ميتافيزيقيا الفساد
مساكين فرسان الحملة على الفساد. موضة دارجة. انضم الى الحملة معظم المرشحين النيابيين. وهم أكثر بؤساً، ليس لديهم الكثير مما يمكن قوله في السياسة، فيعلنون المشاركة في الحملة على الفساد. الكلامولوجيا كالعادة، ألفاظ لا تكلف شيئاً، لكن تحديد معناها يتطلّب معرفة وعلماً يفتقرون إليهما. وهم يفتقرون أيضاً الى البرنامج السياسي فلا يستطيعون مناقشة القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. طبيعة التحالفات التي فرضها القانون الانتخابي، واضطرار كل فريق أو حزب سياسي الى محالفة فريق في منطقة ومعاداته في منطقة أخرى يمنع من الخوض في القضايا السياسية، إذ هم لا يتفقون على أي قضية، هذا إذا كان لديهم قضية.
المسألة أشبه بالمعالجة النفسية. يكفي أن توجه التهمة للآخرين “بالفساد” لتصبح أنت صالحاً. صلاحك يأتي من غيرك. من النظر الى الغير، لا من نفسك، ولا من النظر الى نفسك. لا يستطيعون أن يعرضوا أنفسهم، ويخجلون من استعراضها، فيكثرون الحديث عن الغير ومثالبه. يمعنون في الساديّة، فيوجهون التهمة الكبرى إلى الغير كخنجر في قلبه. كل ذلك ممزوج ببعض الدونكيشوتية (حرب الفرسان على الطواحين)، إذ لا يوجهون تهمة محددة. لا يستطيعون الانتقال من المقولة المجردة الى العيان؛ لا يستطيعون الإشارة بإصبعهم الى صفقة أو شخص من أجل الإحالة الى المحكمة والخضوع لحكم القضاء.
تحديد معنى التعبير يتطلّب معرفة، ربما افتقروا إليها. يستعملون التعبير بكثرة لكنهم لا يشرحون، أو لا يستطيعون الشرح. هل هو تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة؟ وكل انتماء لحزب أو فريق سياسي فيه شيء من ذلك. هل هو الهدر؟ ما من آلة تستخدم النفط والكهرباء إلا وفيها خسارة بعض الطاقة بسبب ما يُسمى “الهدر التقني”. إذ تضطر الآلة الى الاكتفاء ببعض الطاقة المتاحة وتحويلها الى عمل مفيد مقابل التضحية بالجزء الأكبر منها. هل الفساد تلكؤ في تنفيذ المشاريع؟ وهذا أمر يتطلّب معرفة تقنية ربما غابت عمن يتكلم عنها. هل الفساد سؤ الإدارة؟ وهذا أمر يتطلّب جهازاً بيروقراطياً يتمتع بمستوى من الكفاءة، وتستعين بهم طبقة سياسية (أصحاب القرار السياسي لا يعرفون معنى الكفاءة)؛ أو هم بالأحرى يكرهون أصحاب الكفاءة ويحتقرون أصحابها لأنهم يملكون ما لا تستحقه الطبقة السياسية. أو ان الفساد تهمة أخلاقية؟ وهم مضطرون بعد أيام الى الجلوس معا على نفس المقعد، والتلوّث ببعض الدنس الذي يجلبونه معهم. أو ان تهمة الفساد سياسية؟ والسياسة تحولت الي نوع من المناورة والكذب بحيث يتساوى الجميع في ممارستها. أو ان الفساد مشكلة اجتماعية؟ فيصير المجتمع مصاباً بها.
