تفوّق الطبيعة على الإنسان
تذّكر أيها الإنسان أنك صغير وتافه وحقير. يذكرنا الزلزال بذلك كما جرثومة صغيرة كذلك قبل ثلاث سنوات. رغم ذلك لا يتوقف الحديث عن العلم والمعرفة سبيلاً للسيطرة على الطبيعة. مع التقدم التقني يتضاءل التواضع.
حالما تقع الكارثة ترتفع الأصوات داعية للمساعدة والتعاون. أما كان أجدر أن يكون التعاون البشري هو الأمر اليومي؟ نرى النمل ينتظم تلقائياً في العمل والجهد والتعاون. هل النمل أكثر تفهّماً من الإنسان؟ أم أنها مجرد غريزة؛ وأي غريزة هي المتأصلة في الإنسان تدفع بني البشر الى التنافس الدائم، بل الحرب بعد الأخرى، وصولاً الى الإبادة.
يتباهى الإنسان ويتفاخر على غيره من الكائنات بالنطق والتفكير ويتناسى أن:
والذي حارت البرية فيه…. حيوان مستحدث من جماد
كما قال المعري.
يقال أنه كان يقف وراء القيصر الروماني رجل يهمس في أذنه بين الحين والآخر قائلا: تذكر أيها القيصر أنك إنسان. ألا يجب أن يكون هناك من يهمس في دماغ الإنسان بحاجته الى التواضع؟ هل تعوزنا دراسة التاريخ من أجل العبر (جمع عبرة) أم من أجل التيقن من صغرنا؟ أقرأ ذلك في كتاب جون لويس غاديس “صورة التاريخ” (Landscape of History) ولو كان يكتب عن الجغرافيا للتوصل الى الاستنتاج عينه. هنا لا بدّ من الاعتذار الى ابن خلدون على عنوان كتابه في التاريخ: “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر… في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”. والاعتراض هنا على تعبير “العبر”.
وقد قال أحدهم عندما غزت الولايات المتحدة العراق تذكيراً بحرب فيتنام، “أن الدرس الوحيد الذي تعلمناه من التاريخ هو أننا لم نتعلم من التاريخ”. سيبقى الإنسان صغيرا وتافهاً وحقيراً ما لم يتعلّم من التاريخ ضرورة التعاون البشري، والتقدم المعرفي والتقني في سبيل التعاون لا في سبيل السيطرة على الطبيعة أو الانتصار على البشر الآخرين. الانتصار على الطبيعة يعني في كثير من الأحيان تدمير البيئة وإبادتها، وإبادة تنوعها البيولوجي. والانتصار على الإنسان يعني حروب إبادة بمختلف أنواع السلاح، وهذا في الأصل ناتج عن استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ومصادرة نتاج عمله، وسلبه وقت راحته، وزرع القلق في دماغه، ومصادرة أرضه ومدخراته.
نظام رأسمالي ينتصر به بعض من البشر على بقية الناس وعلى البيئة، ويتباهى أصحابه بنجاحاته. نظام سواء كان واحد القطبية أو متعدد الأقطاب، هو دائما يسعى لاستقبال أقطاب جدد أو منعهم بشن الحروب في سبيل ذلك، أو يثير نعرات وعصبيات قومية ودينية ليشن الحرب بالوكالة عبر من ينوب عنه، وبتكليف منه ودعم منه بالمال والسلاح. وما أسهل أن تتقدم دولة فيعتقد حكامها أنها تستحق اعتباراً أكبر على المسرح الدولي. وما أسهل أن تغذّى النعرات الدينية والقومية لدى دول لا تطمح لأن تصير عظمى لكنها تتعرّض لحروب تشنها دول طامحة لتصير دول عظمى، أو دول تريد أن يكون لها دور أكبر على المسرح الدولي.
للتأكد من إمكانية إبادة البشرية بواسطة التنافس والحرب، أدى التقدم الى اختراع وتطوير أسلحة دمار شامل بيولوجية وكيماوية وغيرهما، وأهمها النووية.
