عبيد الأسماء
نحب أن نكره. العكس صحيح، نكره أن نحب. كل منهما شعور بالجذب تجاه الآخر أو النفور منه. ننظم الحب والكره للآخرين في جماعات تحب أو تكره بعضها. ولكل منها إسم ربما كان هو سبب وجودها أو التعبير عنه. تظن كل جماعة أن كرهها للآخر هو حب لمن بينها. الطائفية آلية من آليات الحب والكره. يعتقد معظمنا أن كل مكسب للطائفة هو مكسب له. يغيب عنه أن المكسب الطائفي تحجبه الطبقات العليا عن عامة الناس المنضويين في الطائفة. في كل مرحلة من تطوّر لبنان الحديث طائفة تكون لها الأرجحية بما يجعلها تتحكّم بالسلطة وتصادر معظم خيرات البلد. لا ندري إذا كان عوام الطائفة المسيطرة يصيبهم نصيب مما كسبته الطائفة أم أن ذلك حكر على أكباش الطائفة وحاشياتهم. لا يدرك متعصبو الطوائف أن ما كسبته الطائفة هو خسارة لهم. لا توزع مغانم الطوائف بالتساوي والأكثرية من كل طائفة لا ينالهم شيء.
في كل مجتمع طبقات. الطبقات تتوزّع على الطوائف. الطائفة ذات الأرجحية تتمتّع بنسبة من الكاسبين أعلى من غيرها من الطوائف. لكن الأكثرية في كل منها هي من الخاسرين. ما يكسبونه هو الوهم أنهم من الرابحين. يستنتجون ذلك من خطأ الاعتقاد أن الهوية الطائفية التي تجمعهم بأعالي الطائفة تعوّض لهم الخسارة الفعلية. ولا يدركون أن ما يجمعهم مع أعاليهم طبقياً هو الإسم فقط. فقليل منا يعرفون الكثير عن الدين والطائفة الملحقين بها. ربما يصل الأمر بهم الى الدفاع حتى الموت عن الطائفة، وهم في الحقيقة أدوات لدى أكباش الطوائف ومجندون لخدمتهم. الطائفة أداة تجنيد العوام كما هي عند هؤلاء أداة تدمير الذات. لم يدر الذين أرسلهم سادتهم الى معتصمي ثورة 2019 بهتاف “شيعة شيعة” أنهم كانوا في الحقيقة يهتفون ضد أنفسهم لأن الثورة أهدافها صلاح عموم المجتمع، وهم في عدادهم. وخصومها الطبقات العليا في المجتمع، والهاتفون ليسوا في عدادها، بل هم خصم طبقي لهم. لم يكسب المجتمع شيئاً من الهتافات بل كانت الخسارة عمومية، والرابحون وحدهم أرباب النظام. بالطائفية ينقلب المرء المنساق فيها ضد نفسه. في حساب الربح والخسارة هم الخاسرون. وفي حساب العقلانية انقلب عقلهم ووعيهم ضد أنفسهم. الطائفية واحدة من أقوى الوسائل ضد التضامن الطبقي. تعتلي الهوية الطائفية فوق الهوية الطبقية، والعصبية الطائفية ضد المصلحة الحقيقية، خاصة المادية منها. أما المصلحة المعنوية فهي الى اختفاء.
الآن يتصاعد شعور لدى السنة بأنهم مكروهون وأن الطوائف الأخرى تعمل على تهميشهم، وكأنها متضامنة من أجل ذلك. يغذي هذا الشعور أكباش الطائفة السنية. لا شك أن جمهوراً واسعاً من السنة سوف ينقاد وراء أكباشه بناء على عصبية طائفية لا يدرك أصحابها أنه حتى ولو حقق أكباشهم مكاسب أو انتصارات (!!!( سوف يكون العامة منهم الخاسرون. ليس في الطائفية من يكسب ما يخسره الأخرون. الكل خاسرون. الكل هنا تعني عامة الناس الذين يصابون في كل المواجهات الطائفية، ويكون الرابحون الوحيدون أكباش الطوائف. بالأحرى الطبقة العليا من كل الطوائف. والطوائف كما الهويات الأخرى التي تضاف أليها أسماء، مجرد أسماء، هي تصنيفات تسمى وتنضم تحت لواء الاسم.
