حاضر العرب ومستقبلهم 8 – الثورة في عصر النيوليبرالية
لا تنجح الثورة في تحقيق أهدافها المباشرة إلا نادراً. لكنها تُغيّر مجرى التاريخ. بعد ثورة العام 1968 لم يعد العالم كما كان قبلها. وبعد ثورة 2011 ليس كما قبله. بعد الأولى توسعت الحريات وخصوصاً في المركز الغربي، أما بعد الثانية فقد ازداد منسوب القمع والاستبداد. الأولى حصلت قبيل مجيء النيوليبرالية المشؤومة. الثانية جاءت بينما كانت النيوليبرالية ما تزال تتوسّع وتتعمّق.
كان سلاح الجماهير خلال الثورة في عصر الليبرالية، ومنذ القرن التاسع عشر، الحزب أو الأحزاب، أو ما يقودها. الثورة في عصر النيوليبرالية الراهن سلاحها وسائل التواصل الاجتماعي. في الأولى عنف السلاح وفي الثانية عنف إلكتروني. الأولى تحتاج الى تنظيم وكوادر ومقاتلين يفعلون ما يفعلون باسم الجماهير وعن طريقها، والثانية تتوجّه الى الجماهير مباشرة دون وسيط بين الناس وبين الأهداف، حتى أولئك الذين أرادوا أو يريدون إسقاط النظام. الأولى تحتاج الى قيادة وبرنامج عمل والثانية يغلب عليها طابع العفوية وغياب البرنامج، حتى يكاد المتابعون يسمونها لا-ثورة. الفرق هو الاضطرار لسرية النضال ومتوجباته، والثانية مفتوحة، إذ كل شيء فيها علني على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، التي لا يمكن إلا أن تكون علنية ولو كانت مُشفّرة. الذين منا عاصروا المرحلتين وكانوا أو ما زالوا ثوريين، يصعب عليهم التفهّم مع الثانية أو التسامح معها، بالأحرى مع ما يسمى غياب الأهداف. في الأولى يجري الخلط بين الثورة والانقلاب. في الثانية لا مجال لانقلابات، بخاصة وأن أنظمة الاستبداد شدّدت قبضتها وعرفت كيف تلجم الجماهير.
بالرغم مما يدعيه ايديولوجيو النيوليبرالية، تشتد قبضة الدولة في عصرها ولا تضمر. بل تزداد سلطتها وتتوسّع لكن في مجالات لا اجتماعية، ولا تتعلّق برفاه الجمهور، كما كانت الليبرالية تفعل بضغط المنافسة مع الاتحاد السوفياتي. تتعايش النيوليبرالية مع الاستبداد في بلدان المركز والأطراف، وإن اختلفت أشكال ذلك. لكنها في جميع الأحوال حين تكون حركة الشعب جذرية، فإنها تلجأ للعنف، حتى في البلدان العريقة الديموقراطية، كما يحدث في أوروبا أو الولايات المتحدة الآن.
في زمن النيوليبرالية لا يقوم بالثورة حزب أو تجمّع أحزاب، يقود أو تقود الجماهير، بل هي التي تنهض عفوياً وتنضم إليها الأحزاب والنقابات، إن بقي منها شيء. اضمحل عدد الأحزاب اليسارية ليس لأن اليسار بأفكاره اضمحل، بل لأن فكره لم يعد ربما بحاجة إلى أحزاب، بالأحرى مجتمع التواصل الاجتماعي لم يعد بحاجة إلى أحزاب. كما أن الثورة حدث يهبُّ بشكل غير متوقع، وحركات الاحتجاج تنشأ بشكل غير متوقع. وإن تحدث هذه كالزلزال أو البركان، فإنها ليست مما يمكن التجهيز أو التحضير له ببرنامج عمل. أحياناً تكون أسباب الثورة غير مفهومة.
