قراءة في رواية “الوجه الآخر للظل”
واجب الرواية أن تمتع القارئ. هذا ضروري وغير كافٍ. واجب كاتب الرواية أن يقول شيئاً يفيد معنى أو مغزى إنسانياً، وإلا تكون الرواية مجرد لهو وعبث. على كل حال، اللهو ليس عيباً، إلا إذا كان العبث العدمي هدف الكاتب. رشيد الضعيف في روايته “الوجه الآخر للظل” ليس كذلك. يستخدم طبقات من الخيال ليصف علاقة رجل بإمرأة. الرجل ملك يريد أن يتزوّج. والمرأة جميلة بالطبع، وعليها بحسب الملك أن تخضع له خضوعاً كاملاً. فهي لن تستطيع أن تلد إلا متى شاء الملك. يحتفظ بها دون علاقة جنسية الى أن يتأكد أن الوقت قد حان. وسوف يحين الوقت عندما يقرر مفسرو الأحلام أو المنجمون. هو صاحب سطوة لكنه خاضع لأوهامه حتى فيما يتعلّق بخلق الابن أو الابنة، أعز ما في الدنيا. العلاقة مع المرأة التي سوف تصبح زوجته ليست غراماً ملتهباً ولا حتى تماشياً مع مقتضيات حياته كما يقررها هو. ضميره لا علاقة له بالموضوع. مشاعره التي لا تتوهّج حباً تشتعل بالغيرة من مجهول سوف يبني علاقة جنسية مع المرأة التي يزمع الزواج بها حين تتوفر الظروف، وكما تقرر أحلامه، بالأحرى مفسرو الأحلام من بين حاشيته. يحتفظ بالمرأة في القصر وكأنها في سجن، وما عليها إلا أن تخضع لأوامره. إرادته هي التي تقرر مصيرها. وهو يقرر متى يأتي المولود الى الوجود، ويتحكم بمصيره.
يصيب المرأة حبل بلا دنس بشري. ندفة تدخل بطنها عن طريق الملائكة. تضطر للهرب ثم الولادة. تأخذ الملائكة الولد في غفلة منها. تقضي بقية الزمن تبحث عن ولدها فلا تجده. ويمضي الملك، بعد أن بلغه الأمر، بقية الزمن يبحث عنها وعن الولد، بدافع الغيرة لا بدافع الحب. الغيرة من مجهول. تملك الذكر للمرأة يدفعه الى غيرة دائمة من أي كان. المجهول يتحكّم به. المجهول هو الآخرون من الذكور. والمجهول الأكبر هو الدهر الذي لا يسيطر أحد على تقلباته، ولو كان ملكاً ذا سلطة مطلقة على البلاد والعباد.
غريزة الأمومة تتحكم بالأميرة. فهي تعاني مشاق كثيرة في البحث عن ابنها. علاقة إنسانية تتعارض مع دوافع الرجل الملك الذي لا يهمه من الموضوع سوى أن يكون الولد من صلبه. كأن صاحب الرواية يصف واقع مجتمعنا كما يراه.
في الرواية طبقات من الخيال والأساطير والجن الذين هم بمثابة آلهة. الأساطير تذكرك باجواء دينية من الإنجيل أو التوراة. المفاجآت الأعاجيبية في الانتقال من مكان الى آخر بعيد، وفي تغيّر الحظ من الدعة الى العثار تذكرك بقصص “ألف ليلة وليلة”.
كل ذلك بأسلوب سهل سلس، يمتنع على الكثيرين من غير رشيد الضعيف. ليس فيها شيء من التصنّع أو التبذّل. يسيطر الكاتب على أسلوبه ويمضي بالروابة الى حيث يريد. الاقتصاد في التعبير ليس مما يتاح للكثيرين من الكتّاب.