يصرون على إبقاء الفساد مقولة عامة تجريدية ميتافيزيقية بعيدة المنال إلا لمن تمتع بمواهب معرفية وأخلاقية خارقة. صار الفساد بنظرهم علة العلل. هو ما يمنع تطوّر الدولة وتقدم المجتمع. يطرحون المسألة وكأنها الحل السحري لكل مآسينا، وفي نفس الوقت يجعلونها قابعة في سماء سابعة بحيث يصعب الوصول إليها. لا يخلو حديث في صالة أو مقهى أو على الشاشات الكبرى والصغرى من الحديث عن الفساد. ولا أحد يشير الى مكمن الفساد. هو في كل مكان وليس في مكان. هو في كل نفس وليس في نفس. هو الداء. المشكلة معرفية، لكنها تتطوّر لتصير نفسية عند أصحاب الحملة. هم موتورون بها، ولا يعرفون ما هي.
المسألة في السياسة أكثر فداحة. يختلف اللبنانيون على قضايا كبرى تستحق النقاش والحوار والعناء في سبيل إيجاد الحلول والمخارج. لكن الأضداد مضطرون الى تحالفات لا يريدونها. كسب الانتخابات النيابية يفرض عليهم عدم الخوض في القضايا الكبرى. لا يجدون لديهم إلا تهمة الفساد يقذفونها ضد الغير. عقل مستريح مستسلم. لا يكلفون أنفسهم المشقة للبحث عن طريقة للنقاش. الاستفزاز ضروري للنقاش، لكنه ممنوع في الحملة الانتخابية. قانون الانتخابات وأساليب تشكيل اللوائح المغلقة يحتمان عليهم الانضواء في بلاطات أباطرة الطوائف وسلوك مسلك خصيان البلاطات.
ثم جاءنا فرسان المجتمع المدني، الذين انضم إليهم من خارجهم مناضلون سابقون لا شائبة في سلوكهم. يحملون الكثير من النوايا الطيبة، أو الشعارات الجذابة؛ لكن الجعبة تخلو من عدة فكرية ضرورية. يصرخون: أنتم “طلعت ريحيتكن”؛ نحن “بدنا نحاسب”. “أنتم” هنا انتقائية جداً . “نحن” عامة جداً. يكفي تصدي بعض القباضايات ليختلط “أنتم” بـ”نحن”. وإذ بنا نجد هؤلاء وأولئك في لوائح واحدة؛ هذا إذا وافق الأباطرة. بعض الأباطرة يغذي بالمال لوائح معارضة. الإبداع في فن الانتخابات ووراء الكواليس لا حد له. إبداع لا يفيد فيه الإيضاح. لم يعد وضوح الرؤية ممكناً. التعمية سيدة الموقف. والتعمية أهم سلاح عند نظام رأسمالي واجهته طبقة رأسمالية قليلة العدد، كثيرة الموارد، شديدة الحرص على ما تملك. قليل من الضرائب من أجل سلسلة الرتب والرواتب أو من أجل الخزينة لا يوافقون عليها. لم يناقش أحد مقولة أن البلد مفلس. في البلد مال كثير: في المصارف مثلاً. معظم البلد فقراء لا يملكون شيئاً، أو يملكون النزر اليسير. الخزينة مفلسة. كل خزينة في كل دولة في العالم لها موازنة سنوية، تنضب في آخر العام. كل خزينة مفلسة. الدولة مديونة. هذا أساس النظام الرأسمالي الذي يعمّ العالم. البلد مفلس بمعنى عدم القدرة على فرض الضرائب، وتوزيع الأعباء، ووضع المصاريف في ما يستحقها. هذا إفلاس سياسي؛ إفلاس في السياسة وفي عملية أخذ القرار. القرار تتخذه الطبقة السياسية بمختلف مراتبها. هنا الإفلاس الحقيقي. وهو إفلاس سياسي؛ إفلاس في القرار والمعرفة.
يقال عن الميتافيزيقيا أنها “ما وراء الطبيعة”. ويقال أنها “ما بعد الطبيعة”. جعلناها أبعد من أن تصل إليها يدٌ أو يستوعبها عقل. جعلنا الفساد مقولة ميتافيزيقية كي تكون جزءاً من منظومة فوق أفهامنا.
تبقى في أوهامنا لأننا اعتبرنا السياسة أوهاماً لا ممارسة لما يمكن أن يكون، ولما يمكن أن يقرره البشر.