كلامولوجيا
كثر الكلام في الأسابيع الأخيرة حول قرار دونالد ترامب، الرئيس الأميركي، بنقل سفارة واشنطن من تل أبيب الى القدس. توج الكلام في الاجتماع الطارىء للجمعية العامة للأمم المتحدة. كان هناك منطقان لنوعين من الخطاب. خطاب باطل تدعمه القوة، وخطاب حق مستند الى ضعف أصحابه. من الطبيعي أن ينتصر خطاب الباطل، لا لأنه باطل بل لأن القوة تدعمه.
خطابنا، نحن العرب، خطاب الحق. لكن التركيز على ذلك ينم عن تخثر في الوعي، وقصور في الفهم، إذْ لا يضع الأصبع على الجرح مع عدم تحديد الأولوية. لا شك أن العرب، بمن فيهم الفلسطينيون، على حق. ليس في القدس وحدها، بل في كل فلسطين، المحتلة وغير المحتلة؛ وكأن فيها ما ليس محتلاً. مشكلتنا الأساسية هي ضعفنا. لا نستطيع تحقيق الحق، أو استعادته، أو إظهاره، من دون القوة. ما دمنا ضعفاء فإن المشكلة هي بيننا وبين أنفسنا، بين بعضنا وبعضنا الآخر، بين أنفسنا وبين العالم. فهناك مشكلة فهم العالم، لا بالعزلة عنه بل بالإنخراط فيه. وأشكال هذا الانخراط لا في تحديد الهوية، بل في كيف تتحقق الهوية. سؤالان يطرحهما كل مجتمع على نفسه. أولهما سؤال الأنا (الهوية)، وثانيهما سؤال الكيف (وسائل تحقيق الأنا).
بعض الميكيافيلية مفيد. من دون الوسائل لا سبيل الى تحقيق الأهداف. من دون الكيف لا نحقق الأنا؛ بل ربما دخلنا رحلة الحفاظ على الأنا عبر المزيد من التشتت والتبعثر والزوال. ليس السؤال حول الكيف جانبياً. هو يتعلق بالصميم، صميم وجودنا، وجودنا المهان. إن لم تهن نفسك، لا يستطيع أحد إهانتك. نهين أنفسنا بضعفنا. تتوالى الهزائم ونتمسّك بالحق. كأننا لا ندري أن القوة هي الموضوع الأساسي. هي الموضوع الذي يقود الى الحق. وهل عرف هيجل الحق بغير القدرة على فرض الإرادة على الشيء، أي شيء. إرادتنا مستباحة.
البلدان العربية مستعمرات. ما أكثر القواعد الأجنبية فيها. مصير كل بلد تقرره دول أخرى قوية. السيادة مفقودة. ما أكثر المعاهدات التي تقيّد حركة السلطة أو الدولة في بلدها. الشرعية في كل بلد من بلادنا مسحوبة. لا شرعية لدولة أو سلطة إلا برضى الشعب. كل دولة من دولنا هي عبارة عن جهاز لمراقبة الناس. الحروب الأهلية في كل مكان. ليست حروباً بين الناس، بل بين الناس وأنظمتهم. منظومة سياسية، منظومة الحكم العربية، تعتبر القمع مهمتها الأولى. تتقاتل الأنظمة فيما بينها. لكن موضوعها ليس الناس ومصالحهم، بل بقاء السلطة والحفاظ عليها.
المشكلة فينا؟ لكن أين؟ البعض يقول أن مؤثرات الاستعمار تمنعنا من التقدم. البعض يقول أن تراثنا هو المشكلة. غيرنا من الأمم أكثر تشبثاً بالتراث، لكنها تحرز تقدماً، وتحرز معه أسباب القوة. علينا تجاوز التراث؛ ويكون ذلك بالبناء عليه. لكن المشكلة هي في مكان آخر؛ في الذات المهترئة؛ في الوعي الذي اختلطت عليه الأمور، فنكتفي بالكلام ولا نلحق بالواقع. ثرثرة فوق ثرثرة لا طائل منها. كلام غير مجد، ولا يعبر عن فكر مجد. وفكر لا يعبر عن واقع حقيقي. التعابير والمصطلحات لم يعد لها المعنى الذي نعرفه. والمعاني الجديدة لا تؤدي المعنى. وإذا أدته فالأمر يكون في سبيل المزيد من التعمية. ليست هي التباسات العارف الذي يفتش عن حقيقة أو حقائق، بل هي ضياع الحدود بين مصطلحات لم يعد بينها حدود.
