ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
في لبنان، كما في كل أنحاء العالم، نظام رأسمالي يسيطر على الأرض والناس، ويعشعش في كل دماغ. هو نظام استلاب معنوي ومادي. يسلب الإنسان المعنى فيصير الى التفكير في الموت، وهذا يتودد الى الدين. يسلب الإنسان ثمرة شغله فيلجأ الى الدين أيضاً. الله في السماء والرأسمال على الأرض. مندوبو الله، من طغاة ورجال الدين، متحالفون مع ممثلي الرأسمال على الأرض؛ وأفضل حليف للإثنين في السلطة هو الطغيان، سواء جاء عن طريق حكم عسكري أو بانتخابات نيابية ديمقراطية. في جميع الحالات، يجب أن يكون للطغيان انعكاس في الوعي. وهذا ما يفعله مثقفو السلطة، وهو بلورة هذا الانعكاس.
ليس صدفة أن الدين والدَيْن جذرهما واحد. الحروف واحدة في اللفظين. والفرق حركة الخفض على الياء والدال في واحد، والسكون على الياء في الآخر. البشر مدينون لمملكة السماء كما هم مدينون لمملكة الأرض. في كل منهما خضوع لما هو خارج النفس. الروح المعذبة تدخل جهنم قبل أن تصل الى السماء حيث تقع إما الى الجنة أو النار، بعد الحساب العسير. نحاسب على الأرض ثم نحاسب في السماء. نقضي حياتنا ونحن نخضع للحساب. الذي يحاسِب هو الذي يسيطر، والسيطرة أساس كل نظام سياسي في كل نمط من أنماط الإنتاج أو كل نظام اجتماعي منذ بدء الخليقة حتى الآن.
الثورات ومضات انتفاض على نظام الأرض ونظام الكون. لكن الحساب عسير. ثورة تشرين الأول عام 2019 في لبنان كان يلزمها حساب. سلطة الحساب قررت العقوبة، فكان انفجار المرفأ وتدمير جزء من العاصمة عقاباً. أمُعّن في العقاب، فكان نصيب العاصمة، كما في كل لبنان، أزمة تلو الأخرى. كل منها طالت قطاعاً من ضروريات الحياة: خبز، وقود، دواء، ايداعات مالية مصادرة (ولا تدري أو تدري المصارف أن ما تفعله من سرقة لأموال الناس، بل مدخراتهم، هو تنفيذ لقرار السلطة بإفقار الناس). على الناس أن يقفوا في طوابير الذل والمهانة. يبرهنون في ذلك على انتظامهم في نظام الخضوع والإخضاع. على الناس ولو جاعوا أن يخضعوا للحساب وللعقاب. مافيا السلطة لا تسامح. النشوز بدعة محرمة. العقاب على الأرض قبل الموت. الحياة تتحوّل الى جحيم يقرره أسياد الأرض. جهنم مؤجلة لما بعد الموت. سراط الإستقامة ملء الكون. ليست هناك طريق الى جهنم. لا ضرورة لها. هي الحياة على الأرض.
في الظاهر تختلف أشكال العقاب من جزء من الأرض الى آخر. في فلسطين، تشن المافيا التي تُسمى إسرائيل حرباً تلو الأخرى في زمن متقطع ضد عرب فلسطين. ونبحث في الاستراتيجية الدولية عن الأسباب في كل حرب تشنها إسرائيل، دون أن نقر ونعترف أن إسرائيل وجودها هو العقاب. على كل العرب أن يمتثلوا. يُفرض على العرب الانتظام، وأن يقفوا في طوابير التطبيع. والتطبيع بدأ مع بدعة حل الدولتين، الذي لا يعرف بنتيجته الفلسطينيون، ولا العرب جملة، هل اعترفوا بدولة إسرائيل أم لا. إذ ليس لهم إرادة. المهم أن يفعلوا ما لا يفهمون ولا يريدون. يصير الكلام عن الحقوق، حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه التي تسيطر عليها إسرائيل، مهزلة. بالأحرى كوميديا في قلب تراجيديا الوجود العربي من المحيط الى المحيط. ونتباهى أننا صامدون وأننا نقاوم. هل نقاوم أمراً غير موجود، ولا نعترف به؟ لو يعرف الملاحدة أن إنكارهم لله اعتراف به. هم فقط في حالة إنكار.الذي تلحده في القبر موجود. الفرق أن القبر مخصص لنا لا لهم.
تخضع البشرية لعقوبة الوباء. طوابير التلقيح تأتي إليك. تكتشف بعد حين أنك يمكن أن تصاب بعد اللقاح الأول أو الثاني أو الثالث، أو حتى الرابع. شركات الأدوية تريد إنتاج لقاحات دون حدود، لا إنتاج دواء. في اللقاحات بلا حدود ربح أكبر. يبقى على كل كائن بشري كم الأفواه والتباعد عن الآخر، والانعزال، حيث لا يُرى المرء ولا يشعر أحد بوجوده.