إن أسباب الثورة موجودة دائماً. وهي تزداد تفاقماً كل يوم، وخصوصاً الفقر والاستبداد. وتزداد الهوة بين قلة الأغنياء حول العالم وكثرة الفقر، والتعرض للمجاعات برغم توفر الأغذية التي يُهدَر الكثير منها كي تبقى الأسعار مرتفعة. لكن الثورة لا تحدث كل يوم برغم أن البشرية ما كانت أحوج إلى شعار الثورة الدائمة أكثر مما هي عليه الآن. لكن الثورة لا تنشب إلا متى توافرت ظروفها وتقاطعت أسبابها وبلغت الأمور نقطة حرجة.
إن القول إن ظروفاً ما أدت إلى ثورة لا تأخذ بالحسبان أن الظروف نفسها كانت موجودة، وما تزال، لكنها لم تتضافر بما يوصل إلى النقطة الحرجة. وهذا ما يحتاج الى تفكير لتجديد اليسار والتيارات الثورية، فالأساليب الحزبية القديمة لم تعد مجدية، ويا ليتها. الماركسية ما زالت صحيحة في تحليلها للواقع لكن اللينينية لم تعد أساليب عملها تتناسب مع ظروف المجتمع الحالية، وأحزابها تراجعت ليس لكسل أصحابها بل لعدم الحاجة إليها في زمن تستطيع وسيلة تواصل إجتماعي تعبئة أعداد كبيرة من دون حزب، وذلك للهدف ذاته. هذا يُعيد للأذهان نقاشات البلاشفة والمناشفة في زمن مضى. والظروف الراهنة ربما جعلت البولشفية تحتاج الى الوسائل المنشفية. لا ندري أي مكان “للعفوية” الجماهيرية، عفوية الثورة في فضاء عالم التواصل الاجتماعي.
الثورة في كل زمان ومكان علاقة بين من يملكون وبين من لا يملكون، أو يملكون الأقل من وسائل الإنتاج ووسائل الاستهلاك. لم تعد مجرد علاقة بين صاحب الرأسمال (المادي والمالي من جهة والمنتج من جهة أخرى). صار المستهلك قوة أو مقولة أساسية في الحياة الاقتصادية؛ حتى ولو لم ينتج ليملك إلا أنه صار يستدين ليملك، ولم تعد السمة التي تُميّز البروليتاريا ومن هم أدنى منها أو أعلى، أو حتى الطبقة الوسطى، هي الموقع في قوى الإنتاج. ومصادر الديْن لا يهمها المستدين ماذا يعمل وكيف بل أن يستدين ومع الإستدانة تتفاقم الأزمة الرأسمالية كما اتضح من أزمة 2008. فالرأسمالية تنتج سلعاً مالية جديدة كما صارت تخلق مالاً جديداً. منتجات رمزيتها أساس في سلعيتها. وصار المال نفسه (أي الدولار) رمزاً جديدا لا يعبر عن سلعة مادية هي الذهب أو غيره، بل عن قوة عسكرية. الأولوية في المراكز الرأسمالية للرموز المالية والقيم المادية؛ فالإنتاج المادي دفع إلى الأطراف وتعوّلم (كما يقال في لغة هذه الأيام)، ولم يتعوّلم المال، إذ بقي لكل دولة عملتها. مع توسّع وسائل التواصل الاجتماعي يعم شعور لدى الاستهلاكيين بأنهم يملكون شيئاً؛ يملكون ما يستهلكون. والحقيقة أنهم جميعاً مملوكين.
صار الديْن سمة أساسية للعلاقة بين الذين يملكون والذين لا يملكون، بعد أن كان مقتصراً على الذين يملكون وحدهم. فهم الذين كانوا يستدينون ويقدمون كفالات مادية. أما المستدين الجديد فلا يحتاج الى ما يكفل دَيْنه. يحتاج فقط أن يستدين بفوائد مالية تفوق المعتاد. عملية تشليح الدائن للمدين واضحة كعين الشمس والمجتمع كله مستدين؛ ومعظمه يستهلك ما لا يملك ثمنه، وما يُقرّب المستدين من الدائن كزبون يخلق وعياً آخر.
