دفاعاً عن السياسة في وجه الديمقراطية
الديمقراطية في لبنان طائفية، والطائفية ديمقراطية. استغنت عن السياسة، كما بدا في حملة الانتخابات التي تُخاض. لم نرَ في التحالفات إلا هدفاً واحداً وهو كسب المقاعد النيابية من دون أي أساس سياسي للتحالفات بين الأضداد، ومن دون أي تسوية أو مقاربة في السياسة (المفترضة). تحالفات تخلت عن الاقتناعات والاتجاهات السياسية في سبيل كسب الأصوات وربح المقاعد النيابية. استرجاع السياسة لم يعد ممكناً في هذه الانتخابات. بلغت الطائفية أوجها. وانحدرت السياسة الى الحضيض، الى ما دون الوجود. صار صعباً العودة بها الى مستوى الصفر.
الديمقراطية لا تحمي السياسة. السياسة تحمي الديمقراطية. الديمقراطية تعداد أصوات وحسب. مناورات لتشكيل اللوائح في سبيل كسب الأصوات. لم تعد الديمقراطية ممارسة سياسية. صارت ممارسة طائفية مكشوفة. حتى ولو لم تكن هناك طائفية، فإن الديمقراطية اللبنانية، كما نراها، تخلو من السياسة والتواصل.
لم نشهد في عملية تشكيل اللوائح برنامجاً سياسياً واحداً. الغريزة الطائفية سيدة الموقف. تلغي السياسة فن الديمقراطية. تحوّل الديمقراطية (تعدد الأصوات) أداة لأهداف غير تمثيل إرادة الناس.
صار ضرورياً الدفاع عن السياسة في وجه الديمقراطية، ليس لإلغاء الديمقراطية، بل لإخراجها من الطائفية. لا تحقق الديمقراطية نفسها ولا يبرز وجهها الحقيقي إلا عند مناقشة قضايا الناس. القضايا نوقشت في الخارج على يد قوى خارجية (مؤتمر سيدر في باريس). مهرجان دولي أقيم من أجل ذلك. فحوى مقررات المنح تقرير منح وهبات وقروض للبنان من أجل البنى التحتية. لم يكن الأمر أن لبنان مزمع على عملية إعمار تحتاج الى جهد اللبنانيين، واستخدام استثمارات المصارف لديهم، عملية ربما ينقصها بعض التمويل، فيكون “الإعمار” بحاجة الى بعض الدعم. بل كان مؤتمراً لتمويل لبنان من أجل “إصلاحات” يقرر خطوطها العريضة الصندوق الدولي والبنك الدولي. إصلاحات تُفرض على لبنان؛ يكون جوهرها الخصخصة، وبيع ممتلكات الدولة، والتقشف، وزيادة الضرائب، وتجميد الأجور، إلخ… وصفة تقليدية تضع مزيداً من القيود السياسية والاقتصادية على لبنان، وتفرض عليه مساره. النهوض باللبناني شيء آخر. تقليص البطالة والهجرة شيء آخر. مساعدة النازحين السوريين والفلسطينيين شيء آخر ايضا. هذه أشياء أخرى لا تهمّ مؤتمر سيدر.
كيف يراد لهم أن يعودوا من حيث أتوا ولكن من دون أن يكون لمصيرهم معنى، ومن دون أن يكون ذلك جزءاً من “إعمار” أو نهوض. موضوع لم يُبحث. الشكوك لا مبرر لها عند بعض اللبنانيين وخاصة عند النازحين. وهم يريدون العودة الى مواطنهم ويُمنعون من ذلك. يراد لهم الهجرة كما يراد للبنانيين. إعادة ترتيب أوضاع المنطقة ليس كما يريد أهلها بل كما تريد الدول المانحة، الغرب صاحب الليبرالية الجديدة. الرأسمالية اللبنانية توافق على ذلك ولا تتقدم بشيء. الأمر متروك للخارج. العنصرية تتراكم. يُهان الشعب اللبناني، وتُهان الجماعات الواردة الى لبنان. لا دخل للبنانيين ولا للنازحين بما يقرر في الخارج. عليهم الانصياع لما يُقرر عنهم؛ عليهم المسير على درب قررها الغير في الخارج. ديمقراطية تُفرّغ من مضمونها. ديمقراطية شكلية. في الداخل لا سياسة. السياسة في الخارج.
تجري هذه الانتخابات الديمقراطية حسب قانون غير ديمقراطي لانتاج برلمان يوافق (فقط) على قرار يُقرر في الخارج. ديمقراطية ليست من أجل تبيان ما يريد الشعب اللبناني، بل من أجل إخضاع الشعب اللبناني لما يراد ويُقرر في الخارج.
الديمقراطية كما نتصورها هي أن يناقش الشعب قضاياه ويقرر ما يريد، أن تأتي الانتخابات بنواب يمثلون حصيلة هذه النقاشات، وأن تأتي حكومة تنفذ هذه الإرادة. الأمر ليس كذلك. هذه انتخابات تضاعف منسوب الطائفية والعنصرية. البيانات التي تصدر والإعلانات من المرشحين مليئة بشعارات المبالغة والاندفاع في سبيل مستوى أعلى من الفاشية. الديمقراطية، كما هي لدينا، تعني الاستغناء عن قضايا الناس والاستعاضة عنها بشعارات لا تفيد إلا الفاشية. ثم يأتي برلمان يبصم على قرارات ناتجة عن تعليمات الخارج.
السياسة تبني علاقات (وحوارات ونقاشات بين الناس)، وعلاقات أخرى بين الناس والدولة. العلاقات متبادلة من الناس الى السلطة، ومن السلطة الى الناس. إذا كانت العلاقات فقط بإتجاه واحد، أي من السلطة الى الناس، تكون نظاماً استبدادياً. انه استبداد متعدد الرؤوس. معظم أنظمة الطغيان والفاشية والنازية جاءت بواسطة انتخابات ديمقراطية. حتى التي جاءت بانقلابات عسكرية تجري انتخابات “ديمقراطية” فيما بعد لتأكيد طغيانها. عندما تكون الديمقراطية مجرد انتخابات (تعداد أصوات)، والانتخابات مجرد استفتاء فإنها تُفرّغ من المضمون والسياسة. عندما تُلغى العلاقات في تبادليتها، وتبقى فقط العلاقة مع السلطة (سلطة أباطرة اللوائح الانتخابية) يكون الأمر بإتجاه واحد؛ أوامر توجّه الى الناس من زعاماتهم؛ أوامر للتنفيذ؛ وجمهور يفترضه الزعماء قطعاناً تُساق. هل هذا ما وصلنا إليه أو ما سوف نصل إليه؟
السياسة علاقات الناس، وقضايا الناس، وتقرير مصير الناس؛ وكل ذلك على أيدي الناس ومن أجلهم. صار أمراً ملحاً حماية الناس، وحماية السياسة، من هذه الديمقراطية التعدادية. ليس الشعب بورصة لتحقيق الأرباح (المكاسب الانتخابية) وحسب؛ الشعب يُفترض أن يكون مصدر السلطة. صارت السلطة مصدر السياسة. صار الشعب ملحقاً بأباطرة اللوائح. مساهمتنا كجمهور في هذه الانتخابات تقتصر على مشاهدة مناورات أباطرة اللوائح وكيف يجرون الاتصالات، بالأحرى يتواطؤون مع خصومهم وحلفائهم من أجل الأصوات. كأن الأمر صندوق فرجة؛ ليس مجالاً للسياسة.
بالسياسة نحمي الديمقراطية. في غيابها نتحوّل الى الطغيان والاستبداد.