9
Aug
2024
0

تعددت الأسباب والموت واحد

السؤال الذي يتردد على ألسنة الناس في كل زمان ومكان هذه الأيام، هو هل ستقع الحرب؟

يحتار الواحدُ منا في الجواب. نعرف جيداً من خلال وسائل الإعلام أن التحضيرات والتجهيزات للحرب قائمة وكأنها قاب قوسين أو أدنى؛ وفي واقع الأمر، يفترض كثيرٌ من الناس أنها سقع. ففي فصل الذروة في لبنان، يفوق عدد المغادرين أولئك القادمين بما يقارب الضعف.

الطيران الحربي الإسرائيلي يستمر بالتحليق في الأجواء اللبنانية ولا سيما في أجواء العاصمة؛ أنباء يومية عن لقاءات ومؤتمرات للذين بيدهم الحل والربط من قادة الجيوش والأمنيين والسياسيين في الشرق الأوسط والعالم للبحث في شؤون منطقتنا وتقرير مصير الناس فيها من دون إخبارهم بشيء عما يجري أو سيحدث أو القرارات التي تُتخذ أو يُزمع أن تُتخذ.

بالطبع أمر الناس لا يهم الوفود الآتية أو الذاهبة. فحساباتهم حول الربح والخسارة والنصر والهزيمة، هي عن أشياء أخرى. إسرائيل تُدمّر وتقتل بالجملة، وتشن حرب إبادة ضد الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه، تغتال غدراً قادة الفصائل والعسكريين والسياسيين. فكأنها تفعل ذلك ليس فقط لحرمان فصائل المقاومة في المنطقة من ذوي الخبرة الأكبر، بل أيضاً للتغطية على الجريمة الأكبر في تدمير غزة وإبادة شعب فلسطين الذين تفوق أعدادهم أعداد من هم في السجلات. أما الذين ما زالوا مدفونين تحت الركام، فلم يحظوا وهم موتى بشرف الاندراج في السجلات. فالخراب منظور والدمار مشهود، وهذا بالنسبة للحجر، أما بالنسبة للبشر، فما زال من غير الممكن تتبّع من قتل ولم يدفن ممن كانوا أحياء وماتوا من دون تسجيل.

في سياسة الغرب، أمن إسرائيل هو الوحيد المعتبر، أما اتفاقات السلام منذ أوسلو والبيت الأبيض، وقبلهما كامب دايفيد ووادي عربة، وبعدها اتفاقات “التطبيع” مع عدد من البلدان العربية، فلا تُؤخذ بالاعتبار ولا يُنظر إليها بعين الرضا عند إسرائيل وقادتها الذين جاؤوا إلى السلطة في المرحلة التي تلت اغتيال رئيس الوزراء اسحق رابين (1995).

ما يُلوّحُ به عن “السلام” و”المفاوضات” في إطار ما يُسميه الأميركيون “عملية السلام” هو “ضحكٌ على الذقون”، كما يُقال بالعامية. فالسياسة الحقيقية التي ينتهج الإسرائيليون طريقها هي التفاوض الى ما لا نهاية، وفي الوقت نفسه، قضم الأرض الفلسطينية، وشنّ الحروب، وإذلال العرب الذين لا تكفيهم إسرائيل بل تأتي إلى البحار المحيطة بالوطن العربي عشرات السفن الحربية الأميركية والأطلسية لتأكيد وجهة نظر دعاة الحرب في إسرائيل، ومد حكومة بنيامين نتنياهو بالمزيد من العون بالمال والسلاح برغم ما عندها، وما سبقوا أن أعطوها.
يناقش الناس مسألة الحرب وتوقيت وقوعها، كأننا لسنا في حرب، وإذا اتخذت أشكالاً أخرى أو اضطرم لهيبها بضراوة، فذلك لحكمة يُقرّرها أولياء الأمر، ويناقشها الخبراء على الشاشات. فكأنهم يعرفون المخفي وما يُمكن أن يُخبىء لنا الزمان. النقاش ضروري لكن على أساس الدراية بما يُحاك وراء الستار، وما يُضمر في النفوس ولا يُعلنه الرؤساء والقادة، وبخاصة الوسطاء والخبراء الذين بعضهم لم ينبت شعر ذقونهم، وبعضهم عفا عليه الزمن (أطال الله بقاءهم)، وبعضهم مكلف لإعطاء تحليلات تناسب هذا الفريق أو ذاك، وبعضهم يتلمس طريقه في ليل التغشية والتعمية.
بقي أن نُصنّف الحرب إلى نوعين: الأولى هي الحرب التي نحن فيها، والثانية هي الحرب الحربية. نعرف من الأولى ما يُقال لنا، لكننا نعيش ونعرف وطأتها وأحياناً كثيرة لا نستطيع تفسير هذا الحدث أو ذاك، إلا بالتحقيق والاعتماد على إشارات أو علامات من هنا وهناك. أما الحرب الحربية فهي شأن لا نستطيع إلا السؤال عنه، وتوقع أجوبة غير مقنعة. والناس محقون في حالة التدافع، ذهاباً وإيابا؛ عفواً، الذهاب ضعف الإياب.

بدأنا نُعوّد أنفسنا على نوع جديد من الهجرة القسرية. كان المهاجرون يفعلون ذلك تركاً لوضع ميؤوس أو شبه ميؤوس منه، أو توقعاً لمستقبل أفضل في بلدان أخرى. أما الآن، فنقول لأولادنا وأحفادنا الذين يعملون أو يدرسون في الخارج: “نرجوكم أن لا تأتوا لرؤيتنا هذا الصيف، لأننا لا نعرف ماذا ينتظرنا وينتظركم”. ولا ندري إذا كان السادة المسؤولون يعرفون. وقد قيل شعراً:
فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً/ حَفِظتَ شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ
قسمٌ من لبنان يقيم أهله المهرجانات والحفلات، والقسم الآخر يعيش متوتر الأعصاب لما ينتظره من الحرب الحربية. مهما كان الأمر، يبدو أن ثقافتين متوازيتين تتقاسمان البلد، وكأنهما خطان لا يلتقيان. والخطورة الأكبر ليست في الحرب وحروبها وحسب، بل في الانقسام الثقافي الذي فيه احتمالات افتراس وحدة البلد السياسية. لا نستطيع إلا التعاطف مع الذين منا يعيشون المواجهة. ولا نستطيع في الوقت نفسه لوم من يريدون عيش المهرجانات. وسوف ينزعج من هذا الكلام هؤلاء وهؤلاء. ولا يلام أحد على ذلك.

كتبت سابقاً عن عالم يحترق، والآن أكتب عن واقع لا أعرفه، وأنا أدرك تمام الإدراك أن الحياة في فلسطين وجنوب لبنان هي مأساة.

نعم، لا بد من الاعتذار عن الكتابة غير الخطابية. تحكيم العقل صار صعباً، إن لم يكن مستحيلاً. سُئلَ مرة العالم الإقتصادي الإنكليزي جون مينارد كينز خلال محاضرة كان يلقيها بعد الحرب العالمية الثانية، على ما أظن، وقيل له: حدّثتنا عن المدى القصير ولم تذكر لنا ماذا عن المدى الطويل. فأجاب: على المدى الطويل كلنا مائتون. وما أبشع من قال:

وَدِدتُ عَلى حُبِّ الحَياةِ لَوَ اَنَّها/ يُزادُ لَها في عُمرِها مِن حَياتِيا.