لم يعد التواصل بالعالم يحصل درجة درجة، ما يجاورك الى ما يجاوره وأبعد من ذلك، بل يهبط عليك العالم دفعة واحدة ليصير في وعيك علامة على ما تستدينه، أي ما يكون الدفع مؤجلاً لقاءه، هو الذي يستحوذ وعيك. ما همك إذا كانت لديك مشكلة مع دائن في مكان ما (مصرف أو سوبرماركت) ما دمت أنت تملك العالم في دماغك. نوع آخر من التخدير: أنت تستحوذ ما لا تملك. ذلك لا يهم النظام الرأسمالي. أنت كلك مُلكه. ذهنك في خدمته. وعيك يتشكل بمبادرة منه، كما يريدك أن تكون. لديك شعور بالغبطة إذ تستهلك ما لا تملك، وتخضع للديْن المؤجل دفعه. فما يهمك هو يومك. اليوم المؤجل بعد أسابيع وشهور هو ما يغبطك حالياً، لكنه يوم انفجار الأزمة، يوم الثورة. الثورات من قبل كانت تحدث لأنك لم تكن تملك، لكنها تحدث الآن لأنك تملك، وحقيقة ما تملك عبء عليك. يدفعك النظام الرأسمالي ليعطيك شعوراً ما تفاؤلياً، وهو الذي يُحمّلك العبء الذي ينوء تحته ظهرك، ليس اليوم بل غداً أو في مستقبل قريب أو بعيد. تسير إلى العبودية، عبودية الديْن، وأنت مرتاح النفس لما تستهلك. تحدث الثورة عندما يشعر الناس بثقل العبء الذي تحمله. الكبار يهربون من الديون متى شاؤوا، فهم يعرفون دهاليز السلطة والاحتيال على أساليبها المالية، أما الصغار فهم يرسفون في القيود والأصفاد التي لن يشعروا بثقلها إلا متى تراكمت الديون جماعياً، وصارت المصارف (الرأسمال المالي) محرجة في سداد الديون المتراكمة لديها وعليها، فهي تستدين أيضاً والفوائد بينها تختلف عما بينها وبين الناس. فهؤلاء يدفعون أضعافاً مضاعفة لقاء ما لديهم من بطاقات الاعتماد. ومن أسهل الأمور لدى المصارف مصادرة ودائع الناس متى أحسّت بضائقة، كما يحدث في لبنان، وكما يحدث كمثال على ما يجري في العالم؛ وعندما هبّ الناس للمطالبة، تحالف ضدهم كل أصحاب المصالح ومن كل الطوائف، ولا ننسى إرسال الفقراء لاقتلاع المتظاهرين والمحتجين. فالقضية الكبرى يجب أن تكون محط اهتمام الناس لا حياتهم اليومية، وأصحاب القضايا الكبرى في الصف المعادي لصغار الناس. وفي كل مواجهة، يُوجّهون صغارهم لقتال الفقراء والصغار الثائرين. الطائفية، ومن ورائها الدين، وسيلة لتوجيه الأمور حيث يحل الشعور بالرضى مكان النقمة.
نحتاج إلى نظرية جديدة في الثورة والحزب الثوري، بخاصة في مجتمع استهلاكي لا إنتاجي. ومجتمعاتنا العربية استهلاكية الطابع؛ الرمزية لها دور كبير، لذلك فإن للديْن دور مميّز. عرفت الثورة المضادة كيف تستخدم الديْن مع الدين من أجل الاستهلاك، ومن ثم القمع وتفاقم الاستبداد، وتحويل الثورة في بعض البلدان العربية إلى حروب أهلية دينية.