لا نعرف فلسطين المحتلة. هل هي كل فلسطين، أم الجزء المحتل بعد حرب 1967 أو حرب 1948. لا نعرف الشعب من هو. هل هو جماع المجتمع الذي أصابه الفقر وافتقد الى وسائل العيش؟ أو هو عصابات البلطجية والشبيحة وغيرهما من الميليشيات لدى النظام؟ هم أيضاً فقراء. لا نعرف سياسة هذا القطر أو ذاك في الأمور الخارجية. هل هي في هذا المعسكر الدولي أم ذاك؟ لا نعرف هل القواعد العسكرية الأجنبية دليل سيادة أم حداثة لمواجهة التكفيريين والإرهاب؟ لا نعرف هل قضايا الأمة الأساسية هي من صنف التكفير والإرهاب أم لا؟ لأننا لا نعرف. بالأحرى لم يتسرّب إلينا تعريف للتكفير والإرهاب. نعرف أن للأقليات حقا على الأكثرية. لكننا نعرف أيضاً أن الجمهور الأكبر من الأكثرية له حق على السلطات الجائرة لأن الظلم والإفقار اللذين خضع لهما فاقا ما خضعت له الأقليات الدينية أو المذهبية، أو الإثنية، أو القومية. لا نعرف متى تكون الآراء مستندة الى محاكمة طبقية أو مجرد استنساب طائفي. حتى لدى الماركسيين اختفى التحليل الماركسي أو يكاد. هل يستحي الماركسيون من الجدلية التاريخية؟ وهي أعظم أدوات التحليل في التاريخ البشري. لا نعرف الفرق بين الدولة والسلطة: الدولة يستوعبها المواطنون بالقانون، فيتحولون من رعايا الى مواطنين؛ السلطة تستوعب الرعايا إذ حولتهم من مواطنين الى رعايا. في الدولة مجتمع مفتوح. شراكة بين الناس. في السلطة أجهزة قمع. في الدولة اقتناع الناس. في السلطة كره الناس للدولة. السلطة “هم”، الدولة “نحن”. الأقطار العربية جميعها من دون استثناء هي من صنف السلطة لا الدولة (الحديثة). يبدو بعض الحكام على شيء من الحداثة كطلاء خارجي لإخفاء سلطة رهيبة في قمعها للناس، ومع قمع سلطة الدين وتبرير ما يجري على أيدي السلطة ولو بدا الأمر غير ذلك.
لم يعد الشعب وفقراء القوم هم الناس الذين نعمل لصالحهم. في الحرب الأهلية العربية هناك صراع بين أنظمة بعضها نصنعه “مقاومة”، وبعضها “ممانعة”، وبعضها “وهابية”، تؤسس للتكفير والإرهاب. لكن هذه الأنظمة ذاتها لا تقاتل إسرائيل. بل زالت حدود التعبير لديها تجاه إسرائيل. بعضها يتعامل مع حلفاء إسرائيل. جميعها يتطلّع الى أميركا كمثل أعلى اجتماعياً، خاصة فيما يتعلّق بالنيوليبرالية من دون أن يسموها عولمة. هم ضد العولمة لا ضد النيوليبرالية. وإذا سمعوا بما هو الرأسمال الجديد الممولن (Financialized)، فهذا جديد لم يصنف بعد؟
كثيرون منا ينعون قضية فلسطين. يشاركون في مجلس ينعي القضية، ويحكم عليها بالنسيان. وإذا حدثت مظاهرة في بلد عربي، يقولون أنها قليلة: ألله ألله على أيام زمان. كنا ننزل في مظاهرات تمتد فيها الجحافل من البربير الى مجلس النواب. وهم يقصدون أن الفكر القومي انتهى، فهل انتهت العروبة أو انتهت الأمة العربية. لا تجد حدثاً في اليمن أو المغرب إلا ويتفاعلون معه. رغم ذلك يحكمون بإلغاء العروبة. هل هي موضة مطلوبة؟ أن تكفر بالعروبة ونؤمن بالأقليات. هؤلاء أنفسهم اعتبروا منذ سنوات أن الأقليات مؤامرة. اليوم تشكّل الأقليات بالنسبة لهم سفينة نجاة. المهم أن يتفاقم التقسيم. كثر الحديث عن وعد بلفور وسايكس-بيكو. هل هما لصالح الأنظمة التي تقمع شعوبها أو لصالح الدول الكبرى التي وضعتهما؟ اختلط الحابل بالنابل. وهل هي مؤامرة على الوعي؟ هل الوعي موجود هناك في مكان ما؟ هل هو كائن ميتافيزيقي مثل الأمة والشعب؟ مقولة تتجلى بين الحين ولآخر.