ما من دولة تهدف الى مركز مرموق في ميزان القوى الدولي إلا وتسعى الى امتلاك السلاح النووي، فتصير من بين قبضايات الحي. ما ينفق سنوياً على آلات القتل حول العالم يكفي لإزالة الفقر والجوع لو حلّ التعاون مكان التنافس والعدائية. حتى المال سلاح دمار شامل. أدركنا ذلك في لبنان. صار المال ورقاً تطبعه دول عظمى، وأهمها الولايات المتحدة، لكنه يستبدل بسلع تُنتج حول العالم، وهي نتاج عمل الفقراء، فتصير بالشراء ملك الأقوياء. لنا الورق ولهم السلع بحماية جيوش وأساطيل. الورق المطبوع مالاً لا قيمة له إلا أن مصدره القوة العسكرية، وأهمها أسلحة الدمار الشامل، وأهمها النووي. سلاح آخر هو تدمير البيئة دون إيجاد بديل عنها. يتغنون بالطبيعة ويسعون للسيطرة عليها وإبادة ساكنيها. هذا الإنسان الذي يفخر بانجازاته ويمنح الجوائز، وجائزة نوبل واحدة منها، لمن يبدع على طريق التقدم، وفي نفس الوقت تأتي جرثومة هي في حقيقتها أقل من خلية كائن حي (هي بروتين له كيانه ويسمونه فيروس) لتكم الأفواه وتباعد بين الناس، وتحبس الناس في بيوتهم (إن كان حظهم يتيح لهم السكن)؛ ثم تأتي الزلازل الكبرى لإبادة عشرات بل مئات الآلاف، والحبل على الجرار. لا يفيق الإنسان على ضرورة المساعدة، وهو شكل من التعاون، إلا عند وقوع الكوارث الكبرى، أو لا يكون ذلك في العادة إلا مؤقتاً لتعود “حليمة الى عادتها القديمة”، وتبقى العادة في معظم الأحيان هي القتل والدمار والإبادة. يكتشف الإنسان أن الطبيعة تتغلّب عليه بزلزالها أو بفيروسها؛ وما دام الإنسان لا يأخذ العبرة من ذلك فلا معنى لجميع العبر الأخرى. كل العبر الأخرى مضرة، إذ تدخل في باب التنافس والقتال، ما عدا هذه العبرة الأساسية والوحيدة المفيدة، لا بل الضرورية لبقاء الجنس البشري. هل يمكن لزلزال الكرة الأرضية أن ينبّه الإنسان الى زلزال الفقر الذي يحيل حياة المليارات البشرية الى البؤس والجوع والإبادة ولو بقي الفقراء أحياء؛ لكنهم أحياء أموات. زلزال الأرض يعمل بالصدمة أما زلزال الفقر فيعمل ببطء. يشنون حملات يسمونها حروباً على الفساد وعلى الإرهاب، وهي حروب كاذبة تهدف الى صرف وعي الناس عن المشكلة الحقيقية. والأولى شن حرب حقيقية على الجشع والطمع بما يملكه الغير أو الحيلولة دون أن يملكون شيئاً. لو أن نظام العالم الاجتماعي والسياسي والأخلاقي أعطى الأولوية للتعاون على التقدم، وأخضع الثاني للأول. نظام رأسمالي قائم على المصادرة، وسلخ نتاج عمل الناس، والإخضاع والسلب، ولا يؤدي إلا الى نهاية واحدة هي نهاية البشرية. يقال وسيقال أن كلامنا عن التعاون طوباوي وأن نظامهم الرأسمالي هو الواقعية. إذا كانت الواقعية تعني في النهاية إبادة البشرية، فمرحى لنا بالطوباوية.
نقول هذا الكلام، وقد درج من نحن أمثالهم على قول ذلك عبر الدهور. لا أدري من اخترع بيت الشعر على لسان آدم، أصل الخليقة المزعوم:
تغيرت البلاد ومن عليها… فوجه الأرض مغبّر قبيح
وهذا يعني أن الكآبة هي النبراس الحقيقي للحياة البشرية منذ البداية.
زلزال شرق المتوسط (تركيا وسوريا) ليس حادثة شاذة، بل هي الأرض تتربص بالبشرية، وتنفجر بين الحين والآخر لتذكر الإنسان بصغره وتفاهته، وكلاهما يعبران عن حقارة أخلاقية لا يخفيها ما أحرزه الإنسان من تقدم.
استخلف الله الإنسان على الأرض فما أحسن (الإنسان) الصنع. إذا كان البشر مسؤولين عن أعمالهم، حسنها وقبحها، كما قال المعتزلة، فقد آن الاوان لخلق إنسان آخر أقل فشلاً.