المشرق العربي كله طوائف وأقليات وأكثريات طائفية وإثنية وقومية. الصراعات والحروب الأهلية تنهش الجميع. ولا ندري أهمية اسم الخليج بالنسبة لهذا الفريق أم ذاك. أو أن الاسم عين المسمى، كما في بعض تيارات فلسفة القرون الوسطى؟ ماذا يضير العرب أن يسمى الخليج فارسيا؟ وماذا يضير الفرس أن يسمى عربيا؟ أم أن العصبية الفارسية هي الأقوى في إيران ذات التعددية الإثنية، ولا يشكل من ينضوون في الهوية الفارسية إلا أقلية كبرى في دولة تسمي نفسها إيران لا بلاد فارس. هل سوف ينزعج العرب وتثور عصبيتهم إذا عنّ على بال الإيرانيين تسمية بحر العرب الذي يقع على مضيق هرمز بالبحر الفارسي؟ هذه كلها أسماء يتصارع عليها الفرقاء والمصالح الحقيقية والعقلانية مغيبة.
مهلاً، كل منا ملحق باسم؛ اسم العائلة، اسم الطائفة، اسم القومية، الخ… وأحيانا الاسم المفرد الشخصي يحمل أهمية خاصة. ألا نحب أن نسمي أولادنا بأسماء آبائنا وأمهاتنا، سواء من الذكور أو الإناث؟ ألا نتوتر عندما يأتينا طفل في البحث عن اسم له؟ الاسم الذي نختاره فيه دلالة على هوية نختارها. أو على الأكثر هوية معطاة لنا، وفي معظم الأحيان تكون الأسماء مفروضة علينا، وأحياناً بالعنف. نحن لا نختار اسمنا، كما اننا لا نختار الدين الذي نضاف إليه عند الولادة، أو القومية التي نتحدث لغتها.
الاسم الذي نضاف إليه غالباً ما نعرف القليل عن مضمونه، والقليل يمكن أن يكون لا شيء. المهم هو أن نتعصّب لهذا الاسم لأننا قضينا أياما أو سنين في صحبته. غالبا ما نجد له تاريخاً سحيقاً، إذا كان وطناً أو عشيرة. وكثيرا ما تطوّر العصبية للاسم الى عنصرية تجاه ما لا ينسجم معه. لكن الاسم يمكن أن يكون مصدراً للسيطرة، كما يحدث عندما نضاف للطائفة أو القبيلة، فنصير من أتباع أكباشها. ونحب أو نكره أناسا حسب علاقتهم بالاسم.
يقول في الكتاب العزيز “خلق الإنسان علمه البيان”، وفي مكان آخر “علمه الأسماء كلها”. ربما كان في ذلك إشارة الى أن في التسميات سلطة، وأن غياب البيان ينم عن جهل. الجهل بما يتعدى الأسماء يؤدي الى عصبيات، ربما قادت إليها تطورات تاريخية وأوضاع نفسية ومصالح مادية، لكن الحقيقة عند معظمنا لا تتعدى الاسم. ربما كان هدف الداعيين في مطلع الستينات من القرن العشرين الى تغيير الحرف والكتابة باللاتينية، واستخدام العامية، هو تغيير الأسماء ومن ورائها تغيير الهوية. أما غيّر أتاتورك هوية تركيا عندما تبنى الكتابة بالحرف اللاتيني، وتخلى عن الحرف العربي. على كل حال، جرى تغيير أسماء كثير من المناطق العربية الي ضُمت الى تركيا؛ أنطاكيا مثلا صارت هاتاي.
هو خلاف على الأسماء، كما هو خلاف حول أشياء أخرى كثيرة، وأكثر علاقة بأسباب عيش الناس بمصير المنطقة. وهو تعبير عن عمق الانقسامات، بل شراسة الحروب الأهلية في المنطقة. لقد رهنت الأنظمة بقاءها بعجز وضعف جيرانها. والخلاف على الأسماء هو تعبير عن خلافات حيواستراتيجية، ومصالح مادية ليست خافية. الحق بالاسم يصبح حقاً لمالك الاسم. والدعوة الدينية محاولة من أجل الهيمنة والتسلّط. محاولات التسلّط على الآخرين ليس من أجل الهداية، وإنما كانت هدفاً معلنا، بل أن الهداية شكل من أشكال السلطة. الخلاف على الأسماء بعبّر عما لا يبشر بالخير. إذا كان الله قد علم الإنسان الأسماء كلها، ألا يدخل الخيلج في ذلك؟