تطوف الأخيلة المتعددة فوق واقعية صلبة؛ واقعية الأحداث والتطورات وخيالية التعبير عنها. أشخاص الرواية أكثر من واقعيين أو أقل؛ هم يفتقدون الى المشاعر الداخلية، وكأنهم شخصيات مستخرجة من أحد متاحف الشمع. هم بشر تحركهم الأقدار وليس لهم كثير تدخّل في تعقيداتها؛ أدوات بشرية كأن لا عواطف لها. فكأنها تخفي عواطفها خوفاً من عسس الليل والنهار، ومن الرقابة الدائمة على حركات الناس وأفكارهم. فلتكن حركاتهم معلومة لدى السلطة، ولتكن أفكارهم منغرزة في أعماق النفس، لا تظهر. حتى صاحب الأفكار يريدها غائرة غائبة، ويريد نفسه ذا وجه بلاستيكي لا عضلات فيها خوفاً من الانفعال مع الأحداث. نظام الاستبداد حوّل الناس الى ربوتات، ويريدهم البقاء كذلك. فلتكن حرب عالمية في بلد الملك إذا خرج الناس من الحالة البلاستيكية التي هم فيها ، وإذا جرؤوا على إعلان بعض العواطف.
اصطُنعت حبكة الرواية من بشر خاضوا أساطير القدماء بأفكار أو ايديولوجيا العصر الحديث، حيث يتحوّل الدماغ الى كتلة بلاستيكية أمام الآلة الذكية، معتقداً أن الذكاء المصنوع مصدره الدماغ البشري، بينما هو ما تمليه الآلة الذكية على ملايين الأفراد الذين يستعملونها. أكدت الليبرالية، مضطرة، على الفردية، فجاءت النيوليبرالية ومخترعاتها الالكترونية أو الديجيتالية لتجرد الفرد من عواطفه، ومكونات عقله، ومن ذاته، لتزرع فيه نفساً جديدة تقررها المراكزالالكترونية، وتحشو فيها ما تريد، أو بالحرى ما يناسبها من الأفكار. لا يُلام الكاتب العربي إذا اضطر في روايته الى التعامل مع أشخاص من هذا النوع. خاصة عند قدماء المناضلين الذين كان طبيعياً أن يصيبهم اليأس والإحباط. أُدمجت بلادنا في العالم بغير حافز منها. فُرضت عليها تكنولوجيا تعلمت استخداماتها دون صنعها، ناهيك بنظريات العلم الحديث الذي أدى إليها، فأصابتها النيوليبرالية دون المرور بالليبرالية، وما بعد الحداثة دون المرور بالحداثة. وهذا مصير مجتمعات تستهلك دون أن تنتج. جماعات من البشر الذين لا لزوم لهم إذ صارت مراكز الاقتصاد في صالات المتاجرة بالعملة، لا في المعامل وعلى أرض آلاتها الثقيلة. الذين يستهلكون ولا ينتجون يُبادون في حروب مثل حرب أوكرانيا، أو أوبئة مثل الكورونا، ثم الجدري والكوليرا. ويجري تدجينهم عن طريق الكمامات، والتباعد الاجتماعي، والطهارة.
الرواية “الوجه الآخر للظل” ممتعة ولا شك. ثيماتها مستخرجة من عهود قديمة للتتناسب مع أوضاعنا السياسية والاجتماعية القائمة. المثقف العربي أحبطته نتائج ثورة 2011. بالنسبة له، لم يعد هناك فائدة من السياسة، ومن التواصل الحقيقي بين البشر، لأجل تعاون يكون من نوع يعارض الأوضاع القائمة.
على كل من يقرأ أن يشعر بصفعة يسدده إياها رشيد الضعيف. فما أراد قوله ولم يقله للناس هو أنه لا يحق لكم التواني. مصير الإنسان بيدكم. أنتم تقررونه. ليس ورقة في مهب الريح. ليست رياح السلطة هي التي تقرر بل هي ثورة الناس التي سوف تتكرر وإن لم تكن مستدامة. وما من ثورة تستطيع أن تكون مستدامة.
الدهر قرر مصير أبطال الرواية المحبوكة جيداً. لا شك أن الدهر هو الاستبداد. المصير معلّق لا بإرادة الناس بل ما سمته القدماء الأقدار. الرواية مأساة تضحك الأقدار فيها. ماذا نفعل وحياتنا مأساة تلو الأخرى؟