه. في الحالات القصوى يحل الهاتف الذكي النقال مكان الدماغ في تداول المعلومات. النيو-مثقف لا يحمل ذاكرة في رأسه. يعتمد على الهاتف الذكي بالكامل. يفقد القدرة على الربط بين المعلومات. الربط أساس العقلانية، إذ يثفرَّغ الدماغ منها.
الدماغ الفارغ سمة مثقّف العصر. هو بالتالي قابل للتطويع والتجنيد والحشو بأية أفكار يريدها أرباب العمل والميديا. هم يربطون بين المعلومات، وهو ينفّذ ما يمليه عقلهم عليه، وعلى عقله الفارغ. بعضهم يستعين بالهاتف الجوال للتعويض عما ينقصه، ومعظمهم يعتمد عليه بالكامل، حتى فيما يتعلّق بجدول الضرب والقسمة. ولا ندري إذا كان ذلك يشمل الجمع والطرح.
يتمتّع النيو-مثقف بحس من التفوق لا مبرر له. إذا كنت تجلس مع واحد منهم، وأنت لا هاتف لديك، فهو يستقوي عليك بما لديه. تصير أنت بانتظار جوابه المقتلع من احدى موسوعات الميديا. في الانتظار دونية أو تبعية. صاحب الجوال يعرف ما لا تعرفه أنت. الحقيقة أنه لا يعرف، بل هاتفه يعرف. تصير أنت والنيو-مثقف عبيداً للهاتف.
تجلس أنت والنيو-مثقف في صالون أو مقهى، ربما مع آخرين. هو لا يهتم لك ولهم. عينه وقلبه على الهاتف وفيه. هو ينتظر رسالة جديدة. يبشركم بها حين تأتي. وحين لا تكون هناك رسالة، هو يتسلى بالقديم منها أو باحدى الألعاب. يضع نفسه خارج النقاش الدائر. يقف على تلة تشرف عليكم. يصير له التفوّق الأخلاقي. هو الذي يملك التكنولوجيا الحديثة.
بالطبع لا يشارك حامل الجوال في النقاش الدائر بين الزملاء، ويبقى بصره على الجوال. هو كمن يقول “أنا بينكم لكنني لست منكم”. في ذلك فقدان لملكة التهذيب وما تعنيه من انضباط وأخلاقية ولياقة. أحيانا ترى مجموعة حول طاولة أو في صالون، وكل واحد منهم يحمل الجوال ويتعمّق فيما يراه. لا يهتم أحد بالآخر. الاحترام متبادل بين الجميع.
يفقد النيو-مثقف الحس الجمالي. نادراً ما يكون هندامه متناسق الألوان أو ملائماً لنوع الحضور الاجتماعي. هو لا يحتاج الى المجتمع. يمكن أن يحضر بأية حلة. المهم أن يستر عورته. يفقد حس التناسق والجمال.
أما عندما يختلي بنفسه، فإن رفيقه الجوال يستطيع تزويده بصور وفيديوهات لا تحتاج الى ارتداء الثياب. يستطيع أن يمارس ما يشاء. أقرب الأشياء اليه هو الهاتف الجوال الذكي. يقع في غرامه. لا يحتاج الى صديقة أو صديق، ولا الى زوجة أو غير ذلك. خدمة الذات متوفرة. يخدم نفسه بصحبة الهاتف الجوال الذكي. يفقد ما تبقى لديه من ذكاء.
يعيش النيو-مثقف في عالم افتراضي. تتفوّق رغباته على إرادته. هو أصلاً مشلول الإرادة. لا يعرف أن المعلومات التي يستخرجها من الجوال مبرمجة وان هذه المعلومات تبرمجه هو. الهواتف الذكية مربوطة بمركز يديرها ويدير من يقرأها ويعتمد عليها. الإدارة في الخارج. تصير التبعية للخارج تلقائية وعفوية. لا ندري ما قدرة حامل الجوال على التمييز واتخاذ رأي مع ما كان يفترض أنه ضميره.
في العالم الافتراضي حقائق أو وقائع. وهناك الوقائع البديلة المخترعة. الوقائع البديلة استخدمت في انتخابات دول كبرى وأدت الى نتائج لا تتفق مع المألوف أو المتوقع. هناك جدل كبير حول الوقائع والوقائع البديلة؛ حول الحقائق والأكاذيب. لا شيء يمنع أن يقع حامل الجوال تحت وطأة الأكاذيب. العالم الافتراضي غير الواقع أصلاً. وهو يكوّن لدى حامل الجوال جملة من المشاعر والآراء والمواقف التي ما كانت لتحصل لولا الأكاذيب. هي تُبنى على هذه الأكاذيب.
وقاحة الوقائع البديلة وأصحابها لا تُحدّ. هم يتمتعون بصدقية بديلة. مصداقية مشكوك فيها. دماغ حامل الجوال أسير هذه اللامصداقية. حامل الجوال يحدّق فيه أكثر مما يقرأ الجرائد والكتب، وأكثر مما يتحدث به الى أقرانه. الغرام بالجوال يقود الى معرفة زائفة عن واقع بديل. لكنه واقع مبرمج يقرره من يتحكم بالأمور. تبث الأحكام من غرف مركزية لا نعلم الكثير عنها. لكننا نعلم عن بعض نتائجها. هذه النتائج تثير جدلاً حول العالم.
العقل المستريح يستسلم لما يتلقى من “معرفة” مع فقدان القدرة على الربط، ويفقد القدرة على التمييز. يزداد استسلامه واسترخاؤه أمام ما يرى. يفقد القدرة على الشك والتخمين والظن. يفقد القدرة على توفير الاستطاعة الفكرية لتكوين حكم مستقل أو أحكام مستقلة.
في بلداننا العربية عقل مستريح سمته الأساسية الاندهاش أمام تقنيات الغرب. لم يتعلم منها أن تكون له تقنيات خاصة به. يعتقد أصحاب هذا العقل المستريح أنه يستورد تقنيات فقط. يستوردها مع المعلومات “والمعرفة” التي تكوّن تفكيره. عن طريق التقنيات يفقد تراثه وتتغيّر رؤيته لقضايا مجتمعه.
تغيير التراث أمر قديم. قوى الاستبداد تفعل ذلك منذ زمن طويل. الحاضر يكتب الماضي. الحاضر يصوغه الأقوياء. الأقوياء في بلادنا هم الطغاة وأتباعهم.
أما قضايا الناس والمجتمع فهي كثيرة وملحة. بعضها يهدد الوجود العربي. يقول النيو-مثقفون أن رؤية الناس لقضاياهم تغيرت. ولم يعد لديهم اهتمام. ألا يحق لنا أن نتساءل حول دور هؤلاء النيو-مثقفين، وحملهم المجتمع على اليأس والقنوط والاحباط؟ هناك تضاؤل لقدرة المثقفين التقليديين أمام حاملي الجوال الذكي.
يقال أن الجوال الذكي ساهم في إشعال الثورات العربية في عام 2011. لماذا لا يقال أنها ساهمت أيضاً في إفشالها؟ المعروف من خلال التاريخ القديم والحديث أن الثورات قد تنشب نتيجة عوامل موضوعية. معظم الذين شاركوا في ثورات 2011 كانوا ممن لا يستخدمون الجوال. هل ما عاد وارداً الحديث عن روح التاريخ؟