الوعي هو حصيلة ملكة التفكير. وهذه حصيلة تفاعل بين الذات والواقع، وبين الذات والموضوع. بقي هناك واقع. لكنه لم يعد موضوعاً لذاتنا. صارت الذات دون موضوع. التفكير محصور في الذات. مجرد موقف (لا تحليل للواقع). انتفاخ الذات دون تواضع. انتفاخ الأنا في وجه كل العالم الخارجي (خارج الذات)، وسلاح الموقف. كما قال أحد السياسيين. الواقع لم يعد موضوعاً للتفكير لأنّ التفكير تلاشى. مطلوب منا أن نفكّر. التفكير يلزمه واقع. الواقع تسيطر عليه الأنظمة. والأنظمة تريد أن نصنفها غير ما هي عليه. هي في زعم أصحابها الحداثة في وجه الظلامية الإسلامية. يُمنع عليك الوعي ليصير لك مقولة تزودك بها الأنظمة. تبقى يسارياً لغير صالح الشعب؛ تصير يسارياً لصالح النظام. بينما هو تشكيلة نيوليبرالية متعاملة بين الحين والآخر، حين الأمر يناسبها، مع الظلامية الدينية. أنت حر لكنك تفكّر كما تريد الأنظمة. الحقيقة أنك لا تفكّر. كيف يصير المرء ببغاء بغير ذلك؟ يسارية ببغاوية. التيارات الدينية تقف وتدافع عن نظام علماني. هي أيضاً ببغاوية، بحكم أيديولوجيتها وانتهازية قادتها، قادة التيار الإسلامي المدّعي أنه غير ظلامي. التبس علينا الوعي لأننا لم نصنعه. لأننا لم نعد نفكر فيه. فقدنا ملكة التفكير لأننا فقدنا ملكة التهذيب. وهذه فقدناها مع فقدان تواضع الذات أمام الموضوع، ومع فقدان تواضع الذات أمام غياب الموضوع. تفكيرنا يعبّر عن مواقف وحسب، مواقف لا علاقة لها بوقائع؛ لا برهان عليها، ولا برهان ضدها؛ مواقف صادرة عن هوية. مواقف تجيب على سؤال الأنا، لا على سؤال الكيف.
فقدنا الاهتمام بتطوّر المجتمع؛ ما هي الرأسمالية؟ ما هي النيوليبرالية؟ هل هي رأسمالية جديدة؟ نسميها عولمة كي يلتبس علينا الأمر. الرأسمالية المالية ليست عنصراً في تحليلنا. ما زلنا نحفظ أشياء عن الراسمالية والقيمة الزائدة، أو فائض القيمة والربح والريع كما في عصر أولوية الرأسمالية الصناعية. أما سيطرة الرأسمال المالي في بلدان المركز والصناعات، التي نقلت الى بلدان الأطراف، فهذا الأمر ليس في حسابنا. لا ندري أن أهم صادرات بلدان المركز بعد تصدير المال هو التصدير الزراعي. الزراعة كانت في وعينا عمل الأطراف، الى جانب المواد الأوليّة: ما زالت كذلك رغم تغيّر الأمر. نناضل ضد رأسمالية لم تعد موجودة، أو بقيت موجودة في مكان آخر. وإذا أقرينا بالطابع المالي لرأسمالية المركز، تبقى روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي. ولا ندري كيف نصنّف الشيوعية الصينية. هل هي ما يزوّد رأسمالية المركز بالبروليتاريا الصناعية؟ كما تزودنا بلدان معينة بخدم البيوت في لبنان. يكتشفون أن عدد الخدم المنزليين الأجانب في لبنان أكثر من اللاجئين الفلسطينيين. لا لزوم لتعديل الأيديولوجيا. هؤلاء يلزمون لربات البيوت. وأولئك يلزمون لأنهم ينافسون الأيدي اللبنانية التي لا تعمل. وهذا يدخلنا الى الملف السوري، وهنا العنصرية بأجلى صورها. نطالب المجتمع الدولي بالعمل للخلاص من العمال السوريين، بالرغم من حاجتنا لبعضهم في مهام لا يمارسها اللبنانيون منذ زمن طويل، ومنذ ما قبل الحرب السورية.