أما الغلاء فهو سمة العصر الأُخرى. ولا فرق أن تكون الألف الثانية مضمومة أو مخفوضة. يعيش معظم البشر على أجور أو مداخيل ثابتة أو ترتفع قليلاً عبر عقود من السنين. هذا بالنسبة لمن لديهم وظيفة فيكون لهم دخل. وترتفع الأسعار بأضعاف أضعاف المداخيل. هذا رغم أن مدخلات الإنتاج أثمانها ترتبط بالعمل الثابت أجره. الفرق بين أسعار المشتريات بالأمس أو قبل سنة وبينها اليوم هو ربح يجنيه أصحاب الرأسمال مدعومين بالسلطة السياسية. أرباب المال وأرباب السياسة فريق واحد في وجه البشرية. النتيجة ثروات هائلة تبهر الأبصار. وهل بقي لدينا من بصر ونحن جميعاً مدمنون على إلتقاط ما نعرف من تلفزيونات ترينا مذيعاً على الشاشة، وتحته شريط أخبار فوق شريط آخر فوق شريط آخر. يشرد ذهن المشاهد بين الصورة والشريط والشريط والشريط. التعمية هي أن يشرد الذهن، فيصاب العقل بجهل ناتج عن التيهان عن المعرفة. يجب أن تقتصر معرفة ما يحدث على أصحاب الشأن وذوو القرار، وهم يُختصرون في سلطة واحدة. تباً للذين قالوا بوحدة الوجود أو الفيض او الحلول. الوجود مبعثر، والفيض مبني على التعمية، والحلول هي حلول فقر في كل مكان، والإفقار سياسة النظام العالمي.
لا بدّ من قراءة رسالة الغفران مرة أخرى. تذكرنا بالكوميديا الإلهية. أبو العلاء أرسل ابن القارح الى السماء، ويذهب دانتي الى الجحيم والفردوس والمطهر. الفرق أن رسالة الغفران دقت جرس الإنذار لنهاية زهو ثقافتنا، والكوميديا الإلهية دقت جرس الأفراح لنهوض ثقافة أخرى.
عالم قاعدته الأساسية ليس فقط استغلال العامة بل احتقارها. هي العامة التي تصير في وقت من الأوقات وجودا لا لزوم له. المال والسلاح يفعلان فعلهما. تشن الحروب بين أطراف لم يعتدِ أحدهما على الأخرى، بل هي شبهة العداء والاعتداء ما يسبب الحرب. المال والسلاح يحتاجان الى الحرب لزيادة الثروات عند أصحابهما. أما العامة من البشر، والمحتقرون من الطبقات العليا، وهم الأكثرية، فلا حاجة بهم. هم وقود الحرب. البناء بعد الحرب، إذا بقي الناس ولم يموتوا، مصدر آخر لثروات المقاولين وأرباب المال. تخالف الامبراطورية التزاماتها المعقودة منذ عقود. وتخترق بيلوسي الهدوء بين الصين وتايوان دون سابق إنذار من أي من الأطراف الحقيقية. حقيقة النظام العالمي هي هناك، حيث الهدوء والاستقرار يلزم نشوب الحرب. أزمة اقتصادية عالمية، دول كبرى تعاني من أزمات مالية في موازنات الدولة وغيرها. لا تستطيع فرض التوازن على انفاقها، فتثير الحرب من أجل بيع السلاح واستخدامه لدى الدول الأخرى المشبعة باوهام الخطر عليها.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي زال الخطر الذي كان يهدد النظام العالمي. صنعت الامبراطورية عدوها بتوسيع حلف الأطلسي. مع السقوط السوفياتي كان يجب حل حلف الأطلسي، إذ صارت روسيا جزءاً من المنظومة الرأسمالية. صنعت الامبراطورية العدو لتبرير الحرب. نخشى في منطقتنا، وخاصة في لبنان، أن تصطنع الطوائف حرباً لتبرير وجودها الذي لا لزوم له إلا من أجل الفتنة. ممكن أن تكون الأديان في حالة ازدهار دون طائفية، لكن الإصرار عليها لدى الطبقة العليا لا يمكن تفسيره إلا بانها لها بالنوايا السيئة تجاه شعبها. وأسوأ النوايا هي نية الحرب. نعيش حرباً متقطعة، تتخللها فترات حرب باردة. فالحرب مستمرة. عندما لا تكون الحرب أمراً واقعاً، نعيش تحت وطأة توقعها، ويزداد استهلاك المسكنات أضعافاً مضاعفة.
عالم يسوده الجهل رغم تقدم المعرفة. المعرفة يجب أن تُحصر في نخبة تصادرها الطبقة العليا في جامعات مرتفعة الأقساط لمنع العامة من ولوجها، وفي مراكز أبحاث تخصها وتكرسها لأبحاث تخدم شؤون الحرب والسلاح والدواء، وكل ما يفيد صنعة الحرب. في الفترة الماضية، منذ بداية النيوليبرالية، كانت صنعة الثروات الهم الأول لها. تحول الأمر الآن. تقدمت صنعة الحرب من أجل مزيد من المال. العدو المصطنع يجب أن لا يمتلك مستويات من تكنولوجيا الحرب توازي ما لدى الامبراطورية، كي يبقى احتمال هزيمة الأعداء المصطنعين هو الاحتمال الأكبر. مركز الامبراطورية الأميركي تحميه محيطات تعزله عن بقية العالم. الحرب التي تحدث في قارات أخرى لا تصيبه مباشرة. جيوشه البرية والبحرية والجوية في كل أنحاء العالم. التهديد لبقاء العالم مستمر. عندما يتدخل بجيوش برية ذات أعداد كبيرة تنشأ اعتراضات في الداخل الأميركي، كما حصل في فيتنام. ينسحب الأميركيون وتعلن الهزيمة. الآن يشعلون حروباً في قارات أخرى، ويحافظون على احتمال التدخل. يقاتل الآخرون، ويموت جنود الآخرين، والامبراطورية تزودهم بالمال والسلاح. على الآخرين أن يبقوا ضعفاء، وأن يبقى احتمال تدخل الامبراطورية قائماً.
لا يعرف معارضو النظام العالمي الرأسمالي كيفية ابتداع وسائل وأساليب لتغيير هذا النظام. خطر الرأسمالية العالمية يزداد. هناك شعور عام بانها لن تتزعزع وتزول دون أن تأخذ البشرية معها الى الهاوية والجحيم المحتوم.
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!