ينتهي التفكير عندنا الى كلامولوجيا. كلام لا يعبّر عن وقائع، ولا عن تحليل للوقائع. كلام يعبّر عن مواقف طائفية هنا وهناك، يسارية لصالح هذا النظام أو ذاك، ومذهبية لصالح أممية إسلامية هنا وهناك، واستسلامية لصالح الجميع. مختصرها إنعدام التفكير. تنتشر الكلامولوجيا من حولنا. هواية أولى عند الحكام والنخب الحزبية والثقافية. يكثرون الكلام في مواضيع لا يفهمونها ولا يريدون فهمها. كلامهم يترتّب عليه نتائج لا يأبهون لها. الكلام يردد بصيغ مكررة وشعارات أصاب قماشها الاهتراء من التكرار. والناس يسمعونها إذ يضطرون لذلك. لا يصفقون لخطاباتها إلا مضطرين. لا يأتي اليوم التالي والسامع يتذكر شيئاً مما قاله مبدعو الكلامولوجيا. القول “مبدعون” لا تنطبق عليهم. فهم يكررون كل شيء أو بعض ما سمعوا مرات ومرات على مدى سنين.
كلامهم لا علاقة له بالفكر. هو فقط ما تعوّد عليه الناس. ما تعوّد الناس على سماعه من دون الاكتراث له. الفعالية في العمل معدومة أو سلبية. صاحب الكلام يرفع صوته، ويستخدم الميكروفون أو الميكروفونات. في معظم الأحيان يبح صوته. يفضّل أن يبح صوته حتى يدرك الناس كم كرّس للقضية. بعض أصحاب الكلامولوجيا يمتهن الخطابة، يبرع بالخطابة شكلياً. لا ينقصهم شيء من حركات اليد، وتجهمات الوجه، ومعرفة المفاصل حيث يجب أن يتوقف أو يرفع صوته لاجتذاب اهتمام السامع.
جهوزية أصحاب الكلامولوجيا أسطورية. هم دائماً جاهزون للصراخ، وإبداء الرأي في أي قضية. المهم أن يكونوا في مقدمة الجماهير، وأن تلتقط صورهم رافعي الأيدي. يريدون أن يكونوا في المقدمة لأنهم يعتقدون بأنهم طليعة الجماهير.
غالباً ما تتحوّل الكلامولوجيا الى مهنة للقادة. يظنون أنهم يرضون سامعيهم؛ وأن كلامهم شعبي. ولا يدركون، والأسوأ أنهم يدركون أحياناً، أنهم يسيئون للسامعين. يستخفون بعقول السامعين. يستسخفونهم ويحتقرونهم. يعتقدون أنهم يفتقرون الى ملكة العقل والحكم على من ينطق.
أدمغتهم طبول فارغة. ألياف أدمغتهم لا تعمل. جانب الدماغ المولج بالنقل والنسخ هو الذي يعمل. يكرر ما حفظه. أسوأ ما فيهم أنهم لا يفكرون. وما يقولونه يدفع السامعين الى أن لا يفكروا. ينتج عن كلامهم لا شيء في الفعل. يزداد الناس إحباطاً لعلمهم أنه كلام لا طائل منه. لا يعلمون أن الناس أذكى مما يعتقدون. هم يصدّرون منتجات دماغ فارغ الى جمهور ينتظرعلى الأرجح كلاماً له معنى مرتبط بالقضية، كلاماً يفيد في العمل والسلوك. يعتقد أصحاب الكلامولوجيا أنهم قادة، بينما المكان الأنسب لهم أن يكونوا في مؤخرة السامعين. ولا بأس إن لم يسمعوا لأن ذلك لن يضيف شيئاً لأفكارهم المتيبسة.
أوصافهم متيبسة. لا يقدرون أن يضيفوا بعض الجدية (الكاذبة) الى كلامهم إلا بالتجهّم. نكاتهم سمجة لا تفرح، لأن أفكارهم غير مفرحة وغير جدية. كل كلامهم هو من سقط المتاع. أحياناً قليلة تصيب الواحد منهم نوبة ضمير فينعقد لسانه. يحاول أن يبرر ذلك بأن نشوة الانفعال أدت الى ذلك. انفعال كاذب. لا شيء من العاطفة في كلامهم. ولا شيء من التعاطف مع الجماهير السامعة.
بعضهم يكتفي بالكتابة. يكتبون مطولات حول مواضيع تافهة. يحاولون رفعها الى المستوى الوطني.
والحديث عن الكلامولوجيا يطول. صارت علماً بمستوى التنجيم.